news-details

عن التلاعب بمقولة "لا فرق بين الأحزاب الصهيونية" لتحقيق أغراض انتهازيّة| هشام نفاع

اعتاد النقاش السياسي مقولة "كلّ الأحزاب الصهيونية مثل بعضها ولا اختلاف بينها"، على سبيل تعزيز وتسويغ الموقف الرافض للتعامل معها جميعًا. وهو موقف سندَ قرارات مثل رفض التوصية على أي حزب صهيوني، أو رفض توقيع فائض أصوات معه، وحتى رفض ضم اسمه الى نشاط سياسي كفاحي، حتى لو أعلن رغبته وقبوله بطروحاته كاملة.

هذه الأيام تعرّضت تلك المقولة الى طفرة، فبتنا نسمع أحدهم يقول "كلّ الأحزاب الصهيونية مثل بعضها"، ولكن على سبيل تبرير إمكانية دعم أية حكومة يمين قادمة. من الناحية الصوَريّة سيزعم هذا الأخير أنه عمليا يورد "حقيقة" غير جديدة ويعرفها الناس بمعظمهم. وفي النص المُضمر الضمني يبثّ للجمهور ما مفاده: أنا أقدّم نهجًا جديدًا، وأجري تطويرًا ثوريًا لمفهوم وممارسة العمل السياسي.
ولكن، لا. لا بالمرة، هذا كلام مخادع. فمن اعتبروا الأحزاب الصهيونية متشابهة ولا للتعامل معها كلها، طرحوا فعلا موقفًا راديكاليًا، أي جذريًا باللغة العربية، واعتبروا أن الأحزاب الصهيونية جذرها واحد، وهويتها الأساسية، الهوية الصهيونية، تجعل الفروق بينها ثانوية في القضيّة المركزية، القضية الفلسطينية، لأن الصهيونية نفسها هي نفي مسبق ومطلق للفلسطيني كمجموع صاحب حق متكافئ في السيادة والخير العام في هذه البلاد.

بعض الأحزاب لم توافق على مقولة "كلّ الأحزاب الصهيونية مثل بعضها"، ورأت أن هناك فرقًا بين أحزاب تقبل بتسوية سياسية (ما) مع الشعب العربي الفلسطيني، وتعترف به مجموعا سياسيا سياديا، حتى لو بما لا يرتقي الى الحد الأدنى لشروط العدالة النسبية، وبين أحزاب "أرض إسرائيل الكبرى" التي ترفض بالمطلق الاعتراف بالفلسطيني سياسيًا. ولكن حتى تلك الأحزاب امتنعت في الممارسة عن تجاوز سقف معيّن من التعاون مع الأحزاب الصهيونية من الفئة الأولى: لا فائض أصوات معها ولا دخول في ائتلاف معها، وأقصى ما تم التوصل اليه هو الدعم من الخارج بشروط وأثمان، أشهرها "الكتلة المانعة" في فترة اسحق رابين قبل أن يغتاله ناشط من فئة الأحزاب الصهيونية الثانية.

هذا الحذر الشديد في التعامل، حتى مع أحزاب صهيونية تطوّرت رؤيتها وممارستها السياسية، (بفضل النضال المثابر والباسل للشعب الفلسطيني وتمسكه بحقوقه الوطنية)، هو حذر جعل تلك الأحزاب من حيث الممارسة في موقع شديد النقديّة والراديكالية، حتى لو اعتقدت وجاهرت نظريًا بأنها تعارض مقولة "كلّ الأحزاب الصهيونية مثل بعضها".

ولكن شتّان ما بين موقف كهذا، وبين الطفرة الجديدة التي حوّلت مقولة "كلّ الأحزاب الصهيونية مثل بعضها" الى مبرّر انتهازي لفتح باب التعامل حتى مع أحزاب ترفض عقائديًا-دينيًا-وقوميًا الاعتراف بالشعب العربي الفلسطيني ولا بحقوقه ولا بوجوده المتكافئ كشعب في وطنه. وبُعدان ما بين مَن استخدم التشخيص لتشديد معاييره والتمسّك بحقوق شعبه، وبين من يحاول تطويع التشخيص نفسه لتبرير التنازل عن الكوابح كلها وإدارة الظهر تمامًا لحقوق شعبه، بذريعة أنه "واقعي ومؤثّر"، وليحبس كل النقاش السياسي بل فضاء الحراك السياسي برمّته في معادلة "هاتوا وخذوا"، هاتوا ميزانيات وخذوا دعمًا وسندَا وحماية لحكمكم. هذه ليست سياسة، بل سمسرة. هذه هي بالضبط المقايضة الرخيصة التي يتم التحذير منها.

تلك الممارسة تعني عمليًا التنازل عن المجاهرة بالحقوق الوطنية للشعب الذي ننتمي اليه. والأمر يجري بأسلوب "الفهلوة": عدم التنكر لهذه الحقوق من جهة، ولكن عدم المجاهرة بها بقوّة، من جهة أخرى. وهو ما يفضي الى التراجع عن وضعها شرطًا مركزيًا سابقًا لأية خطوة سياسية نحو أي تعاون سياسي عيني مع حزب صهيوني داخل تكتيكات البرلمان. أما محاولة تصوير تلك الممارسة على انها تجديد وتطوير للعمل السياسي، فهو خداع، محاولة لخطف العقول وتزييف الوقائع والتلاعب بعقول الناس واستغلال ضائقتها وتشويه الوعي الجماهيري العام. ليس هذا تجديدا ولا ابتكارا سياسيا بل عملية تشويه مقصودة ومخططة يُراد بها تبرير الانتهازية المنكفئة للخلف، نحو ما كان يُراد من العربي في ظروف الحكم العسكري: اهتم بحالك ودعك من شعبك ومن الوطنية والقومية وغيرها. كن كائنا أحاديّ البعد، مجرد مستهلك متقوقع.

هذا بالضبط ما يسوّقه منصور عباس في كل منبر وموقع. هذا ما يبيعه في مقولا: "في ناس بدها تعيش"، و "اللعبة السياسية هي توزيع موارد وميزانيات". إن مقولة "في ناس بدها تعيش" هي بالضبط كمقولة "الجسم بحاجة لأوكسجين". من يمكنه معارضة هكذا مقولة؟ مستحيل. ولكن المسألة هي شكل استخدام هذه البديهية، وهذا ما يجب علينا فحصه وتفكيكه. هذه مقولة يمكن أن يستخدمها "الليكود" أيضًا كي يقنع الناس بضرورة التركيز على مصالحهم الصغرى وترك السياسة بمفهومها المركب والشامل. هذه له اسم: تجهيل للفرد واقصاء له من انتمائه وامتداده وماهيته الاجتماعية – أي من ركائز الكرامة الإنسانية للفرد، وتحويله الى زبون مستهلك لا أكثر. فبماذا يختلف هكذا سيناريو عما يطرحه منصور عباس؟ لا يختلف بالمرة.

"في ناس بدها تعيش"، فعلا، ولكن هناك تتمة: بدها تعيش بكرامة، باستقرار، وليس كرعايا متسوّلة متعلّقة بجناح الوهم ولا حبال السّراب.

لا حاجة للكذب على الناس: إن المساواة العميقة لن تتحقق طالما لا تعترف الحكومات الإسرائيلية على اختلافها وتقرّ بأننا جزء من شعب وتاريخ وانتماء وامتداد في الزمان والمكان. وكل من يوافق على المساهمة في كسر هذا النسيج، فإنه يضع يده في يد أعداء هذا الشعب بما فيه جماهيرنا هنا. لن تتحقق أية مساواة بواسطة التعاون مع قوى سياسية تشطب مجرد الوجود السياسي الجماعي للشعب الذي ننتمي اليه، بكل ما يعنيه هذا من مستحقات وحقوق. لن تحظى الناصرة بالعدالة طالما ظلت رام الله مخنوقة بالجدار والحواجز والمستوطنات. لن تتمتع أم الفحم بالمساواة طالما أن جنين تقتحم بالقوات الخاصة. لن تكون أية بلدة ومدينة جزءا من حالة مدنية طبيعية في هذه الدولة، طالما يعيش سائر أبناء هذا الشعب ما بين الحصار في أكبر سجون العالم، والتهجير واللجوء والخنق ومرارة الانتظار.

أما من يريد الحصول على فُتات موارد وميزانيات وإدارة الظهر لشعبه، فليتفضّل، هو حرّ. لكن هناك ثمن. يجب أن يعرف أنه بهذا يدير ظهره لمعنى الوطنية ولشرف الانتماء الى شعبه. إن خطاب الإنجازات بالرزمة البرّاقة  الهوليوودية، بدون الفهم والإقرار والمجاهرة بأنها لا تتحقق سوى بالنضال وبربطها بالكرامة، هو خطاب انهزامي وفاشل معًا، خصوصا أنه يمكن أن يرفعه بكل سلاسة وجهارة، عنصريو الليكود وأحزاب المستوطنين وحتى فاشيو حزب بن غفير الكهاني نفسه.

لا مساواة تامة للمواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل بدون سلام عادل بين دولة إسرائيل وبين الشعب الفلسطيني يضمن كافة حقوقه الوطنية، يشمل حقوق اللاجئين. وبكل ما يعنيه هذا من ثمن يجب أن ندفعه هنا بفخر وعزّة وليس بتأفّف ضحل. كل من يزعم غير هذا فهو يكذب على الناس وعلى نفسه.
 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب