news-details

فنّ الشرشحة: هواجس شخصيّة| إبراهيم طه

لا أعرف بالضبط لماذا أخذتني هذه الأيام التي تشكّلت فيها حكومة بنيامين نتنياهو إلى سنوات ما بين الحربين 67  و 73. ما هو وجه الشبه؟ لا أعرف. لكنّ الله تعالى يخلق من الشبه أربعين. أحيانًا يخلق أقلّ وأحيانًا أكثر. هي تداعيات فوضوية وهواجس جامحة مشاكسة غير منضبطة تشدّ الواحد منّا بقوّة إلى مساحات غريبة أو فضاءات تبدو غريبة دون أن يفهمها أو يعقلها. لكنها أخذتني. هي لم تأخذني بالضبط بقدر ما دفعتني دفعًا، دفعًا سريعًا عنيفًا مباشرًا لا يتعثّر رغم أني لا أتبيّن أيّ مبرّر لذلك. لكنها حقيقة لا يُماري فيها أحدٌ... 

على كلّ حال، في تلك السنوات حصرًا كنت أمارس فنونًا فلاحيّة كثيرة بعد الدوام في المدرسة. أهمّها اثنان: صناعة الشراشيح والسراحة مع المعزى. كنت شاطرًا في المدرسة، صحيح، لكني كنت أحبّ هذين الفنّين أكثر. أكثر بكثير. هذه المرّة سأتحدّث عن الفنّ الأول فقط على أن أعود إلى الفنّ الثاني في مقالة منفصلة لاحقًا إن شاء الله. فنّ الشرشحة أو "الشرشوحيّة". والشرشحة في علوم النحو واللغة هي مصدر لفظي. لكنك تستطيع أن ترقّيه إلى مصدر صناعي، فتقول "الشرشوحيّة". المصدر الصناعي، لمن يعرف الإنجليزية أكثر من معرفته بالعربية ونحوها، أشبه بزيادة logy على نهاية اللفظة حتى تحوّلها إلى "علم" أو "فنّ" أو ما يشبه ذلك. وهكذا تصير "الشرشوحية" إذًا علم الشرشحة الذي يحتاج إلى قدر كبير من الفنّ. وهي علم وفنّ لأنّ لها أصولا وضوابط ومعايير كثيرة وتحتاج إلى مهارات عديدة ودقيقة.  

والشراشيح جمع شرشوح. والشرشوح يعني فزّاعةً. هكذا يسمّونه في بعض البلاد باعتبار أنها تُفزع الأرانب والطيور وخصوصًا الغربان السوداء وتُقصيها خارج حدود المقاثي. وهذ الطيور السوداء وقحة، لا تكتفي بنقر الزقط من البطيخ والشمّام والفقّوس، بل تجلب معها الشؤم. فالها على حالها. والغراب لا ينعق إلا في الخراب. البومة تكون ابنة عمّه اللزوم. وهي الأخرى لا تُنذر إلا بالشؤم ووقحة، مثله، لا تقطع فيها الصرامي المقلوبة ولا دعاوي النسوان. كانت المقاثي كثيرة، موارس كبيرة وطويلة ممتدّة. ولمّا كانت كذلك كان لا بدّ من زرع العديد من الشراشيح في المقثاة الواحدة ونشرها بحيث تغطّي كلّ فضاء المقثاة. وهكذا تعمل هذه الشراشيح بطاريات صاروخية شديدة الشبه بالقبّة الحديدية التي تنشرها الحكومة على حدود غزّة، مع تشبيه جزئي. التشبيه غير مفصّل على مقياس حالتنا بالضبط. صحيح. لكنه يوضّح الوظيفة الملقاة على عاتق الشرشوح لمن خلق بعد عصر الشراشيح ولا يعرف عنها شيئًا. 

كلّ ما أعرفه أنّ تشكيل حكومة نتنياهو ذكّرتني بصناعة الشراشيح التي كنّا نتقنها أنا ومحمّد أخي الأكبر. ولا أعرف أكثر من ذلك.. لكن ما هو الشرشوح أصلا؟ الشرشوح هو مصلّب، تقاطع فرعين من فروع الزيتون. على فكرة، التين لا ينفع للشراشيح لأنّ عوده هشّ مقارنة بالزيتون. وهو عادة ما يكون بطول متر ونصف أو مترين. نحن نصلّب الفرعين نربطها ببيوت المدّادة ونشدّها بلبش البطيخ. نزرع الشرشوح في الأرض زرعًا. ثمّ نكوّر له رأسًا، ليس له خوار، من الأعشاب الطرية أو اللبش. ونُلبسه من الخرق العتيقة البالية الممزّقة التي نحتفظ بها لمثل هذه المهامّ. وهذه الخرق كانت في أصلها أثوابًا وبناطيل وسراويل خرجت إلى التقاعد القسري، بعد خدمة سنوات طويلة، ووجوه طراريح أكل البول اللاإرادي الليلي والصنّة من شكلها ولونها ورائحتها. أكل حتى التخمة. ولمّا كانت هذه الخرق تسمّى شراشيح في فلسطينيّتنا فكان لا بدّ أن نسمّي المنتج النهائي منها على اسمها. وهي مادّة مركزية في خطّ إنتاج الشراشيح. كنا نبالغ في تبشيع الشراشيح ونتفنّن في تشويهها لعلّها تقوم بوظيفتها على أحسن وجه... 

لكن هناك مشكلة. وللمشكلة طرفان: واحد تحت والثاني فوق. الشرشوح تحت والغربان من فوق. كانت الغربان اللئيمة نكحية ذكية. كانت تراقبنا ونحن نزرع الشراشيح المخيفة في المقثاة، تراقب باهتمام وتأمّل وتفحصّ. كانت في البداية تمتحن الشراشيح فتَغِير على أطراف المقثاة دون أن تنقر شيئًا من خيراتها. كانت تختبر. تضع الشرشوح القريب منها في امتحان. لا أبالغ ولا أزلّ بكلمة. ولمّا رأت أنها تَغِير المرّة بعد المرّة والشرشوح المجاور أو المناوب لا يحرّك ساكنًا فكانت تكتسب ثقة بنفسها وتتمادى أكثر وتدخل المجال الجوّي للشرشوح. والشرشوح لا يهشّ ولا ينشّ. كان الشرشوح الواحد في هذه الحالة ينطبق عليه المثل المألوف عند المسيحيين "مثل كلب المطران لا بعوّي ولا بلحق الغنم". حتى العواء يستثقله كلب المطران ويستكثره. مع أنه كلب ابن كلب. وعند المسلمين مثلٌ يشبهه "كلب الشيخ شيخ". كلب أرستقراطي كلب الشيخ، أو متبرجز، مستهلك كسول. عالة على غيره. كان يحرن لا يقوم بحركة من باب الغنج والدلال. يلهث حتى وهو مستريح في ظلّ شجرة. تعبان من كثرة الراحة. هكذا كان الشرشوح "الفزّاع" بالضبط، مهما بالغنا وتفنّنا في تبشيعه، أشبه بكلب الشيخ والمطران أمام ذكاء الغربان. 

ما العمل؟ إذا كان منظر الشرشوح لا يُفزع أحدًا من الغربان ولا حتى البلابل فكنا نعيدها إلى خطوط الإنتاج لنجري عليها مزيدًا من التحسينات التكنولوجية. وكنا نعلّق عليها من علب التنك كي تصدر أصواتًا مزعجة كلما هبت نسائم واصطدم بعضها ببعض. إذا كان منظر الشرشوح لا ينفع كنا نعزّزه بأدوات مضجّة لعلّ صوته يشفع. وهذه التحسينات أيضًا كانت تخضع باستمرار لاختبارات الغربان. وسرعان ما تكتشف زيفها وخواءها. فتعود وتنقر خيرات الموسم في المقثاة بنوع من التحدّي. بكثير من التحدّي والصلافة هذه المرّة. ومن أين لي أنها كانت تتحدّانا بصلافة؟ لأنّ الغراب الواحد منها كان ينقر البطيخة أو الشمّامة ولا يكمل أكلها، لينتقل إلى أخرى إمعانًا في التخريب من باب المناكدة. البطيخة التي يأكل منها لا يعود إليها، يتركها تخرب بهدوء وصمت بحرارة الصيف الحارقة. صدقًا. أنا أعرف ناسًا كثيرين مثل الغربان إذا تغدّوا من طبخة لا يقربوها في العشاء أو في اليوم التالي. غريب. علمًا أنّ المجدّرة مثلا لا تُؤكل إلا بائتة ومسخّنة بزيت الزيتون. المجدّرة أطيب وهي مسخّنة مثل النبيذ تحتاج إلى تعتيق. على كلّ حال، كان الفلاح في حالة حرب استنزاف على ثلاث جبهات متزامنة: الغربان من الجوّ والأرانب والسلاحف من البرّ والمناجذ من تحت الأرض. الواحد منها يسمّى الخُلد. تسحب رؤوس البصل الطرية وتأكلها عن بكرة أبيها. تقرطها غير آبهة لا بالطعم الحرّيف ولا بالرائحة.  

هكذا قامت الشرشوحية أو صناعة الشرشحة على ثلاث حواسّ مركزية، هي ثلاث أثافٍ كبرى في هذه الصناعة، وكلّ أثفية منها تحمل خلقينة أو دستًا أبا حلق: الرؤية والشمّ والسمع. المنظر المفزع ورائحة البول والصنّة وضجيج التنك. وكانت كلها تفشل أمام الغراب اللعين الواحدة تلو الأخرى. لحاه الله. ولمّا كانت هذه الشراشيح قلّتها أحسن منها، مثل كلب الشيخ والمطران، كنت أنا ومحمّد أخي نحمق ونغضب فنقوم بتحطيمها كلّها كما فعل المسلمون بأصنام مكّة. ويحمل كلّ واحد منّا بيمينه تنكة نضع فيها بعض الحصوات ونخرخش، ونظلّ نخرخش بها ذهابًا وإيابًا في المقثاة. كلٌّ في اتجاه. وفي شماله يحمل قضيبًا مقشّرًا نهشّ به من بعيد على كلّ طير يحاول الاقتراب من المقثاة. كانت الغربان تهاب من الحركة، ترتدع فتنعق باحتجاج، تغادر وهي تنعق. الغربان لا تخاف من المناظر المقزّزة ولا الروائح المنتنة ولا قرع الطبول الفارغة. الغربان تخاف من الحركة. وفي الحركة بركة. ترانا في حركة دائبة فتدرك أنّ هناك حياة على الأرض، حياة حقيقية وليست افتراضية أو مجازية فتخاف وتنقلع... 

وبعد كلّ هذا اللفّ والدوران ما زلت، صدقًا، لا أعرف لماذا أعادتني حكومة السيّد نتنياهو إلى فنّ الشرشحة... فعلا، يخلق الله من الشبه أربعين. أحيانًا يخلق أكثر وأحيانًا أقلّ. 

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب