news-details

عَوْدٌ على بَدْء.. غِيابُ الصَّواب | أسعد موسى عودة

اليوم، الثّلاثين من أيلول\ سبتمبر، هو يوم التّرجمة العالميّ، المرعيّ من قبل اتّحاد المترجمين الدّوليّ، فبهذه المناسبة العطرة أتوجّه إليكم وإلى زميلاتي وزملائي وإليّ.. بالغار والحنّاء والحُليّ، والعُقبى لكلّ عام في يوم هذا الجَهد الأزليّ الأبديّ السَّرمديّ؛
أمّا بعد، وفي ضوء العُنوان أعلاه، ها إنّي أعود إليكم كلّما احتجت إلى هذه الجُرعة من الماء والهواء، كيما أستطيع التّنفّس والتّرويح عن النّفس، حيث الكتابة هي روح حياتي وميراث مماتي، وبها المَسير وإليها المَصير؛ وها إنّي أعود إليكم كلّما ثقل الهمّ واشتدّ الألم؛ وها إنّي أعود إليكم كلّما تفاقم من حولي غياب الصّواب؛ غياب صواب اللّغة، وبالتّالي، غياب صواب القلب وصواب العقل وصواب الرّوح، غياب صواب الذّوق وصواب المعاملة، غياب صواب كلّ شيء.
أمّا آخر ما تنامى إلى أُذنيّ من غياب صَواب لغويّ فهو ما سمعته هذا الصّباح، الثّلاثاء، 27 أيلول 2022، في إحدى قنواتنا الفضائيّة الوطنيّة المحلّيّة الملتزمة المحترمة، بلسان صِحافيّة أعدّت تقريرًا عن الحضانات والحاضنات في مجتمعنا العربيّ، حيث قالت بملءِ فيها ما أوّلَ مرّةٍ – في الحقيقة – أسمعه: "اللّواتي يبحثَنّ"؛ وقد غاب عنها التّمييز بين نون النّسوة ونون التّوكيد الثّقيلة، وشتّان بينهما شتّان؛ ففتحتْ ما قبلها وشدّدتْها، بدل أن تسكّنه وتخفّفها؛ إذ كان من واجبها اللّغويّ والأخلاقيّ والدّينيّ والوطنيّ والإنسانيّ أن تقول: اللّواتي يبحثْنَ، ومرّة أخرى من جديد؛ بتسكين ما قبل النّون وفتحها من غير تشديد، ولكن "يا ليتَ قَوْمي يَعْلَمون" فيُعَلّمون.
وأخشى ما أخشاه أن تكون هذه الصّبيّة أو الفتاة ضحيّة مؤامرة تغييب تدريس قواعد اللّغة العربيّة، نحْوًا وصرْفًا، عن مدارسنا الابتدائيّة والإعداديّة والثّانويّة، إذ ينظّر أرباب هذه المؤامرة الصّغار من أبناء أمّنا العربيّة وأعدائها، بعلم أو بجهل، بقصد أو من غير قصد، بوعي أو بغياب وعي، لاستنباط كلّ شيء من خلال النّصّ، وكأنّ هناك إمكانيّة لإدراك عمارة الأدب من دون إدراك محلّ حجارة اللّغة فيها؛ إذ قد يكون ذلك ممكنًا في لغات أخرى، لكنّه في اللّغة العربيّة مُحال، فأيّ هُراء هذا يا سخفاء ويا ضعفاء ويا جبناء! ونتيجة ذلك ما هي، إنّما هي التّشويه التّامّ لوعينا اللّغويّ، وبالتّالي التّشويه التّامّ لإدراكنا التّعبيريّ وحسّنا الأدبيّ، وهو ما بتنا نرى مخلّفاته في أرض واقعنا المَعيش والتّعيس؛ إذ إنّ هذيْن التّشويهيْن كافيان ووافيان وكافلان لتشويه عقلنا وروحنا وإنسانيّتنا. وليس ما أقوله – والله – مجرّد منافحة حماسيّة جُوّانيّة عن أمّنا العربيّة، لا بل هو، أيضًا وقَبْلًا وبَعْدًا، مسنودٌ بأرقى وأدقّ النّظريّات العلميّة القديمة والحديثة؛ فإنّما الوسيلةُ الأعتى والأجدى للقضاء على أيّ أمّة، هي القضاء على لغتها فيها؛ فراجِعوا الماضي والتفِتوا إلى الحاضر وانظُروا المستقبل.
وإذ الشّيء بالشّيء يُذكر، فأخشى ما أخشاه، أيضًا، أن يدعوَني مآلُ حالِ منتخَبينا ومنتخِبينا إلى التّصويت، هذه المرّة، للعِشرينيّة العراقيّة الوقّادة، هَدار مُختار، وحزبها "الشّباب اللّهّاب" ["تْسِعِريم بوعَريم"]، والبقيّة في هذا المضمار ستأتي وتَغْلي.
أمّا أجمل ما سمعته وقرأته واستمرأته فصدّقته، قبل أيّام، فهو قول أحد الفلاسفة: إنّه من الصّعب على الإنسان أو من شبه المُحال أن يجمع بين النُّبْل والحَذَر. وأنا، أسعد، قد اخترتُ سعيدًا أن أكون نبيلًا، فِعْلًا وقِيلًا؛ فأحْيِني اللّهمّ جميلًا وأمِتْني اللّهمّ نبيلًا.
أمَا وقد بذلتُ ساعة ونصف السّاعة من هذا النّهار في كتابة هذا الإشهار، الّذي نيّف على الرّبع ألف، فقد صار من واجبي أن أعود إلى مزاولة كدّيَ اليوميّ، وكسب قوتي بعرق عقلي وقلبي وروحي وجوارحي ويديّ.
ولِي عودة منكم إليكم أيّها الأعزّة – إن شاء ربّ العزّة – للحديث، أبدًا، عن لُغتنا ونحْن.
   الكبابير\ حيفا

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب