news-details

في تأمُّل آهةِ دونكيشوت بدويّ| سعود قبيلات

ثمَّة قصيدة بدويّة شهيرة تُستَهَلُّ بكلمة «أوَّاه»، وقد تعوَّدتُ أنْ أردِّد البيت الأوَّل منها كلَّما وجدتني راغباً، لسببٍ من الأسباب، في قول: أوَّاه!

لكن، حين خطر لي أن أكتب موضوعي هذا عن تلك القصيدة، لم أتمكَّن مِنْ تذكّر كلّ أبياتها، فهاتفتُ صديقي القديم «عقاب عقيل»، وتفضَّل مشكوراً بتذكيري بما نسيته منها.

تالياً، أستكشف، بالتَّدريج، بعض المفارقات الطَّريفة والمعاني العميقة (وبعضها متقدّم، بشكلٍ مذهل) الَّتي تنطوي عليها هذه القصيدة.

نبدأ بالمفارقات الطَّريفة.

أُولاها، تتمحور حول هذه الصَّرخة المتحسِّرة الَّتي يطلقها الشَّاعر؛ إذ يصعب عند سماعها أنْ يخطر في بال السَّامع أنَّ موضوعها، الَّذي لا يلبث الشَّاعر أنْ يفصح عنه، هو «التتن» (الدُّخان)!

 

أوَّاه على التتن والتنباك أوَّاه    وأنا بعد التتن وين آوي بروحي

 

هنا، تنزاح مِنْ نفس السَّامع بذور التَّوتّر العاطفيّ الَّتي أوشكتْ أنْ تتسرَّب إليها بسبب تلك «الأوَّاه» الَّتي تعبِّر عن نفسٍ جريحة. وقد تعلو وجهه ابتسامة عابرة خفيفة.. خصوصاً وهو يرى الشَّاعر يُصعِّد موقفه في التَّحسّر على «التتن» إلى حدّ قوله إنَّه لا يعرف أين يأوي بروحه بعده!

وبالمناسبة، كاتب هذه السُّطور – الَّذي ليس نادراً ما يردِّد هذه القصيدة – على عداوةٍ شديدة مع الدُّخّان منذ سنوات طويلة.  

المفارقة الأخرى الطَّريفة، في هذه القصيدة، هي أنَّ الشاعر جعل التَّغنِّي بالدُّخان استهلالاً لها ومدخلاً للتَّعبير عن أفكاره ومشاعره.

وهذا يستدعي إلى الذِّهن صورة القصيدة العربيَّة الطَّلليَّة الَّتي كان الشَّاعر العربيّ القديم يستهلّها بمشهد الوقوف على الأطلال ووصفها. الأمر الَّذي ثار عليه، في ما بعد، الشَّاعر العباسيّ الشَّهير أبو نواس، وسخر منه، قائلاً:

 

قل لمَنْ يبكي على رسمٍ درسْ    واقفاً ما ضرَّ لو كان جلسْ

 

وقد فضَّل أبو نواس، بدلاً مِنْ ذلك، أنْ يستهلّ قصيدته بالتَّغنِّي بالخمر ووصف جمالها. ولكن هذه هي المرَّة الأولى، بتقديري، الَّتي يستهل فيها شاعرٌ قصيدته بالتَّحسّر على الدُّخان والتَّغنِّي به!

 

عَبِّي السّبيل من أصفر اللون واملاه    واِكويه بالجمرة يكوي جروحي

 

هنا، يتَّضح أنَّ الدَّافع العميق لهذه الـ«أوَّاه» ليس الدُّخان حصراً، كما يبدو لأوَّل وهلة، بل رغبة الشَّاعر في أنْ ينفِّس ما في صدره مِنْ حزنٍ وهَمٍّ وغمٍّ بطريقة مواربة.. كي لا يُذلّ نفسه بالشَّكوى الصَّريحة أمام النَّاس. وهذا عدا عن توهّمه أنَّه يمكن أنْ يداوي نيران همومه بنار غليونه («واِكويه بالجمرة يكوي جروحي»).

وبدافع مِنْ أنفته وكبريائه، يكتفي الشَّاعر بهذا القدر من التَّلميح عن همومه، كما أنَّه أيضاً يكتفي بهذا القدر من التَّغنِّي بالدُّخان والتَّحسّر عليه، لينتقل بعد ذلك إلى التَّغنِّي بالقهوة، ولكن بمستوىً آخر من الخطاب، يبدأ على النَّحو التَّالي:

 

ودلةٍ صفرا على النَّار مركاه    وأحمِّص الطَّبخة على كيف روحي

لَنْ صبَّها الصَّبَّاب دمّ الخلنداه    خْضاب الهنوف اللي عند أهلها طموحِ

 

هنا، يتَّضح لنا أنَّ تأوّه الشَّاعر يشمل القهوة أيضاً مع «التتن والتّنباك». إنَّهما موضوعا «الكيف» الأثيران لديه، كما تشي بذلك قصيدته.

بيد أنَّ لـ«الكيف» مفاهيم متباينة، وتبعاً لذلك تتباين مواقف النَّاس منه وتتعدَّد؛ حيث قال شاعر بدويّ آخر:

 

الكيف يا مدوِّر الكيف ما هو دخانٍ يجيب العلال

 

وهذا ما لا يوافق عليه – كما هو واضح – صاحب هذه القصيدة. وهو يحدِّد مواصفات موضوعيْ كيفه، بدقَّةٍ وبلغة توحي بالشَّغف؛ فالدُّخان «أصفر اللون»، وأداة تناوله، هنا، هي «السّبيل» (الغليون) تحديداً، ويجب أنْ تكون الكميَّة الموضوعة منه في الغليون كبيرة جدّاً «عبِّي السّبيل من أصفر اللون واملاه». وهذه إشارة واضحة إلى أنَّ آلام الشَّاعر كبيرة؛ بحيث أنَّه يحتاج لأنْ يكوي «التتن» في غليونه طويلاً؛ لكي يتمكَّن مِنْ كيِّ جروحه تماماً!

وبالنِّسبة للقهوة، فهو يحدِّد أيضاً مواصفاتها، وطريقة صنعها، ووعاءها، ولونها بعد أنْ تنضج؛ لذلك، فهو يحرص على أنْ يحمِّصها بنفسه، وأنْ يطبخها بالطَّريقة الَّتي تلائم مزاجه وذوقه («وأحمِّص الطَّبخة على كيف روحي»).

الدلَّة التي تُطبخ بها هذه القهوة صفراء.. نحاسيّة نظيفة، ويجب أنْ توضع على النَّار بشكلٍ موارب وعلى جانبها وليس بالتَّعامد عليها وفي وسطها («دلّةٍ صفرا على النَّار مركاه»)؛ لطبخ محتواها بهدوء وعلى مهل؛ بحيث تَنتُج عن ذلك قهوة مِنْ نوع خاصّ.. لونها يشبه لون دم الخلد («الخلنداه»)، بل يشبه أيضاً حِنَّاء صبيَّة حسناء ممشوقة القوام خاب أملها في زوجها فتركته وعادت للإقامة في بيت أهلها («خْضاب الهنوف اللي عند أهلها طموح»).

ولأنَّ قهوته خاصَّة ومميَّزة، فإنَّه لا يقدِّمها إلا لنوعٍ خاصّ من الرِّجال الَّذين يحلّون في ضيافته؛ إنَّهم أولئك الَّذين يعتقد أنَّهم يستحقّونها. ويحدِّد أصنافهم على النَّحو التَّالي:

 

صُبَّه ومِدَّه للي تدفق السَّمن يمناه    دُبّ الليالي مارَدَه ما يضوحِ

 

إذاً، فالشَّخص الأوَّل الَّذي يستحقّ أنْ تُقدَّم له هذه القهوة قبل سواه هو الكريم الَّذي مورد كرمه لا ينضب. والكرم، كما هو معروف، قيمة عليا أساسيَّة في المجتمع البدويّ.

 

وْثنِّي على اللي تكره الخيل طرياه    يثني رسنها عند راعي اللدوحِ

 

الشَّخص الثَّاني الَّذي يستحقّ هذا الشَّرف هو، إذاً، الفارس الشُّجاع الَّذي لا تحبّ الخيل ذكر اسمه لأنَّ تجربتها معه تنطوي على الإرهاق والألم والمخاطرة. إنَّه ما إنْ يسمع صرخة المستغيث حتِّى يلوي رسن فرسه ويعود بها إليه لنجدته.

 

وثلِّث على اللي تكره النّفس طرياه    يوضي لو كثرت عليه النبوحِ

 

الشَّخص الثَّالث هو ذاك الَّذي تكره نفس أعدائه ذكر اسمه لأنَّه يصل إلى مبتغاه منهم مهما كانت درجة يقظتهم وحذرهم واستعداداتهم لمواجهته.

أمَّا باقي الرِّجال، فهم، برأي الشَّاعر، خارج هذه الحسبة تماماً:

 

وباقي الرجال فحول نسوان وِرْعاه    حرَّاس مالٍ يتلون السروحِ

 

ولكن، ما يستحقّ التَّوقّف عنده هنا هو أنَّ الشَّاعر يفرِّق بوضوح بين مفهوميْ الرُّجولة والذُّكورة. وهو إذ يمتدح الرُّجولة ضمناً وينظر إليها باعتبارها قيمة عليا سامية، لا ينظر إلى مفهوم الذُّكورة النَّظرة نفسها ولا يرى أنَّ الذُّكورة وحدها تكفي لكي تؤهِّل صاحبها لأنْ يكون رجلاً.. ناهيكم عن أن يكون ذا شأنٍ واعتبار. بل هي، بالنِّسبة إليه، في مثل هذه الحالة، محطّ ازدراء واحتقار.

الذَّكَر، في مثل هذه الحالة، مجرَّد أداة إشباعٍ بيولوجيّ للأنثى (فحول نسوان). وهذا الموقف مخالف تماماً للمفاهيم الذّكوريَّة المهيمنة على المجتمعات العربيَّة الآن، وهي مفاهيم يحاول أصحابها أنْ يديموا هيمنتها ويعزِّزوها بالاستناد إلى شرعيَّة تراثيَّة مزعومة.

ونلاحظ، في هذه القصيدة أيضاً، النَّظرة المتفهِّمة، إنْ لم نقل الإيجابيَّة، الَّتي ينظرها الشَّاعر إلى المرأة «الطَّامح». يتَّضح ذلك مِنْ وصفه لها بأنَّها صبيَّة حسناء ممشوقة القوام وأنَّ لون قهوته المفضَّلة يشبه لون حِنَّائها.

وهذا الموقف الإيجابيّ الَّذي تعبِّر عنه القصيدة تجاه المرأة «الطَّامح» إنَّما هو موقف اجتماعيّ بدويّ معروف؛ حيث لم يكن يقلِّل مِنْ شأن المرأة أنْ «تطمح» عن زوجها إذا ما اكتشفتْ بعد زواجها به أنَّه أقلّ مِنْ طموحها، بل ربَّما بدتْ عندئذٍ محطّاً للإعجاب وأصبحتْ ذات مكانة مميَّزة؛ بحيث لا يعود بإمكان أيّ رجل أنْ يطمح إلى الارتباط بها إلا إذا كان نِدّاً لها ومميَّزاً مثلها.

واستخدام مفردات مثل «طامح» و«طَموح»، للتَّعبير عن هذه الحالة، إنَّما هو أمر ذو دلالة واضحة. كما تؤكِّد ذلك أيضاً كثرة القصائد البدويّة الَّتي تتغنَّى بالمرأة «الطّموح» أو «الطَّامح».

ومِنْ ضمن ما يجدر ذكره هنا أنَّ مكانة المرأة، عموماً، في المجتمع البدويّ القديم، كانت مكانةً مرموقةً ومحترمة؛ بخلاف مكانتها الآن في العديد من المجتمعات العربيَّة الَّتي تنظر إليها كعارٍ يجب ستره وكتمانه.

وقد كان الفارس البدويّ، في الماضي القريب، عندما يهجم على أعدائه، يصيح قائلاً باعتداد وفخر: «أنا أخو فلانه»! أو «لعيون فلانة»! (يذكر اسم أخته الحقيقيّ). الآن، يخجل الرِّجال في بعض المجتمعات العربيَّة بذكر أسماء أخواتهم أو أمّهاتهم!

والمرأة في المجتمع البدويّ القديم كانت شريكة حقيقيَّة للرَّجل وكاملة الأهليَّة والمسؤوليَّة للحلول محلّه في واجباته الاجتماعيَّة، وخصوصاً في ما يتعلَّق بإيفاء شروط كرم الضِّيافة الَّتي كانت تُعتبر ركناً أساسيّاً مهمّاً في المنظومة الأخلاقيَّة والقيميَّة البدويَّة. فعندما كان زوجها يغيب عن البيت لم تكن تستنكف عن استقبال الضُّيوف من الرِّجال؛ ولو أنَّها فعلتْ ذلك، لعُدَّ عاراً عليها وعلى زوجها وعلى أهلها.

ونلاحظ، في هذه القصيدة أيضاً، ازدراء الشَّاعر للرِّجال الَّذين لا يرون مِنْ هدفٍ لحياتهم سوى كنز المال. وهو، هنا، ينفي ضمناً أنْ تكون للمال بذاته أيَّة قيمة إيجابيَّة. المال، عنده، وسيلة وليس غاية؛ ولذلك، فإنَّه ينظر إلى أولئك الَّذين يكرِّسون حياتهم لكنزه مِنْ دون أنْ يصنعوا به شيئاً إيجابيّاً بأنَّهم مجرَّد حرَّاسٍ له. وحيث أنَّ الثَّروة هنا بالنِّسبة للشَّاعر البدويّ (وللمجتمع البدويّ أيضاً) هي الأغنام والمواشي، فإنَّه يصف أصحابها الَّذين ينشغلون فقط بالحفاظ عليها ومراكمة أعدادها بأنَّهم مجرَّد حرَّاس مالٍ يتبعون قطعان مواشيهم.

المجتمع البدويّ يمثِّل حالة وسيطة بين تشكيلتين اجتماعيَّتين، هما: المشاعيَّة البدائيَّة ومجتمع الرَّقيق. لذلك، فهو يحتقر كنز الأموال، انطلاقاً مِنْ نزوعين متناقضين؛ الأوَّل هو النُّزوع إلى المساواة المترسِّب من التَّشكيلة المشاعيَّة؛ أمَّا الثَّاني فهو النُّزوع إلى التَّرفّع الأرستقراطيّ المؤسَّس على بذور التَّشكيلة العبوديَّة.

ومن الواضح أنَّ هذه القيم الَّتي مجَّدها الشَّاعر، بمجملها، تستمدّ جذورها وأهميَّتها مِنْ حياة المجتمع البدويّ. حيث يمثِّل الكرم والفروسيَّة عامليْ أمانٍ وبقاءٍ ضروريّين في مواجهة مخاطر الصَّحراء المترامية الأطراف، ومتاهاتها، وضنكها؛ وتمثِّل قيم الغزو والغنيمة عاملاً ثالثاً ضروريّاً في هذه المعادلة.

أخيراً، يبدو لي أنَّ الشَّاعر، في مجمل قصيدته هذه، إنَّما يتحدَّث بطريقة مواربة عن نفسه قبل أيّ شخصٍ آخر. وحتَّى هذه المراتبيَّة، الَّتي صنَّف بها الرِّجال، إنَّما أراد أنْ يعكس مِنْ خلالها صفات إيجابيّة موجودة لديه هو نفسه أو أنَّه على الأقل يعتقد أنَّها موجودة لديه. ولكنَّ هذه الصِّفات والقيم (كما قيمته هو نفسه في ما يبدو) كانت آخذةً بالتَّراجع والتَّلاشي لصالح قيم بعض أولئك الَّذين أسقطهم مِنْ حسابه؛ أعني «باقي الرِّجال».. «حرَّاس المال الَّذين يتلون السروحِ». وهذا ما يجعله يشعر بالأسى والأسف.

وربَّما كان هذا بالضَّبط هو المنبع الأصليّ والحقيقيّ العميق لتلك الـ«أوَّاه» الجريحة الَّتي أطلقها مِنْ أغوار نفسه البعيدة.

إنَّه دون كيخوته[1] بدويّ.. مِنْ دون أنْ تكون لهذا التَّشبيه أيَّة ظلالٍ سلبيّة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] إحالة إلى بطل رواية «دون كيخوته دي لا مانتشا»، للأديب الإسبانيّ القديم ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا. وقد نُشِرَتْ، للمرَّة الأولى، في جزئين، في العام 1605 والعام 1615.

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب