news-details

فائض المناخ العام تبتلعه الرأسمالية

 بينما تلهث الرأسمالية وتحاول بكلّ ما أوتيت به من قوّة وشراسة اكتساح مجتمعاتنا منذ عقود طوال لتوسيع بؤرة جشعها المرّ ولإنهاك أجسادنا وإضرام الموت فينا معلنةً حربها الضّروس الشعواء، يتبجحّ ممثلوها للاستحواذ والهيمنة على المتّسع الأخير، منفس الحيوان والنّبات والإنسان، بيئته الطبيعيّة الّتي توفر له قسطًا من الحياة وقدسية معيشية بمنأى عن الفقر والبؤس المتراكمين.

لا يكف المزعج، الفج والوقح دونالد ترامب عن التعرض لشعوب المنطقة لنهبهم وسرقتهم وفرض سيناريوهات امبريالية وصهيونية دميمة تعزز سطوة أمريكا، بل ويتعدّى على العالم بأكمله بواسطة عكازه الأعرج أي –ادارته البكماء- فارضًا اتجاهًا مضادًّا في قانون الحماية البيئية، ليضعف ويلغي ما يعزز الاستدامة والاخضرار، ويرفع والبيت الأبيض من شأن الاستثمار المالي "الرّمادي" متخلّيًا عن افساح رقعة صالحة للسكن. 

لم تعد معركتنا من أجل المناخ أحادية وفردية ومتمحورة في بوتقة جغرافية واحدة دون غيرها، بل هي معركة متشعبة وأكثر تعقيدًا من تضييقها في إطار الطبيعة والصناعة الإلهية، فأصبحت تعدو إلى كل الجهات انتقالًا من السياسة وإلى المادة والمال. 

نحذو اليوم من الاستغلال الواضح للمعالم الطبيعية الموهوبة لنا، واختلال موازين القوى والصراع الدائر بين عصابات المستثمرين في قضية النيران الّتي أضرمت في أستراليا وفي غابات الأمازون –رئة الأرض الّتي التهمت دون شبع- والتي تعود الى محاولات تعتيم وتشويه صوري لما تقترفه الحكومات من تقصير قد أدى فيما سبق إلى تشتيت التركيز العالمي حول القضية مدّة ثلاثة أسابيع كاملة بمعزل عن وسائل الإعلام، تسببت بإهمالها –أي الحكومات- إلى تصفية مساحة خضراء شاسعة أدّت إلى انبعاث دخان كثيف قضى على نسبة لا يستهان بها من الأكسجين الّذي تمدّ العالم به. 

وننتقل إلى أزمة التغيير المناخي المتأثرة من استثمارات مادية زخمة وهائلة في صناعات الوقود الأحفوري الكربوني –الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل التلوث جوًّا، برًّا وبحرًا- المستخرج من الفحم الحجري، النفط، الغاز الطبيعي وغيرها من المواد الّتي تستخلص من باطن الأرض لتحترق مع الهواء منتجة بدورها حرارة، قد تؤدي الى اندلاع حرائق ضخمة وفيضانات كارثية وموجات جفاف طويلة تقتل البشر والملايين من الكائنات الحية الأخرى. بالإضافة الى ما تشير إليه الدراسات عن تأثير هذا الاحترار على ارتفاع مستوى سطح البحر بسبب امتصاص الحرارة في ظلّ الظروف المناخية القاسية والّذي سيحفز الأعاصير للانطلاق من أعماق البحار. 

ويعدّ جيمي ديمون "امبراطور" الكربون في عصرنا، المدير التنفيذي لـ"جي بي مورغان تشايس" أحد أكبر البنوك الّتي خلخلت المناخ وأثارت أزمة مفزعة نتيجة لاستثماره المادي العظيم في قطاع صناعة الفحم والذي يبلغ مليارات الدولارات من العالم 2015 حتّى اليوم -وهي الأعوام المسّجلة ضمنيًا في ذروة الأعوام التي رفعت وتيرة الاحترار-.ولكنّ هذه السّلطة المُحرَجة والمتورطة والّتي يرأسها ديمون قد تؤول بالانهيار نظرًا للتعهّد الذي قدمته إحدى أكبر منافسيها (شركة بلاك روك) وهي من أكبر الشركات المالية المختصة في إدارة الأصول، والمشاركة مع أكبر مديري الأموال في العالم حيث ارتفعت حيازة احتياطي الفحم والنفط والغاز لديها من خلال الشركات التي تديرها بنسبة 34,8٪ منذ عام 2016. لكنها قد وضعت قضية التغير المناخي في صلب جدول أعمالها، وذلك بعد موجة شعبية كبيسة بعدم الاستثمار في قطاع الفحم ممّا سيرسم مفترقًا ثوريًا حديثًا في مجال الطاقة، قد تؤثر أولويتها على جهات أمريكية استثمارية أخرى للتخلي عن الاستثمار في الوقود الأحفوري القذر وبأسرع وقت ممكن ولحماية الكون وطبقاته الدنيا والعليا من هاوية توغل الإنسانية في حرب قاسية.

من الأهمية بمكان الإشارة إلى التعهد الذي ألقاه لورنس فينك –الرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك-، على أثر الخطر الّذي يداهم العالم منذ ما يقارب 40 عامًا، بالأحرى لم يكن فينك أوّل من تناول الموضوع موليًا له أهمية قصوى، ولكن الانتقاد اللاذع الّذي وجهته المنظمات البيئية والضغط الشّعبي الكبير قد دعاه إلى الاهتمام بغرض إنساني يتجاوز الأرباح، ممّا قد يحدث تغييرًا في السياسات الداخلية لمجالس إدارة المستثمرين في العالم أجمع.

في هذا السياق، فإن خطوة المدّعي فينك قد تكون نقطة تحول جوهرية -يمكن أن تحفز الحوار الوطني بين الممولين وصانعي السياسات. ومع ذلك، فمن المحتمل أيضًا أن يرى بعض النشطاء الفاعلين في مجال البيئة والمناخ وهم الأكثر دافعية للتغيير الجذري والسريع، أن هذا التقصير لا يزال مستمرًا خاصة أنّ الشركة ذاتها كانت من أكبر المتحايلين على انصراف مجرى المناخ إلى درك كارثي أسفل، وبالذات لأن بلدان الشرق الأوسط أو الدول التي أصبح فيها النفط جزءًا مهمًا من اقتصاداتها قد تقدّم استئنافًا ضارًّا ومؤذيًا.

وفي غياب أكبر الشركات الأمريكية عن الاجتماع في الشهر الماضي والذي الزم مئات المستثمرين بالتوقيع من اجل تكثيف جهود الحكومات لمناهضة نازلة تغير المناخ إشارة واضحة بأنّ السياسة الأمريكية الاقطاعية ذاتها والّتي تنمو متغذيةً على انهيار دامغ لما يحيطها، غير آبهة إلّا لإعلاء واردات صندوقها المالي، تشنّ براثنها نحو الخراب البيئي وليس فقط الإنساني، والذي بات اعتبار وجود مكدّسًا أم مقلّصًا في الهرمية الرتيبة أمرًا ثانويًا لا يعني أحد.

يجب أن يمنح قرار بلاك روك رخصة لتغيير استراتيجية شركاتها المستثمرة والتركيز على الاستدامة البيئية، حتى لو كان ذلك يؤدي إلى جني أرباح ومكاسب مادية أقلّ من المعتاد –وهو أمر مبغوض على ما تسوله نفسه إلى الالتهام المبالغ-، ولكنّها منطقيًا قد تشكل عازلًا لصدّ مخاطر أكبر على الصّعيد الإنساني أو على صعيد الكوارث الطبيعية والّتي ينبغي لإصلاح ما تخلّفه تكاليف فادحة وباهظة أكثر ممّا يتصوّرونه. وبالتأكيد على هذا التحول أن يكون غطاء للبنوك والمؤسسات المالية الأخرى التي تمول الشركات الرائدة للكربون لتغيير سياسات الاختلاس الداخلية.

وكما أوصانا ماركس بتغيير التاريخ بعد أن قام الفلاسفة بتفسيره وتقديم شروحاته، فإنّ الحتميّة الّتي أشار إليها مرارًا هي أنّ الرأسمالية، المنظومة القذرة القائمة على الرّبح والاستغلالية، ولشدّة تناقضاتها الداخليّة ستتلاشى عاجلًا أم آجلًا مهما قامت بتسطيره من ظلم مطلق، عبودية خالصة، وفقر مدقع عليه أن يُعيدنا إلى لبّ الثّورة الّتي سيحققها المظلومون.

دقّ ناقوس الخطر الّذي بات يهدّد كياننا جميعًا، لذا ولتحدي التقاعس المقترن بالمصالح التجارية أو السياسية الّتي فرضتها الدوائر الأمريكية على الجميع -والّتي تطال بطبيعة الحال كل منظومة استعمارية جشعة تسعى لتحقيق مآربها على حساب البسطاء-، يجب أن يدرك النّاس برمّتهم أنّ أزمة المناخ هي مشكلة نظامية مفتعلة تسير تحت وطأة الرأسمالية وفريق الدّفاع الشّره عنها، ويجب أن تكون في خضم معاركهم اليومية للحفاظ على الحياة البشرية، علّنا -ما استطعنا سبيلًا- أن ندق أحد المسامير الأخيرة المتبقية في نعش رؤوس الأموال المفترسين لنتخلّص من بطش مسيّر العصابة الأضخم ترامب دكتاتور الفردانيّة المطلقة هو و"أباطرة"  إدارته الأمريكية السفيهة. 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب