news-details

عن البنوك ودورها في المنظومة  الرأسمالية

البنوك ودورها في الاقتصاد ووظيفتها من أمتع المواضيع للقراءة وأندرها كذلك بسبب قلة المصادر التي تناقش فكرتها ودورها بشكلٍ مستقل مقارنةً بشملها كجزءٍ من الاقتصاد. وهذا أمر مفهومٌ ضمنًا كون مناقشة الجزء بدون مناقشة الكل تجعل الفكرة مشوشةً ولا تغطي سوى جانبٍ واحدٍ، وفي كل الحالات هذا لا يكفي. 

أوّل بنك في التّاريخ وجد في العالم القديم، ولكن لا يبدو واضحًا هل بدأ نظام المصارف في بابل أم روما أم اليونان (1). ولكن شبه مؤكد وجود نظام مصرفي في هذه الممالك القديمة وهدفه الرئيسي كان مساعدة مالكي العبيد، حيث كان مالك العبيد يرهن عبيده لدى البنك مقابل سلفة البنك، يشغل العبيد في مشاريع مختلفة ويأخذ أجرتهم كفائدة على السلفة، وعندما تعيد النقود يعيدوا عبيدك لك. عن تاريخ المصارف في بابل مثلا يحدثنا علي شحيلات وعبد العزيز إلياس الحمداني عن وجود أربعة أنواع مصارف في تلك الفترة:

1. مصارف معبديّة

2. مصارف للعائلة المالكة

3. مصارف الرهون

4. المصارف الخاصّة

نقرأ: "يبدو أن المصارف وأنظمتها ظهرت في نهاية القرن السّابع قبل الميلاد وغايتها لتحل محل المعابد في إدارة الاقتصاد العام للبلد بعد أن تعقدت موارده ومخارجه، وعندما عجزت هذه المعابد عن مواكبة التّطور الّذي حدث وملاحقة الاحتياجات المستجدة استبدلت بالمصارف في المعابد... كانت أولى أنواع هذه المصارف هي مصارف الرهون والّتي كانت بدون فوائد وذلك لأن المادة المرهونة كانت تستخدم من قبل المصرف طيلة مدة بقائها تابعة للمصرف (مدة الرهن)، وكان المصرف يعادل الفوائد المرجوة من القرض، وهو إما أن تكون حقل زراعي أو عبد، وفي حالة العجز عن الوفاء بالدّين، تنتقل ملكيّة المادة المرهونة إلى صاحب القرض"(2)

ونضيف من ويل ديورانت حول النّظام المتبع في بابل في موسوعته المسماة "قصّة الحضارة": "وكان العبيد وكلّ ما ملكت يداه ملكًا لسيده: من حقه أن يبيعه أو يرهنه وفاءً لدين، ومن حقه أن يقتله إذا ظنّ أن موته أعود عليه بالفائدة من حياته. وإذا أبقى العبد فإنّ القانون لا يبيح لأحد ويحميه وكانت تقدر جائزة لمن يقبض عليه"(3)

نقول إنّ وظيفة البنوك هي تقديم القروض وقبول الودائع وتقديم الكفالات في عمليات الاستيراد وتوظيف الكتلة الماليّة الزائدة في مشاريع اقتصاديّة، أيّ أنها سلطة ماليّة في ظل نمط انتاجٍ معين. أمّا البنوك الحديثة الّتي نعرفها اليوم فقد ظهرت في بداية القرن السّابع عشر، وأخذت دورًا جديدًا مع صعود الرأسمالية، فإنّ وظيفتهم هي لعب دور مركزي في عالم التّجارة ككل ما يسبب صدامًا بينهم وبين الرأسماليين في بعض الأحيان نظرًا للوظيفة المزدوجة للمصارف والرأسمال المصرفي رغم الدور التوسطي بين الدائن والمدين الّذي يلعبه المصرف حيث يشكل المصرف قاعدة النّقد التّجاري عن طريق نظام الائتمان القائمة علة الكمبيالات. يقول ماركس:

"إنّ وظيفة النّقد هي الدفع، تنشأ عن التّداول السلعي البسيط، كما تنشأ معها علاقة الدائن والمدين، بين منتجي السّلع و تجارها. ومع تطور التّجارة وتطور نمط الانتاج الرأسمالي، فإنّ القاعدة الطّبيعيّة لنظام الائتمان تتسع وتتحسن. وعلى العموم، فإنّ النّقد يقوم هنا بوظيفة وسيلة دفع لا غير. أي أنّ السّلعة لا تباع مقابل نقد، بل بموجب تعهد خطي بالدفع في أجلٍ معين. ويمكن أن ندرج تعهدات الدّفع هذه تحت مقولة عامة هي: الكمبيالات(4).

لا حاجة لشرح كل ما كتبه ماركس حول المصارف ودورها في حركة رأس المال النقديّ ولكن من المهم توضيح الوظيفة العامّة للبنوك كما هي مشروحة في رأس المال) يمضي ماركس ليشرح الوظيفة المزدوجة للبنوك:

"إن أعمال المصرفي تكمن، من هذه الوجهة، في تركيز رأس المال النقدي القابل للإقراض بين يديه بمقادير ضخمة، بحيث أن المصرفيين يقفون، كممثلين لسائر مقرضي النّقد، في مواجهة الرأسماليين الصّناعيين والتّجاريين عوضًا عن مقرض النّقد المفرد إنهم يصبحون المدراء العامين لرأس المال النقدي. ومن جهة أخرى، فإنهم يركزون المقترضين (بفتح الميم) لأنهم يقترضون من أجل عالم التّجارة بأسره. إن المصرف يمثل، من جهة، تمركز رأس المال النّقدي، تمركز المقرضين، ويمثل من جهة أخرى تمركز المقترضين. وينشأ ربحه، بوجه عام، من أنّه يقترض بفائدةٍ أدنى ممّا يقرض بها" (5)

مصطلح مهم آخر هو "رأس المال الوهمي" وهو النقيض "لرأس المال الحقيقي" المستثمر في الانتاج المادي وأجور العمال والمقصود به هو رأس المال ويتكوّن رأس المال الوهميّ من الأسهم والأوراق الماليّة، والودائع الماديّة في البنك. ويعطي ماركس مثالًا في خلق رأس مال وهمي سوق الهند الشّرقية-الصّينيّة، كظاهرة مرافقة للرأسماليّة. 

أمّا عن المصارف في مرحلة الامبرياليّة فالتغيّر النوعي هو اندماج رأس المال البنكي ورأس المال الصناعي، وتكوين أرستقراطيّة مالية على أساس رأس المال التّمويلي كما يشرح لينين:

"مع تطور الشّؤون البنكيّة وتمركزها في مؤسسات قليلة العدد، تتحوّل البنوك من وسطاء متواضعين إلى احتكارات شديدة الحول والطول تتصرف بمعظم الرأسمال النقدي العائد لمجموع الرأسماليين وصغار أصحاب الأعمال وكذلك بالقسم الأكبر من وسائل الإنتاج ومصادر الخامات في بلاد معينة أو في جملة من البلدان. وتحول الوسطاء الكثيرين المتواضعين إلى حفنة من الاحتكاريين هو وجه أساسي من وجوه صيرورة الرأسمالية إلى امبريالية رأسمالية"(6)

بشكلٍ بديهيّ يستطيع كل قارئ معرفة أنّ البنوك تتعدد وظائفها وتنقسم إلى بنوك خاصة وتجاريّة وبنوك استثمارات ويوجد في كل دولة بنك مركزي مسؤول عن تنظيم المعاملات المالية، حيث لا يصعب فهم دور ووظيفة كل بنك وفهم وظيفته من اسمه. عن البنوك الحديثة في كتب الاقتصاد الحديث نجد إشارات ومصطلحات مثل "ديكتاتورية المصارف" و"حكم البنوك" وقصص عديدة عن ممارسات تعسفيّة للبنوك، يشرحها بعض الاقتصاديين، هانس بيترمارتن ومارك فلورباييه واورليش شيفر، ولكن معظم هذه الأطروحات والكتابات يغيب عنها وضع البنك في سياقه وغياب واضح للمنهج وعند التطرق للبنوك ومن تمثل، لا تعدو هذه الأطروحات كونها مجرد سرد لوقائع تبيّن البنوك. في هذا المضمار سمير أمين هو من يشبع شهيتي، فهو يضع البنوك في سياقه الصحيح ويتجاوز الطرح الكلاسيكي. أهم مميزات سمير أمين أنه لم يكتفِ في يومٍ من الأيام بما كتبه ماركس، وفي كتاباته المختلفة نراه ساخطًا على الماركسيين الذين يكتفون بالتوسع في شرح ماركس بدل الانطلاق من حيث انتهى كارل ماركس. ما تجاوزه (أو حاول على الأقل تجاوزه) هو ما شرحناه أعلاه؛ أي الصّدام بين فئتين طبقيتين المقرضين والمقترضين، الّتي أشار إليها كارل ماركس. وحاول سمير أمين التّوسع في نظرية البنوك والرأس مال المالي والأمولة، ليخرج بعدة استنتاجات، أولها أنّ البنوك على اختلاف وظائفها ليست ساحة نزال بين فئتين من الرأسماليّة بل تحصر المنافسة بين رأسماليين مستقلين، والبنوك مثلها مثل الدّولة تمثل المصالح الجماعية للطبقة البرجوازيّة نفسها.

نقتبس من سمير أمين: "نحن لا نرى فئتين رأسماليتين تتقابلان في سوق الاقراض والاقتراض، وما نراه هو من ناحية من يطلبون المال-وهم الرأسماليون المنتجون بصفةٍ عامة، وطلبهم يتوقف على مدى عدم كفاية رأسمالهم الخاص - ومن النّاحية الأخرى مؤسسات تستجيب لذلك الطلب. فماذا تمثل هذه المؤسسات؟ إنها لا تمثل فئةً خاصّةً من الرأسماليين أي رجال البنوك. فحتى عندما تكون البنوك مؤسسةً خاصّةً، وحتى عندما يكون البنك المركزيّ الّذي تخضع له، لأنه المقرض النهائي مؤسسة خاصة هو الآخر، فإنّ سياسات الدّولة تتدّخل دائمًا لتنظيم عرض النقود (حتى في القرن التّاسع عشر). والنّظام النّقدي في ظلّ الرأسماليّة كان دائمًا مركزيًا نسبيًا. وهذا يعني أنّ البنك، مثله مثل الدّولة، يمثل دائمًا المصلحة الجماعيّة للطبقة البرجوازية، "والمائتي عائلة " الّتي تملك أغلبية أسهم بنك فرنسا ليست مجرد رأسماليين مقرضي بنوك، بل هي تمثّل من خلال هذا البنك نواة البرجوازية نفسها. وهكذا لا نرى هذا التّعارض بين فئتين من الرأسماليين وإنما بين الرأسماليين كأفراد وهم يتنافسون فيما بينهم (أي ظاهرة تفتّت رأس المال) وبين الطبقة الرأسماليّة المنظمة جماعيًا. والدولة والمؤسسات الماليّة لا تمثل مصالح خاصّة في مقابلة مصالح خاصّة أخرى، وإنما المصالح الجماعيّة للطبقة، أيّ الوسيلة لتنظيم المواجهة بين المصالح المنفصلة.(7)

بعد تعرضه لنظريّة ماركس "رأس المال الوهمي" كجزءٍ من نمط الانتاج الرأسمالي ووسيلة لإنقاذ رأس المال الفائض، يمضي سمير أمين متأثرًا بنظريات سويزي وباران وماجدوف ليقول: "وهكذا فالأمولة لا توفر فقط المخرج الممكن الوحيد لرأس المال الفائض، وإنما كذلك الحافز الوحيد للنمو البطيء الغالب في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان منذ السّبعينات. وكل ما قد يحدث استبعاد الأمولة هو مزيد من إضعاف نمو الاقتصاد الحقيقي. وفي الوقت نفسه تزيد هذه الأمولة الحتميّة من هشاشة التّوازن العالمي وتؤدي لحدوث "أزمات مالية" تنتقل بدورها للاقتصاد الحقيقي. والرأسماليّة الاحتكارية بالضرورة مأمولة وإعادة انتاجها يؤدي لحدوث "فقاعة"، والفقاعة تنفجر عند حدوث توقف للنمو "غير المحدود" لأي سبب، ولا يخرج النّظام من هذه الأزمة الماليّة إلّا ببناء فقاعةٍ جديدةٍ وتنميّتها هي الأخرى حتى الانفجار". (8)

وعن سعر الفائدة ودورها في الدولة الرأسمالية:  "فعندما تتدّخل الدّولة لترفع معدل الفائدة فهي بذلك تتدخل بفاعلية في الاقتصاد لمصلحة الطّبقة الرأسماليّة ككلّ. ورفع الفائدة يزيد من حدّة الأزمة ويزيد من عمليات الإفلاس، ولكنه يزيد بذلك من تركيز رأس المال وهو الشّرط لتحديث جهاز الانتاج، والقيام بالتّحولات الضّرورية لذلك. وبالعكس فخفض معدل الفائدة يزيد من معدل النّمو ويمكن الاقتصاد المعني من تحقيق الاستفادة القصوى من ارتفاع قدرته التّنافسية على المستوى الخارجي" (9)

يجب ذكر جزئية قد تكون بسيطة، وهي لجوء بعض الرأسماليين المستقلين غير الراضين على البنوك وعملها إلى البورصة، وتوفير ما راكموه من أموالٍ في البورصة كوسيلة ضغط على البنوك، هؤلاء الرأسماليون الذين يلجؤون إلى البنوك بشكلٍ مستقل في أغلب الحالات يكوّنون الحلقة الأضعف في الطبقة البرجوازيّة. ولجوئهم إلى البورصة يشكّل فرصة للضغط على الطّبقة الحاكمة من أجل تغيير سياستها الماليّة.

على ضوء كلّ ما ذكرناه أعلاه، التّعرض لواقع المجتمع العربيّ والبنوك الإسرائيليّة ودورها في عرقلة تطّور المجتمع العربيّ. في بداية تكوين الرأسماليّة يبدأ الرأسماليون كمنتجين صغار ومتوسطين (لا يشمل المصالح الخدماتيّة) تحتاج الرأسمالية ملكيات (منتجة) صغيرة في مرحلة نموّها والّتي تنمو لاحقًا لتؤسس مشاريع إنتاجية ضخمة، المجتمع العربي في إسرائيل يتشكّل من 95% مصالح صغيرة أغلبيتها الساحقة غير منتجة ولا تعدو كونها حرفة أو خدمة، والإنتاج المحلي يكاد لا يذكر. كوقائع نذكر أنّ نسبة الرهون العقارية للعرب في إسرائيل هي فقط 2% مقابل 98% لليهود ومتوسط الفائدة الّتي يدفعها العرب أعلى بنسبة قليلة هي 0,3% (10) فوجود سياسة موجهة ضد العرب أمر مفروغ منه ونعلمه علم اليقين. ولكن الأسباب الأخرى، أولها أنّ رأس المال "الوهمي" الّذي كدسه البنك يبحث عن أرباحٍ سريعةٍ وهي غير متوفرةٍ في الوسط العربي، والسّبب الآخر هو كون اقتصاد إسرائيل اقتصادٌ احتكاري، وعلى ضوء ما شرحه سمير أمين نستطيع أن نقول إنّ خفض سعر الفائدة ومساعدة المجتمع العربي على التّحول لمجتمع انتاجي من شأنه أن يشكّل مصدر قلقٍ للمحتكرين ويؤثر على تمركز رأس المال، وهذا ما لا تريده الطّبقة الحاكمة في أيّ مكان في العالم، ولا سيما في حالة اسرائيل، لأنّه من شأنه أن يزعزع سلطتها ويفتح أبوابًا أوسع.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب