news-details

في (قرية الورود).. عربيّتُنا بألف خير

 

الكاهنة نتالي والكاتب إيلان شينفلد شدّا على يديّ الكاتب بحرارة واحترام على سلاسة لغته وَسَبْكِ ألفاظه وحُسْن اطّلاعه على الأدب العبري،وقالا: حبّذا لو تعاملنا باحترام مع لغتهم كما يتعاملون مع لغتنا، والاعتراف بالذَّنْب فضيلة، وقد آن الأوان لتغيير نهجنا الرّسمي! - هذه المداخلة ألقيتْ في مظلّة السلام المشتركة في قرية الورود، ضمن فعّاليّات(مظلّة السلام)التي أصبحتْ تقليدًا سنويًّا منذ عام 2000 ، مساء السّبت 18 /10 /2019.

 

الحضور الكريم من عبريّين وعرب، من جليلنا الأخضر،جليل الشّعوب والأمم! طاب مساؤكم! يُعيبنا البعض منكم بأن لغتنا العربيّة ليست مُيسّرة، بل تتسربل بكثير من القيود والضّوابط التي تعيق تعلّمها واستيعابها لدى الآخرين! لن أجامل أحدًا إذا أصْرَرْتُ جازمًا، بأنّها ليست عقبة كأداء أمام أيّ دارس جاد، ينظر إليها باحترام وواقعيّة ، وأعي تمامًا بأنّ بعضكم مُزوّدٌ بالكثير من التّأطير والتّقزيم والآراء المسبقة كلغة عدوّ بالغِنى عنها وعن صعوباتها، وعن أصحابها والنّاطقين بها من الأغيار والأشرار، كما يُزَيّى لبعض الجَهّلة والمتقوقعين في كهوف الإنزواء والانعزال القسري المفروض عليكم!

عضو الكنيست السّابقة: د.عنات بيركو أعابتْ لغتنا بأنّها تفتقر إلى حرف الp بالإنجليزيّة والعبريّة، ومن هنا لا يوجد شعب فلسطيني ولا دولة! استنتاج غريب عجيب، العبريّة تفتقر إلى ستّة حروف عربيّة: ث خ ذ ض ظ غ، أيمكننا إلغاء الشّعب الإسرائيلي وحضارته، جرّاء هذا الاستنتاج الغيبي! منذ عهد أول رئيس حكومة 1948 ،صدرت تعليمات واضحة،كما يؤكّد ذلك الكاتب : إيلي عمير: ترجموا من كلّ لغات العالَم، ما عدا العربيّة! ومن هنا يبدأ محور الشّر في استثنائنا، ومع ذلك الكثيرون من كتّابنا العرب شقّوا عصا الطّاعة على (خليفة اليهود بن غوريون، كما لقّبه إيلي عمير/ واسمه العربي: فؤاد إلياس ناصح سليم خلاصجي). فُرِضَت اللغة العبريّة علينا مدرسيًّا، لم نخسر شيئًا من الفرض، بل غنمنا مكسبًا حضاريًّا أخرَ نعتزّ به، ولم تُفرض العربيّة على اليهود، فخسروا كنزًا حضاريًّا أوسع بكثير من زميله العبري الذي فقد الكثير من مقوّماته خلالَ تِيْهٍ قارب الـ 2500 عام! وحين جاء إليعيزر بن يهودا(1858 -1922 ) لإحياء العبريّة، لم يجد مفرًّا من اللجوء للعربيّة والاستعانة بقواعدها ومفرداتها.

رغم بعض الاشكالات والضّوابط في القواعد والإعراب وتحريك أواخر الكلمات عندنا، فإنّ لغتنا بالنّسبة لِأختها العبريّة، هي بألف خير وعافية، وكلّ شيء نسبيّ إذا توخّينا نظريّة فيلسوفكم الكبير: ألبرت أينشطاين( 1879 -1955 )الذي رفض بإصرار منصب رئيس الدّولة،لأسبابه الخاصّة.

*عن يساري شاعرة عبريّة معروفة (عليت كارب) واسمها يعني صفوة الشّهد، الشاعر الكاتب: إيلان شينفلد، واسمه يعني شجرة في حقل جميل، كقرية الورود التي نحن في رُباها، وتدير الجلسة الكاهنة المُتحرّرة: نتالي، وهذا اسم فرنسي حروفه اختصار ل ِ (نُجِبَ يسوع تاسع ليناير)، ثلاثة من رجال الفكر اليهود، وبينهما شاعرة عربية رقيقة صاعدة: أمال سويطات/ الجديدة، تبعث الأمل في نفوسنا، تيمّنًا بِـ: آمال/أسمهان الأطرش، ونرجو ألاّ تجلدنا بسياطها الموجّهة ضدّ العنصريّة والتّقوقع، تُصرّ على الكتابة بلهجتها البدويّة المحبّبة علينا جميعًا، وتيمّنًا بالشاعر السّوري المُجيد: عمر الفرّا ، صاحب قصيدة :(كِصة حَمْدة): ما اريدَكْ حتى لو/ تِذبحني بايدَك/ ما اريدك ابن عمّي...وْمثل أخوي/ وْدَمّ وْريدَك/ من دمّ وْريدي/ أمّا خطبة/ لا ياعيني/ لا ني نَعجة / تشريها/ ولا ني عبدة من عبيدك/ ما اريدك/ هذي القصّة/ قصّة حمدة/ حمدة الرّمش الّلي/ يِتْحَدّى/...... وْحَلَفْنْ إنْهُنْ سِمِعْنْ حمدة/ من جوّات القبر تصيح/ تْصيح وْتِنْدَهْ: ما اريدكْ وتقول آمال: أستاذي أحمد درويش نصحني بمواصلة كتابة الشّعر باللهجة البدويّة الأصيلة.

-الشّاعران العبريّان قدّما نماذجَ من شعرهما العبري، نفهمه كما نفهم شعرنا الإنساني، ولدينا حقيقة مألوفة: مُعظم كُتّابنا العرب (حتى المُخضرمون منهم) يجيدون العبريّة بإتقان تامّ، وحين ترجم الكاتب أنطون شمّاس رائعة الطّيّب الذِّكْر إميل حبيبي: (المتشائل) إلى العبريّة: (هَأوبْسيميست)، علّق بعض النّقاد اليهود: أنطون شمّاس يسرق لنا لغتنا العبريّة، ويجيدها أكثر منّا!

الشّاعران العبريّان قدّما نماذجَ من شعرهما العبري، واسمحوا لي أن أقذّم نماذج من كتابتي بالعبريّة، وأتعامل معها باحترام، فقد ترجمتُ إلى العربيّة أعمالًا أدبيّة عبريّة مختلفة: روايات،دراسات، أبحاثًا، شعرًا وأدب أطفال، وكتبتُ باللغة العبريّة الشّقيقة مئات المقالات، منها: مقارنة بين أربعة شعراء:عربيّين : أحمد شوقي وزميله حافظ إبراهيم، وشاعرَين عبريّين هما:حاييم نحمان بيالك وشاؤول طشرنيحوفسكي، الأربعة عاشا في نفس العصر، أواخر القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين، الظّروف، البيئة، أغراض الشّعر، التّطلّعات، التّفوّق ورؤية المستقبل، كلّها متشابهة، وعالجتُ أدبيًّا الكثير من الأعمال الأدبيّة والسياسيّة للكثير من المُبدعين اليهود، كما استضفتث أغلبيّتهم في بيتي القروي، ومنهم مَن خصّني بمقالات إثراء وإطراء، نشرتها مجلّة الشّرق لصاحبها د، محمود عبّاسي،في عدد تكريميّ خصّصه لي عام 2006 .

رحل عنّا خلال الشّهرَين الأخيرين البروفسوران المعطاءان ساسون سوميخ وزميله شمعون بلاص، المقامات المشتركة بينهما كثيرة، أهمّها: كلّ منهما عرّف وقدّم نفسه بثقة حتى ساعاته الأخيرة: أنا يهودي عراقي عربي بغدادي اسرائيلي، لغة أمّي هي العربيّة، واللغة العبريّة هي مُكْتَسَبة في وطني الثّاني،الأوّل تبوّأ منصب رئيس قسم اللغة العربيّة في جامعة تل أبيب، والثّاني رئيس نفس القسم في جامعة حيفا، وقدّ درّسا العربيّة بالعربيّة، وليس بالعبرية كما يفعل البعض، هذان الكاتبان وغيرهما، أثْرَوا المكتبتَين العربيّة والعبريّة، وتركوا بصمات فارقة على مبدأ التّعايش المشترك وأخوّة الشعوب، وظلاّ قدوة حسنة للجميع.

يَعِزُّ علينا جدًّا هذا التّكبّر على لغتنا ولغة يهود المشرق العربي ، بِإيعاز حكومي ورسمي ، تُهمّش لغتنا وحضارتنا مع سبق الإصرار، يتكبّرون ويتجبّرون على عربيّتا والنّاطقين بها، مُستقبلُ إسرائيلَ هنا في الشّرق وليس في أوروبا أو أمريكا، أسواقها وفضاؤها وتجارتها ومكانها الطّبيعي هنا في هذا المشرق الذي يتّسع للجميع، على مبدأ الاستقلال التّام لجميع شعوب المنطقة،واحترام متبادَل.

حين أقدّم نماذج حيّة من الأدب العبري إلى القارئ العربي ، وأترجم أعمالًا أدبيّة للمبدعين: الحلبي السّوري أمنون شموش، المصريّة الإسكندرانيّة ب. عادة أهروني، الكاتب المتألّق: دافيد غروسمان، الكاتبة الشاعرة شلوميت كوهين أسيف (عراقيّة المولد)، والشّاعرة الرّاحلة: دالية ربيكوبتش، الفنّان العاطفي: أريك أينشطاين، الروائيّة دوريت ربينيان، مئير شليف، حاييم جوري و:س، يزهار ، أشعر بكثير من الارتياح للجمع بين الحضارَتين الشّقيقتًين، وعلى درب الشّاعرة العبريّة: راحل بلوبشطاين سيلع القائلة: لَمْ أُعَنِّ لَكِ يا بلادي/ وَلَم أتَباهَ باسمِكِ في البطولات/ يدايَ غرستا فقط شجرة واحدة/ على شواطئ الأردن الهادئة! هكذا أنا غرستُ بعض أشجار التّرجمات الميدانيّة، من باب التّعايش المشترك، والاطّلاع على ثقافة الجار.

عربيَّتُنا ليست فقيرةً مُسْتَجْدِيَةً، ليست دخيلة، ولا قادمة جديدة من وراء البحار والمحيطات، هي على جدول لغات العالَم الرّسميّة، وكثير من شعوب العالم تستعمل أبْجَدِيتها منذ القِدّم. وهذا التعتيمٌ والتهميشٌ المٌمَنْهَجان مع سبق الإصرار، لن يكونا لصالح الدّولة وشعبَيها السّامِيَّين معًا، علينا أن نعامل بعضنا معاملة النّدّ للنّد، واستبدال الأجواء العدوانيّة بأجواء إنسانيّة:كما في الأندلس، وقبل الطّوفان الذي حلّ بنا منذ مطلع القرن العشرين.

لن نفقد الأصالة ولا البوصلة، مهما كان استعلاء واستقصاء واستجهال! نحن هنا معًا، نتوق للوصول سويًّا إلى بَرِّ السّلام والأمان،وعلى ضوء تعاليم الرّسالات السّماويّة الثّلاث. كانوا يتّهموننا باليساربّة والعداء للدولة، وإذا بالتّهمة إيّاها تُطْلَقُ على بعض جنرالات الجيش وقادة أذرعة الأمن المُختلفة! ولماذا ؟ لِأنّهم يُعارضون سلطان زمان ولا يسيرون في رَكْبه وَحَرَمِهِ المصون وَنَجْلِهِ الميمون!

*واسمحوا لي أن أتقدّم بجزيل الشّكر والتّقدير للكاهنة المُضيفة (نتالي) ولزملائها وزميلاتها المرافقين، للإعداد لهذه المنصّة الرّاقية، والأجواء الإيجابيّة، وَلِحُسْن الاستقبال والضّيافة في هذا الكنيس الأنيق الذي يفتح أبوابه على مصاريعها كخيمة أبينا إبراهيم الخليل عليه السّلام. وما نؤكّده أنّ عربيتنا بألف خير رغم الحصار، والخاسر الوحيد هو الجانب المُحاصِر، وعربيّتنا ليست لغة عدو، يَدْرُسُها فقط رجال المخابرات، كما يُوهمون لكم وَيُصوّرون، بل هي لغة أدب وحضارة راقية!

 

كلام الصورة: طبق مشكّل عربي، وبلغة عبريّة تليق بالجميع، من الكاتب، والمهنة إنسان! إن شاء الله!على درب طيّب الذّكر: خليل السكاكيني المقدسي.

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب