news-details

غالب هلسا: روح ناقدة بدأت بنقد الذات| رشيد عبد الرحمن النجاب

ولد غالب هلسا في قرية "ماعين" بالأردن عام 1932، وأتاح له نبوغه المبكر الانتقال إلى مدرسة المطران بعمان. وقد حال انتماؤه المبكر للحزب الشيوعي الأردني، ونضالاته في بيروت ثم في بغداد، حيث سجن وطورِدَ وطُرِد، دون إكمال دراسته الجامعية، كما اعتقل في سجن الجفر الشهير في صحراء الأردن عام 1951.

تنقــّل غالب هلسا وحيداً بين مصر والعراق ولبنان وسورية، ربما كان العربي الوحيد الذي انخرط في صفوف أربعة من أحزابها الشيوعية في النصف الثاني من القرن العشرين، فضلاً عن الثورة الفلسطينية، واستقر في القاهرة. أكمل عام 1959 دراسته في الجامعة الأمريكية / كلية الصحافة، وعمل في وكالتي أنباء الصين الجديدة، ثم في وكالة ألمانيا الديمقراطية، لمدة 16 سنة، وهناك انخرط بنشاط في الحياة السياسية والثقافية المصرية، وأسهم في تأسيس مجلة "جاليري 68". وما لبث أن سجن في مصر أكثر من مرة، ثم طرد من القاهرة عام 1976، فاتجه إلى بغداد، ثم إلى بيروت.

وكانت له إسهامات مهمة في العديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية، وأسهم في تأسيس وإصدار مجلتي "المصير الديمقراطي" في بيروت، و"الكاتب الفلسطيني" في دمشق. وعندما حدث الاجتياح الصهيوني للبنان 1982، انتقل إلى الخنادق القتالية المتقدّمة ليُقدّم من خلالها برنامجاً يومياً في إذاعة الثورة، كما أسهم في صحافة المقاومة اليومية خلال فترة الحصار. استقر به المقام في دمشق بعد خروجه من بيروت وأسهم بنشاط كبير في المعارك الثقافية والسياسية. هناك توقف قلمه وقلبه عن الخفقان في 18/12/1989، وهو اليوم نفسه الذي ولد فيه، لينقل جثمانه إلى عمّان ويدفن في وطنه.

 

إضاءة الحاضر بالماضي، وبالعكس

تنهض منهجية غالب هلسا الفكرية كما يرى الأستاذ نزيه أبو نضال على قاعدة مركبة وبسيطة في آن، تتمثل في إضاءة الحاضر بالماضي، وبالعكس، ورؤية ما هو خاص وجزئي وآني في سياق معرفي ثقافي شامل، وعبر منهج عام يعتمد قوانين الجدل الماركسي في الترابط، والحركة، والتغير الكمي والكيفي بمعزل عن مضمونها الأيديولوجي، حيث تجري محاكمة الظاهرات الفردية وفق قوانينها العامة، ثم محاكمة هذه القوانين نفسها من خلال هذه الوقائع الجزئية، وعبر هذه الجدلية صاغ منظومته الفكرية، وحدد مواقفه في كل مرحلة، مع إخضاع ما يتوصل إليه هو نفسه من أفكار للمحاكمة من جديد بقياسه الصارم على المعطيات اليومية والجزئية.. فليس هناك مسلمات في قاموسه الفكري، بل كان يبدي استهجانه الشديد من أولئك الذين يتمسكون بما توصلوا إليه من أفكار ثابتة،  ومهما بدت هذه الأفكار نيرة وعظيمة في لحظة ما.

وكي نوضح هذه الجدلية الحية في قياس الكل على الجزء، والممارسة على النظرية، نورد المثال التالي، كما عبر عنه غالب هلسا، والمتصل بموقفه من المرأة التي تشكل في كتاباته محوراً مركزياً كثيف الحضور، سواء في أعماله الفكرية أم الإبداعية، يقول الأستاذ نزيه أبو نضال: "فقد تابع بوعي عميق النماذج المتعددة للمرأة عبر علاقتها بعناصر التركيب الاجتماعي، كما رصد أشكال اضطهادها في اللغة كما في القوانين.. في التاريخ والاجتماع، كما في الأفلام والمسلسلات، في اللباس والزينة كما في الحركة والسلوك"، وذلك كواقع بيولوجي أو كتكوين ذهني ونفسـي.

وينأى غالب عن تقديم نفسه في كل هذه النماذج سواء بشخصه كغالب هلسا أو كبطل في رواياته باعتباره مثقفا متحرراً قد تجاوز النظرة الذكورية الشرقية للمرأة، وأقام معها علاقات ندية وصحية، بل هو يسلط ضوءاً حارقاً على نظرته للمرأة وسلوكه تجاهها. إذ رصد ممارساته العملية مع المرأة فوجد نفسه أحياناً، ذكراً شرقياً متخلفاً، يرى في المرأة مجرد متاع يملكه. وهذا الإحساس العارم بالملكية عند الرجل يترابط مع فلسفة الفكر الجبري العربي الذي يرى المجتمع منقسماً إلى فئتين: واحدة تفكر والثانية تنفذ. وفي مثل هذا المجتمع يقف رأس الدولة كعقل مطلق، فيما تقف المرأة في أدنى السلم الاجتماعي كأداة تنفيذ. ولهذا فقد سلط غالب الضوء على مواقفه وسلوكياته هو، أي على رؤيته الذكورية للمرأة، وعلى الجوهر المتخلف لهذه الرؤية.

تعاظم اهتمام جيل غالب هلسا بالقضايا السياسية والفكرية التي شكلت عتبة عبوره اللاحق باتجاه الحزب الشيوعي الأردني سيما في الفترة الحاسمة من 47 إلى 49، حين وقعت النكبة الفلسطينية الكبرى، ويروي صديق طفولته صالح حمارنة كيف "بدأت اهتمامات غالب السياسية والفكرية في عمان، من خلال تردده على الأندية والمقاهي الثقافية والسياسية، وكان أبرزها آنذاك "المنتدى العربي"، وكان رواده  وما زالوا من دعاة الفكر القومي، والثاني "دار الندوة الأدبية" وكان رواده من المعلمين والموظفين الصغار والنازحين من فلسطين والأرياف الأردنية من ذوي الاتجاهات الديمقراطية والتقدّمية". وفي هذه الأجواء بدا اتصال غالب هلسا بالحزب الشيوعي الأردني نصيراً، ثم اكتسب العضوية الكاملة في بداية الخمسينيات، إثر عودته من لبنان.

 

خارج التنظيمات السياسية وداخلها معا

كان من عادة السجناء أن يعقدوا أمسيات أثناء وجودهم في السجن يتحدث فيها أحدهم في موضوع ثقافي ما، وصادف أن تحدث غالب هلسا عن لينين، وفي محاضرته تلك هاجم الستالينية وتقديس الفرد وقال: ان هذا غريب عن لينين واللينينية، ونادى بالديمقراطية؛ قال غالب هلسا ذلك وستالين ما زال حياً. وكانت هذه أول مرّة يهاجم بها أردني يساري ستالين والستالينية في الأردن. لعل هذه الشهادة تلقي مزيدا من الضوء على المحور المركزي في شخصية المفكر غالب هلسا، وهو الإيمان العميق بنموذج "المثقف الغرامشي" الذي يؤمن بأنه لا وجود للمثقف الحقيقي خارج حقل الممارسة العملية، ولا معنى للممارسة من دون نقد ثوري لينيني، وهكذا يمكن أن تغتني النظرية ويمكن أن تتطور الممارسة، هكذا يتعمق الفكر ويتجدد الإبداع.

نلحظ هذه الروح النقدية لدى غالب هلسا في وقت مبكر، يعود إلى بداية الخمسينيات من القرن الماضي، حين نشر في مجلة "الآداب" اللبنانية سلسلة من المقالات النقدية للتجربة الستالينية، في الوقت الذي كانت فيه تلك التجربة موضع تقديس وتسليم الغالبية الساحقة من شيوعيي العالم. وربما بسبب هذه الروح النقدية، قال ذات مرة بأنه كان يشعر بنفسه دائما بأنه خارج التنظيمات السياسية وداخلها معا، (يقصد التنظيمات السياسية التي طالما انتمى إليها) 

إنّ انخراط غالب هلسا المبكر والحي في تيار الحياة العملية يؤكد الفكرة اللينينية المهمة التي تقول: «إنّ النظرية رمادية، أمّا شجرة الحياة فدائما خضراء»، وهذه الحقيقة تساوي كذلك القول المعروف: « إن خطوة عملية واحدة تساوي عشرة برامج سياسية». من هنا لم يكن بإمكان غالب هلسا أن يكون خارج صفوف الحركة اليسارية العربية، وبغض النظر عن القطر الذي تواجد فيه، أو عن طبيعة العلاقة التنظيمية مع هذا الفصيل اليساري العربي أو ذاك.. حدث ذلك في عمان، والقاهرة، وبغداد، وبيروت، ودمشق، وفي الساحة الفلسطينية، ولكنه بالرغم من انخراطه العملي في صفوف الحركات اليسارية والشيوعية العربية فإنه ظل على الدوام قادراً على اتخاذ مواقف نقدية من خلال الوحدة، فالالتزام عند غالب هلسا لم يكن نقيضاً للنقد، بل لعله هو شرطه الحقيقي.

وقد ورد في "موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر" لمؤلفها الدكتور أيوب أبو دية فصل أعده الأستاذ نزيه أبو نضال عن المفكر الأردني غالب هلسا، والذي استوحيت منه هذه الأفكار في جلها، وقد تضمن إشارة عميقة الدلالة إلى الحسم العقلي الديمقراطي الذي قرأ غالب من خلاله وقائع تاريخنا العربي ومنجزه الفكري حيث قال: "ليس من قداسة سوى للعقل، ولا مكان للعقل سوى في الديمقراطية.. ذلك أن مصادرة العقل والديمقراطية تحت أية ذريعة كانت لن تقود سوى إلى الكوارث، التي ستلحق بالأفراد والتنظيمات والدول مهما عظم شأنها، وهذه هي التجربة السوفياتية ماثلة للأذهان، كما هي ماثلة أيضاً مصائر الأحزاب الشيوعية العربية".

وبطريقة مماثلة، ودون أن يستسلم للسائد من الأحكام أو للمواقف المسبقة، حتى لو كانت مواقفه هو، هكذا قرأ ابن المقفع المدافع الشجاع عن العقل، والداعي إلى إقامة مجتمع المؤسسات والقانون، بحيث لا يستطيع حتى القاضي أن يصدر الأحكام بمعزل عنه، كما أعاد قراءة المعتزلة وإبراهيم النظّام، وأعاد تركيب منظومة الفكر المادي العربي، بعيداً عن المسلمات والحقائق المسبقة ذات القداسة، أو هكذا أرادوا تصويرها دون أن تمت بصلة إلى المقدس، ليتوصل مع ابن المقفع إلى اليقين بأن الفلسفة أسمى وسائل المعرفة، وأنها الطريق الحقيقي صوب اليقين، وأن أداة الفلسفة هي العقل، والوسيلة الوحيدة للوصول إليها هي إمعان العقل في جميع الأمور ومختلف المواقف.

(عمّان)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب