news-details

عنهُ، حينَ كان النّقدُ عيدا للحبر السّاخن... النّاقد، نبيه القاسم

بحنين طاغ أتذكّر البدايات، والمرّة الأولى الّتي التقيت ُ فيها نبيه القاسم في أحد الملتقيات الأدبيّة في النّاصرة. عرّفتني عليه، في سنتي الجامعيّة الثّانية طالبة جامعيّة أقامت معي في نزل طلّاب جامعة حيفا آنذاك. اندهشتُ وأنا ألتقيه للمرّة الأولى ويقرّر حين سألتْهُ نسرين ضاحكة: هل تعرف هذه الصبيّة؟ أنّني وجهُ مُبدِعة. أذكر ابتسامتي الخجِلة وتعارُفي المؤثّر أواخر التّسعينيّات، وأوّل حديث مرتبك جرى بيننا. حدّثتُهُ يومها عن كتابي الأوّل "مزامير لأيلول" الّذي أرسلتُ نسخة منه إليه، ولم يكتب عنه! أذكر ابتسامته الودّية الّتي يحتفظ بطيبتِها واختلافها، لا يزال، حين هدّأ من وتيرة انفعالي قائلا, لا أكتب عن الكتاب الأوّل، يجب أن أتأكّد من جديّة الكاتب في مسيرته. سألني إذا كنتُ جادّة في امتهان الكتابة! تفاجأت من السّؤال، فلسبب ما أعتقدتُ أنّه سؤال لا يُسأل. كأنّ عناوين رئيسيّة تتزاحم فوق جبهتي مُعلِنة أنّي لن أكون شيئا آخر غير الكتابة. وكأنّهُ فهم، دون جُهد، أنّ حلمي أن أصبح امرأة تكتب العالم بألوانه الكثيرة.

هكذا بدأت حكايتي مع الكتابة تحت اسم مجهول، ولقاء صدفة مع أهمّ من يكتبون عن الأدب. حين بدأتُ بنشر قصصي القصيرة لفت نظري في لقاء صدفة آخر لجودة القصص الّتي أكتبها وفرحت. منذ شعرتُ بأهميّة ما أكتب بفضل ملاحظاتِهِ العابرة فهمتُ أنّي في الدّرب الصّح، فما عاد يهمّني ما يتقوّلونه حولي، وحين صدرت أولى مقالاتهِ النّقديّة بحقّ كتاباتي شعرتُ أنّي أمتلك العالم. حرصه على التّوثيق منح للحبر ثقة مضاعفة في لونهِ. وكنّا حينذاك نحتفي أكثر بهذا النّاقد المتابع الحريص، وننتظر أن يقول شيئا عنّا. بعد هذه المقالة أصبحت المحافل الأدبيّة الّتي تجمعنا محافل سؤال، واستفسار عمّا أكتبه اليوم، وسط دماثةٍ طاغية لخُلُقِهِ وحضورهِ، وخجله الفطريّ الّذي منحه هالة لا تتكرّر عند كُثُر من النّقاد على قلّتهم والشّعراء على كثرتهم، والكتّاب على ندرة أقلامهم.

لقد أثرى نبيه القاسم السّاحة الأدبيّة المحليّة برؤيتهِ الموضوعيّة في جلّ ما كتب. لم يجرح قلمه حتّى الأعمال السيّئة الّتي قرأها، واحترم إنجازَهُ الشّخصيّ بحقّ هؤلاء حين تأذّى من تجريحهم وقلّةِ ذوقهم بالصّمت، وهو أمر لا يحدث كثيرا عندنا في سوق الأدب. وإذ أدحرجُ رصاصي اليوم على مسودّات البياض فلأجلِ أن أعيد الإعتبار للزّمن الجميل الّذي أثراه بقلمهِ وشكّل فارقة في إنصاف الأقلام المُبدِعة، وأذكّر نفسي كي لا تنسى فضلهُ على مصنعي الأدبي، حين رافق رواياتي في عديد الأمسيات الهامّة والنّدوات الفكريّة بمحبّة وثقة وتمهّن. وعموما لا أذكر قلما أقوى من أثر كلماته قبل ثورة التّكنولوجيا الّتي زيّفت الكثير في صور الأدب. وأعني، المخفي والمُعلَن، وقدرات كتّابهِ الّذين ابتلعهم الشّعر كآخر محطّة في ثورة الكلمة. ذلك هو الزّمن الّذي نعشق رائحة حبره، حيث تعالت القامات وسبقت جودة النّص صور أصحابهِ، وعلاقاتها السّليمة والمشبوهة، والمُشوّهة، حين كان صوت نبيه القاسم يحبس الأنفاس لمجرّد أنّه سيُصدِرُ مقالة بحقّ الكاتب الفلاني. هل تذكرون أم أذكّركم؟ هل تدرسون أم أدَرِّسكم أثر الأدب الجيّد في صناعة المجتمعات السّليمة المعافاة من العنف والجريمة والسّواد؟

كيف نستعيد الزّمن الّذي يجعل ناقدا يفرح بولادة قصّة استثنائيّة كما حدث مع قصّتي "فراشة صفراء" مثلا و "الصّندوقة"؟ ماذا نفعل كي نعيد مرايا النّقد الجيّد حين تصدر رواية تثري صور الدّاخل الفلسطيني وخارجهُ بفنيّتها العالية، ونصفقّ ابتهاجا بإِنجازاتنا؟ هل يعرف الجيل الحالي طرقَنا الوعرة الّتي سلكناها لتفزّ أسماؤنا في رأس جريدة؟ هم الّذين يدخلون مجرّة الانتشار بجرّة غزل، ولَحسَةِ عسل؟ كثير ما نُرعفهُ اليوم في النّصّ الهزيل لأنّ صرعةَ العصر تستدعي المداهنات، حدّ أنّ أقلامنا شأن أقدامنا تشعر بالثّقل وهي تخلّصُ أطرافها من شوائب الوحل والإهانات! 

عزيزي نبيه، 

واجب الوفاء يقودني لهذا الاحتفاء المتواضع بحضورك كناقد رائد في مسيرة الأدب الفلسطيني عموما، وصوَرِهِ زَخِمة الأُطُر الّتي لا تتكرّر. ولو أنّ الثّقافة الفلسطينيّة بمُجمَلِها تأخّرت بمنحك جائزة فلسطين. ليست الجائزة بقدر اعتراف ضمنيّ بعلامتكَ في دفع المشهد الثّقافي لفلسطين الدّاخل خصوصا إلى الواجهة. شكرا لأنّك حاضر بيننا بهذا العًمق، بهذا الزّخم، وهذا التمهّن.

شكرا لأنّك ترهِنُ واقعنا بالأجمل، ولتكن جائزة فلسطين أوّل الاحتفاءات بتميّز ما تقدّمهُ، وأوّل ريش يحلّقُ بكَ إلى عوالم ثراء فكريّ لم نسمع به بعد...

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب