news-details

فلسطين في فم الانقسام| عبد الهادي العجلة

تقهرني سيرة الوحدة الوطنية والانقسام وإعادة اللحمة الوطنية. تقهرني كأنها قضية فلسطين الوحيدة والأوحد وان النضال الفلسطيني أصبح مرتكزًا على قضية إدارة الانقسام وليس انهاؤه، وأصبحت القضية الأهم من القيادات الفلسطينية في طرفي الانقسام فيمن يستطيع استغلال الموقف لصالحه ليعزز مكانته كقائد محتمل ووريث لمحمود عباس.

قبل أكثر من أسبوع أعلن طرفا الانقسام من قادة الأحزاب السياسية موقفهم من قضية "الضم" للأغوار وبعض مناطق الضفة الغربية وكأن الاستعمار الصهيوني والاحتلال الإسرائيلي قد بدأ مؤخرًا مع اعلان نتنياهو رغبته في الضم لأسباب داخلية لتعزيز مكانته السياسية أمام خصومه ولاستغلال وجود ذلك الأبله في البيت الأبيض الذي يدعم المشروع الصهيوني بشكل كامل ومع ضم الضفة الغربية. تعيدني فكاهة إنهاء الانقسام بعشرات المرات التي التقى فيها طرفا الانقسام وأعلنا قربهم من انهائه بدءًا من مؤتمر الوحدة الوطنية في مركز رشاد الشوا سنة ١٩٩٧ وحتى آخرهم، والتي رأيتها كمسرحية رديئة لا يمكن الضحك عليها أو على الممثلين فيها وإنّما يمكن البكاء على ما آلت إليه الأوضاع من موت الكومبارس بالتدريج في غزة.

 الكومبارس هنا هو جيل كامل من الشباب التائه والضائع الذي لم يرَ سوى الذل والبطالة والانقسام واللامبالاة السياسية والرضوخ تحت "بسطار" الانقسام وجنوده من الأجهزة الأمنية في غزة والضفة الغربية. سؤال طرحته سابقًا وسأبقى أطرحه للتذكير أيضًا كلما أراد ممثلو الانقسام إعادة انتاج المسرحية بطريقة جديدة كان آخرها الإعلان عن إقامة مهرجان انهاء الانقسام في غزة. لا أعرف من الذي اقترح إقامة مهرجانات لإنهاء الانقسام آنيا أو "تجميده" كما أطلق أحدهم للوقوف أمام خطة الضم الإسرائيلية ولكن تقديري بأن المهرجان لن يحصل ولن يقام لا في موعده ولا في أي موعد آخر.

ان ثلاثة عشر عامًا من وعي الزمن الجامد كما أسماها محمود درويش تتبخر في سنوات الانقسام وها هي نتائجه نراها أمام أعيننا في غزّة والضفة الغربية واستسهال الضم وصفقة القرن والتهميش واتخاذ القضية الفلسطينية مجرد أداة في يد دويلات صغيرة في المنطقة ودول أخرى تحاول الاستثمار السياسي لصالحها في ملفات دولية على حساب القضية الفلسطينية وحقوق شعبها في الداخل والشتات. على الجانب الداخلي تستمر ممارسات سلطوية من الجهتين فحماس وأجهزتها الأمنية تمارس كما تمارس بقية الأجهزة الأمنية ممارسات سلطوية ضد المعارضين سياسيا وضد مناهضي الفساد في ظل صمت من هم أصحاب القدرة على التأثير على قرارات السلطات التنفيذية. كل ذلك أدى لضغط على الشباب فمنهم من فضل انهاء حياته حيث أصبح الانتحار أمرًا اعتياديًا في غزة نسمعه بشكل أسبوعي، وفي الضفة الغربية نرى الاعتقالات التعسفية ضد الشباب المناهضين لعباس وبعض قيادات السلطة بشكل دائم.

في وسعنا أن نضحك وربما نبكي لاحقًا على ما وصلنا إليه ولكن دعوني أضع حدود العنف بين الماضي والحاضر والمستقبل وأخبروني كم فتاة وامرأة قتلت خلال الأسابيع الماضية في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ وكم منهم خرج بدون محاسبة قانونية؟ وكم مرة تدخلت العشائر بقوة للوقوف أمام سلطة القانون الداعية للدفاع وحماية المرأة؟ ولكن هل هناك رابط بين الانقسام والعنف ضد المرأة وجرائم القتل المستمرة بحقهم؟ بالتأكيد الإجابة ستكون نعم. ان بعض العقل والقدرة على شراء المأكل والمشرب والدخان هو الحجر الصغير الباقي في فلسطين ومجرد انزلاق هذا الحجر البسيط سننزلق في مجتمع مقسم سياسيا يستخدم كل أدوات العنف وشتى ألوانه ضد مكوناته، وهذا ما يحصل حاليا فالحلقة الأضعف هي المرأة في المجتمع الفلسطيني. وعلى مرأى من صورة الموت والعنف ضد المرأة تحاول أحزاب الانقسام وأطرافه استغلال القضية لصالحها بالتحشيد والتحريض على الطرف الآخر في حين أن كل طرف منهم يمارس ذات العنف ولكن بدرجات متفاوتة وبمسميات مختلفة.

ومن هنا فان استمرار الانقسام الفلسطيني هو الممرّ الأساسي والرسمي لصفقة القرن وللضم ولتشتيت وشرذمة القضية الفلسطينية والفلسطينيين. لقد صنعت حماس وفتح عدوًا لهم من أنفسهم ومن الشعب الفلسطيني بكامله بدلا من أن يكونا جسدًا واحدًا وروحًا واحدة وشعبًا موّحدًا ووطنًا وقيادة كذلك، فاخترع الاثنان الانقسام وأصبح كل منهما لصًّا للتمثيل الفلسطيني وجلسوا في عروشهم فأوجدوا عدوا من شعبهم وفقدوا ثقة شعبهم وأصبح الشعب يرى كلًّا منهم كعدو محتمل، وفقدت الثقة بالاثنين فأصبح مجرد ذكر المصالحة الوطنية نكتة سمجة يضحك عليها الجميع. لم يعطل الانقسام كل شيء فقط فنحن نتحدث عن الحاضر ولكن عطل أيضًا المستقبل، مستقبل جيل كامل في غزة أصبح منبوذًا ومعنفًا حيث أصبح العنف خيارًا.

لن يستجد شيئًا من ملف المصالحة ولن ينفع المهرجان ولا المؤتمرات الصحفية المشتركة. كل ما يريده الشعب الفلسطيني هو انتخابات وطنية تقودهم بممثلين وحيدين بطريقة ديمقراطية توفر لهم حياة كريمة وتطلعهم على خياراتهم المتاحة وتبني استراتيجية وطنية تواجه الاستعمار في ظل فشل عملية السلام وحل الدولتين. لقد وضعنا الانقسام على بوابة جديدة. واضحة الزمان والمكان وعلينا نحن المثقفين والأكاديميين أن نعي ان مسرحية المصالحة والوحدة الوطنية هي مسرحية رخيصة لا نرى  انفسنا فيها الا مجرد كومبارس سيموت عند أول تضارب مصلحة شخصية لقيادي هنا أو هناك.

الكاتب: أكاديمي وكاتب فلسطيني من غزّة

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب