news-details

في ظلال ظروف الحجر، صدى أيام مضت | د. سميح مسعود

تمرّ أيام الكورونا على وتيرة واحدة دون تغير، وفق منظور خاص بها تخيّم عليه الهواجس من المجهول، وفي غمار سطوتها أجبرني الحجر الصحي الإلزامي البقاء أسيرًا بين جدران بيت غير بيتي، أعيش فيه حياة جديدة لم أعهدها من قبل، أشعر فيها بأنني في عُباب بحر هائج، أجوب آفاق الكون هائمًا، أشد رحالي إلى أماكن كثيرة ملبدة بغيوم الفجيعة، أهبط فيها وأتحسس آلامها ومآسيها الحزينة.

هكذا أعيش في عالم الخيال متنقلًا بين بلد وآخر وأنا في عزلتي في ظلال ظروف الحجر التي تلازمني منذ أيام طويلة. وفي ذات مساء تجسمت أمامي مدينة "مونتريال" التي هاجرت إليها قبل ثلاثة عقود، وائتلف فيها مع أصدقاء لي منذ سنوات، في لحظة اختمرت وجوههم في ذاكرتي، ثم أخذت صورهم تلمع أمام عينيّ، مختلطة بأحاسيس مفعمة بالمحبة، وسرعان ما سمعت صدى أحاديثهم الطلية التي كانوا يرددونها عن الوطن والشتات ومضامين الحياة في مونتريال التي نحيا في كنفها، في صفو أيامها الجارية.

خلال نشوة هذا التذكر، ما هي إلا لحظات حتى تعالى صدى صوت أحد أصدقائي، الذي كان يجمع شملنا، يدعونا دوما عبر الهاتف بصوته الهادئ، لكي نلتقي في أحد المقاهي في الوقت الذي يحدّده في مركز المدينة، نضبط جلوسنا في زاوية هادئة ولا نحس بجلبة أحاديث الناس من حولنا، ها أنا ألحظهم كلهم الآن، أرى قسمات وجوههم في لوحة غائرة في عمق ذاكرتي، وأسمع صدى أصواتهم ورنين ضحكهم، يعلو في خطٍّ تصاعدي بين الحين والحين. 

إنّني شغوف بالعودة إلى تلك الجلسات التي تزدحم بقطوف أحاديث لا تُنسى، أشتاق إلى كل جلساتهم وخاصة تلك الجلسة التي أشبه ما تكون بنزهة خلوية امتزجت بموسيقى أمواج نهر "سان لوران" الذي يعانق مونتريال من كل الجهات، التقينا في تلك الجلسة على متن قارب كبير يملكه أحد الأصدقاء، ورغم أن القارب كان متشبّثًا بالشاطئ إلا أن المكان قد تجلى بمشاهد تشكيلية تمنح سحرًا لا يوصف، الطبيعة آسرة تزهو بمشتقات لونية، يضمها النهر في إطار مكاني مطلق السعة.

 من وحي تلك الأجواء تشكّلت أحاديثنا في تلك الجلسة، تداخلت في تشابكات كثيرة، أتذكر منها الآن حديث صاحب القارب عن تجاربه مع النهر بكل ما تحمله من مضامين، أحسّ بها الآن، أتخيّل رقص الأمواج على الشطآن بتألف متعدد الأصوات، أتتبّع حديثه في حجري الصحي الإلزامي بعيدًا عن "مونتريال" وأحسّ أنه يغدق عليّ فيضًا من المتعة.

أتذكّر ما قاله صاحب القارب بنظرة كاشفة عن تفاصيل رحلاته في نهر "سان لوران" في خضم أمواجه الزاخرة، أذكر منها الآن توقّفه على مقربة من محمياّت السكان الأصليين من الهنود الحمر، الذين استأثروا في حديثه بخصوصية حميمة ونكهة خاصة، نظرًا لعمق مآسيهم بنبض أزلي، طافَ بكلماته عن حقيقة حياتهم الحالية بتفاصيل متلاحقة، وكنا نردّد على وقع حديثه مداخلات عنهم بتعبيرات متدفقة. 

اشتملت رحلاته على بعد مكاني أوسع، حدثنا في سياقها عن رحلة قام بها في أرخبيل الألف جزيرة المتناثرة في نهر سان لوران، التي منحتها الطبيعة صبغة خلود أبدي، وصفها لنا بدقة بتشكيل مرئي يوحي بقدرته على رسم لوحات لها بتكوينات لونية، وبقدرته على الحديث عن ساكنيها من الناس والطيور في حديث طويل دونما انتهاء. 

لا أنسى المقاهي التي كنّا نجلس فيها، تعدّدت... كنا ننتقيها ونحدد ساعة اللقاء فيها، نجلس ونُسرف في الحديث عن كل شيء حولنا، ولا ننسى الوطن بكل أحداثه...نفحات منه كنا نحس بها تهب من هنا وهناك تحيي فينا حياتنا الماضية المليئة بانفعالاتها وأحداثها وذكرياتها.

ذات يوم بينما كنت أسير على غير هدى في شارع "سانت كاترين"، الذي نرتاد مقاهيه دوما في مركز المدينة، توقّفت على مقربة من تقاطع هذا الشارع مع شارع "فورت"، نظرت أمامي فوجدت يافطة صغيرة عليها كلمات تشير إلى مقهى باسم شيراز، دخلت عبر باب مفتوح في أسفل اليافطة، فوجدت نفسي في محل لبيع الزهور تفوح منه أجمل الروائح التي اختلطت بعضها ببعض، فأغرقت حاسة الشمّ لدي بشذى عبيرها.

 للحظة ظننت أنني ضللت طريقي، غير أنني وجدت بعض المارين يتجهون إلى آخر الممر الذي أنا فيه فسرت خلفهم، ثم صعدت إلى أعلى.. فوق درجات سلّم خشبي، وفي الحال كنت في المقهى نظرت يمنة ويسرة فوجدته بنكهة أخرى غير المقاهي العادية، وزاد تعلقي به عندما رأيت عدة نسخ باللغة الإنجليزية من ديوان الشاعر الكبير حافظ الشيرازي مصفوفة على رفوف مثبتة على الجدران، نفس الشاعر الذي تأثر به نيتشه وغوته وآلاف الشعراء في الغرب، وما زالت أشعاره متوهجة في العالم كله بعد خمسة قرون من مماته.

ثم نظرت إلى الطرف الآخر من الجدران فوجدت عدة نسخ باللغة الإنجليزية من دواوين الشاعر الأممي الكبير ناظم حكمت، تراءى لي كطيف عابر يقف أمامي، ازدادت حيرتي واتجهت إلى سيّدة، علمت منها أنها صاحبة المقهى، طلبت منها توضيح السبب في الجمع ما بين الشاعرين، وفي الحال أجابتني بقولها:"أمي إيرانية من مدينة شيراز كانت  تعشق حافظ الشيرازي، تعزف على آلة موسيقية تقليدية، وتهتز بشعرها الداكن المسترسل على ظهرها وهي تغني أشعاره، وكثر ما سمعتها تردد بين الوقت والآخر هذا البيت من أشعاره: "كلماتي تخفي أسرارًا ذهبية لا يصعب إيجادها، ستشفي قلبك من مئة خوف وداء".

وبعد هذا التوضيح عن حافظ الشيرازي، قالت لي وهي تدق على أبواب زمن قديم: "والدي كان رفيقًا لناظم حكمت، حمل مثله الجنسية التركية وسجن معه بناء على انتمائهما للحزب الشيوعي التركي، ثم تمكنا معا ببصيرة عميقة نفاذة الهروب من السجن إلى موسكو، وبعد فترة قصيرة من الزمن التقي والدي بأمي هناك، ومرت حياتهما في دورانها بما يشبه جريان التيار المائي، وبعد موتهما تعاقبت السنين في دورتها المعهودة وأوصلتني إلى مهجري الكندي".

 ثم أنهت حديثها بقولها:"أصبحت ذكرياتي عن حياتي معهما لازمة من لوازمي أردّدها دومًا في تلقائية محببة".

فرحًا بما سمعته منها، لم أخف اهتمامي بالشاعر الشيرازي الصوفي الذي يعتبر من أشهر شعراء إيران، ترتقي الروح بشعره في مدارج الترقي إلى أعلى السماء، وعبرت لها في الوقت نفسه عن ابتهاجي الدائم بقراءة شعر ناظم حكمت، الذي يتّسم شعره بالخلود وسط إطار محكم من الأزمنة.

ردّدت على مسمع محدثتي ما قاله الشاعر الكبير:

أجمل الأيام، تلك التي لم نعشها بعد

أجمل البحار، تلك التي لم نبحر فيها بعد

أجمل الأطفال، هم الذين لم يولدوا بعد

أجمل الزهور، تلك التي لم نرها بعد

أجمل الكلمات، تلك التي لم أقلها بعد

وأجمل القصائد، تلك التي لم أكتبها بعد

بعد هذا اللقاء الذي أفرحني، وعدت صاحبة المقهى أن أحضر قريبًا مع أصدقائي لكي أعرّفهم على مقهاها وخبايا مكنوناته التي تكثف بصريًا ذكريات عن شاعرين من أهم الشعراء.

أخبرتُ أصدقائي عن مقهى شيراز وقرّرنا اللقاء فيه في جلستنا القادمة، وبالفعل التقينا كلنا بعد عصر يوم كانت الشمس تنسج  فيه أشعتها الذهبية على مونتريال من كل جانب، جلسنا في زاوية وسمعنا أغان ترددت كلماتها في آذاننا بصوت خافت، وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث عن الشاعرين الكبيرين حافظ الشيرازي وناظم حكمت، بدأنا باحتساء الشاي من إبريق زجاجي كان يغلي أمامنا بفعل فتيل ملتهب متصل بأسفل الإبريق في تجانس ملحوظ، انساب الوقت في هذه الأجواء ببطء شديد، ثم انفض السامر واتجهنا إلى بيوتنا في وقت كانت فيه مونتريال تغط في سكون الليل. 

أتذكر تلك الجلسة، أرسمها بتلذذ في مخيلتي، وأنا أعيش ظلمة أيام حجري الصحي الإلزامي المتلاحقة بعيدًا عن مونتريال، أتابع مخزونها الخصب من الأحاديث في لمحات خاطفة بكل ما فيها من ألوان متعة حسية، أخفّف بها روتين الحياة المملة التي أعيشها بين جدران وأبواب محكمة الإغلاق...أعبّر عن شوقي إلى تلك الجلسة في غمار تساؤلات كثيرة، أكرّر السؤال تلو السؤال، وأرفع صوتي قائلًا: متى تنتهي ظلمة الكورونا البغيضة وتعود الحياة ثانية إلى سابق عهدها؟

يشرد ذهني مع تلك التساؤلات، أشعر بالضعف تارة، وفي القوة تارة أخرى، يزداد ضعفي عندما أسترق السمع إلى نشرات الأخبار التي يرددها التلفاز، وأزداد قوة عندما أسمع صدى أصوات أصدقائي في هدأة الليل، تتفتح أساريري وأحس بوهج فوانيس مضيئة، ستعيدني ثانية إلى مقهى شيراز، لكي أنشد أمام الجالسين ما قاله ناظم حكمت في إحدى قصائده:

لا تكن أبدًا مغلوبًا

تقدّم تقدّم تعدّ الجبل واجتز البحر

لا تلتفت أبدًا إلى الوراء

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب