news-details

فاروق مواسي أيقونة للشعر والثقافة وسادن اللغة العربية | محمد علوش

لروحك ألف سلام يا حبيبي ويا صديقي ويا معلمي: فاروق مواسي أيقونة للشعر والثقافة وسادن اللغة العربية

 

.. كم يؤلمنا الرحيل، فكم سنفتقد قصائدك المختلفة بنكهتها الفاروقية الخاصة، التي تنداح بتدفقها الشعري في حركتها المتواصلة، وفي اختلاف دلالاتها وهي تقتنص لحظات أو لقطات من حياتنا اليومية، وصوغها شعراً وأنت تستند إلى مخزون لغوي ليس له نظير، والى صياغة لغوية وأسلوبية شديدة الخصوصية والحميمية، وتعبر عن شحنة نفسية وعاطفية عميقة في الذات الشاعرة،

 

 

لم أفكر يوماً أنني سأكون بمثل هذا الموقف، لم أفكر أبداً أن أقف على الأطلال لأستعيد شريط الذكريات والمواقف مع صديق عزيز، تركنا ورحل.. رحل في زحمة الأحداث والتحديات ونحن أحوج ما نكون لأمثاله بيننا.

انه لموقف صعب أن أحاول رثاء الشاعر والأديب والقيمة والقامة السامقة والشامخة الذي ترجل قبل الأوان، ترجل عن صهوة الحلم قبل أن يكتمل، فالله الله كم هي أحلامنا كبيرة وموءودة!!

فاروق مواسي البروفيسور الأكاديمي المميز والشاعر والناقد والأديب صاحب التجربة الإبداعية الحافلة بتنوعها واشراقاتها، الإنسان الطيّب البسيط المتواضع، المثقف الموسوعي، الكاتب والناقد الحصيف، أستاذ اللغة الممسك بناصيتها بشغف العاشق الولهان.

الشاعر الكبير المحب للحياة وللناس، وكم قرأ على مسامعنا قصيدته التي تتجلى بالحب والصدق والبساطة الآسرة، القريبة إلى قلبه "أحب الناس":

 

أحب الناس من نــاءٍ  ودانِ             وأســعد بالجمال   وبالحنانِ

وأبدو بالبشاشة لا    أُرائي             بوجــهٍ ظل محدوّ   الأماني

فألمح ها هنا شخصا سعيدًا               وآخر    أنّ  أنياب   الزمان

فأفرح  للسعادة حيث كانت              وأحزن كل  أحزان    المهانِ

كأني وحديّ   المرجوُّ  منه             مواساةٌ  وإخلاص      التفاني

أحب الناس من قلبي وربي             لذا  فالحقد   مجهول    المكان

فإن كانت حياتي في صراعٍ             فإني قد وجدت بها   المعاني

 

فاروق مواسي يا صديقي ومعلمي وحبيبي، أيها الحر المتوهج بالفرح والعطاء، كم سنفتقدك أيها الأستاذ الكبير الذي لجأنا إليك دائما في كل الظروف، لجأنا إليك وكنت السيّد المعين، وكنت الرفيق الحريص والصديق الصدوق وكنت الشاعر الذي لا يشق له غبار، وكنت الناقد الموضوعي المتميز، وكنت الباحث المثابر الذي ترك لنا دراسات وقراءات وأبحاث شكلت زاداً وذخيرةً للباحثين والدارسين والأدباء والمثقفين ومادة ذات قيمة ثقافية ومعرفية وإبداعية للمكتبة العربية والفلسطينية.

فاروق مواسي الراحل الكبير التي سيترك رحيله فراغاً كبيراً في حياتنا، فراغاً حقيقياً لا يمكن أن يملأه أحد.

الأدباء يرحلون ويتركون أعمالهم خلفهم وفاروق مواسي ترك أعماله وذكرياته وسجاياه وسماحته وبساطته وعلاقاته بكل من عرفه وكل من التقى به ومعه، فكيف بنا ونحن أبناؤه ومريدوه، ممن تتلمذوا على يديه وعلى هدي نجمه الحالم دائماً.

 كيف بنا أن ننساك وأنت فينا، في كل لحظة من لحظاتنا، كنت الفارس والمعلم والشاعر الصنديد والكاتب المرموق الذي يقول كلمته بجرأة وموضوعية ليس لها مثيل.

يا الله ما أصعب الفراق، وما أشد وطأة وألم الفراق لأحبة تركوا بصماتهم جليلةً وضاءةً وهتافاتهم عاليةً في حناجر المحبين.

يا الله ما أصعب أن يرحل حبيبٌ دون أن تودعه.

أن يرحل دون أن تتمكن من إلقاء نظرة الوداع، وان تشارك في جنازته، فسحقاً وسحقاً لهذا الاحتلال الفاشي الذي يمنعنا من التواصل أحياء وأموات.

يوم الجمعة كان الخبر مفزعاً، هز أركاني، صعق قلبي، حيث أتاني خبر رحيلك المفاجئ، فجهزت نفسي للبحث عن طريقة ما للوصول إلى باقة الغربية، بلدك، الملاصقة لبلدي نزلة عيسى لعلي أستطيع الوصول إلى باقتك، لأشارك في تشييعك يا حبيبي وصديقي ومعلمي، فلم أتمكن من ذلك، فالجنود متربصون على جدار الموت، الجدار نفسه الذي هجيته ذات قصيدة

لم أتمكن من الوصول رغم محاولاتي المتكررة تحت شمس ظهيرة الجمعة الحزينة.

 حاولت "التسلل" عبر فتحات هناك وهناك على الخط الوهميّ الفاصل، وعدت أدراجي خائباً حزيناً ومطعوناً بالقهر، فالسلام عليك وعلى روحك الطاهرة يا أطيّب الناس، يا صديقي الغالي.

في السنوات الأخيرة كنت تحرص على زيارتنا أسبوعياً في طولكرم لنلتقي وننهل من بين يديك ومن نبع عطاءك الأدبي واللغوي ونستشيرك بما كتبنا هناك أو هناك، فكنت تحرص على أن تحضر لنا كتبك وكتب الأصدقاء وتحمل لنا بين الفينة والأخرى أعدادا من جريدة "الاتحاد" التي نعشقها ونسير على خطاها فكرةً وثورة، وكنت توصيني بكل جديد من كتب ومجلات تصدر في العالم العربي أو في رام الله لأنك الحريص على اقتناء كل ما يصدر من كتب ذات قيمة، أو مجلات ثقافية ومحكمة لتكون في مكتبتك العامرة التي تضم بين ثناياها أكثر من خمسين ألف كتاب.

الله يا أبا السيّد: أتذكر يوم كتبك فيك قصيدة "صديق المكتبة" وكيف فرحت بها؟

في بداياتي الشعرية كنت أول من يشجعني ويأخذ بيدي، بل امتلكت الجرأة لتكب مقدمة للديوان الأول "سترون في الطريق خطاي" لذلك الفتى الذي كنتهُ قبل أكثر من عشرين عاماً، فأي عطاء وأي جزاء أن يكون فاروق مواسي الشاعر الذي يتردد اسمه في الصحف والمجلات وعلى صدر كل كتاب في ذاك الوقت.. أي فخرٍ لي يوم قدمتني تحت عنوان "هتافات الروح العلوشية" التي ما زلت احتفظ بها بخط يديك على طول ثلاث ورقات صفراء مسطرة.

كنت معي والى جانبي دائما ولم تبخل عليّ بالرأي والنصح والمشورة ، بل وعلى مدار سنوات طويلة، وفي أصعب اللحظات، تجاوزت الصعاب وكنت معنا لتشارك في أمسية ثقافية أو مهرجان شعري أو إطلاق كتاب أو ندوة.

يا الله يا أستاذي وحبيبي كم كنت فخوراً بي وأنت تقدمني في جامعة القدس المفتوحة، وأنت تتحدث في حفل إطلاق ديواني "خطى الجبل" وعند حديثك عن كتابيّ النقديين "إطلالات من شرفة النقد" و"مرايا لشرفات النص" في لقاءين آخرين.

يا الله كم يعز علينا الفراق.. كم يؤلمنا الرحيل، فكم سنفتقد قصائدك المختلفة بنكهتها الفاروقية الخاصة، التي تنداح بتدفقها الشعري في حركتها المتواصلة، وفي اختلاف دلالاتها وهي تقتنص لحظات أو لقطات من حياتنا اليومية، وصوغها شعراً وأنت تستند إلى مخزون لغوي ليس له نظير، والى صياغة لغوية وأسلوبية شديدة الخصوصية والحميمية، وتعبر عن شحنة نفسية وعاطفية عميقة في الذات الشاعرة، والتي تنبئ عن روحٍ معذبة، لا تنثني وهجاً وموقفاً، وتحتشد بالتفاصيل التي تصنع النسيج الشعري من اللغة البسيطة المتحررة ذات المضمون الوطني والإنساني والوجداني وبما لا يتعارض مع أغراض الشعر.

سيكون الشعر يتيماً من بعدك، فأي فقد للشعر بفقدان أبٍ من آبائه، أي فقد للشعر وللثقافة بفقدان فاروق مواسي الذي " ملأ الدنيا وشغل الناس".

ستكون الكتابة بمجملها بلا طعم حيث فقدت أحد أهم الكتّاب الذين واظبوا على الكتابة لأكثر من ستة عقود متواصلة، حيث تركت لنا ما نهتدي أليه من مجموعات شعرية وكتب نقدية ودراسات مهتمة باللغة وآدابها وقواعدها وصرفها ونحوها.

من أنا لأقول بأن الشاعر فاروق مواسي تكتمل في قصائده عناصر الإبداع بعد أن تسلحت بالحلم والتفاؤل وهذه الرؤية التفاؤلية نجدها في معظم قصائده وعلى مساحة مجمل أعماله الشعرية، فهو الشاعر الذي واكب التطور في بنية القصيدة شكلاً ومضمونًا، وقد نوع في كتابة النص الشعري بتقنية عالية، فقدم اشراقات متتالية من روحه، وكانت هتافات روحه متوهجة، وقد تجلى لنا برغباته الجانحة وأحلامه الوردية معًا.

وإذا كان  (رينيه شار) يرى أن  القصيدة هي الحّب المحقق لتلك الرغبة، فإنني أرى في أشعار فقيدنا الكبير البروفيسور فاروق مواسي ورغم عوامل التخيير وانسداد الأفق أمام المشروع الثقافي وأمام  الشعر مواصلة  لمشروعه الأدبي الإنساني، فقد ظل أمينًا على الكلمة،  وحارسًا لنار القصيدة، ومؤمنًا برسالتها الإنسانية حتى أغمض عينيه للمرة الأخيرة في الجمعة الحزينة.

كنت أقول دوماً بان فاروق مواسي (المجتهد دائمًا) يحتاج إلى المزيد من الإضاءات عن شاعريته المتوهجة، فهو إلى جانب كونه ناقدًا مرهفــاً وقاصًا رائقًا،   ولغويًا أستاذًا،  وباحثًا أكاديميًا، يظل إزاء هذه الأدوار  أولاً وقبلاً شاعرًا مبدعًا، وفيها جميعًا خيط الصدق والأصالة.

كنا نتحدث دائما عن منصات التكريم والاحتفاء ببعض القامات من سدنة الثقافة هنا وهناك، وقد كان حزيناً لهذا التجاهل وهذا النكران وهذا التهميش من قبل المؤسسة الثقافية الفلسطينية ومن هنا فإنني اليوم وبعد رحيل أستاذي وصديقي الكبير فاروق مواسي من دعاة الاهتمام بتراثه الثقافي والمعرفي الشمولي الذي يشكل نبراساً وأيقونة للثقافة الوطنية الفلسطينية وللأدب العربي المعاصر، وأطالب وزارة الثقافة الفلسطينية بأن تبادر إلى إعادة طباعة أعماله الشعرية والنقدية لتكون خالدة في الذاكرة الوطنية والثقافية لشعبنا الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.

الأستاذ الكبير الراحل فاروق مواسي، ليس مجرد كاتب أو شاعر أو ناقد أو أديب أو إنسان أو مناضل أو صديق أو رفيق أو حبيب، هو كل هذا وأكثر، فعلينا أن نكون أوفياء لمن غرسوا فينا قيم ومبادئ الوفاء، وأن نحفظ ذكراهم، وأن نصون وصاياهم لنؤكد على مقولته التي لطالما رددها في لقاءاتنا الأدبية : "أكتب حتى لا أموت".

•         شاعر من فلسطين

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب