news-details

فيلم Parasite - المجتمع النيوليبرالي عاريًا على الشاشة

فيلم طفيلي “Parasite”- الذي دخل التاريخ هذا الأسبوع في حفل توزيع جوائز الاوسكار ليكون أول فيلم غير ناطق باللغة الإنجليزية يحصد الجائزة الرئيسية لأفضل فيلم في العام، هو فيلم طبقي بامتياز فلسلفةً ورسالة؛ إنه محاكمة أخلاقية فلسفية للمجتمع النيوليبرالي والفجوات الطبقية التي يخلقها ويوسعها ويفاقمها، توثيق سينمائي لهذا البؤس المعاصر. الفجوة الطبقية هنا ليست احصاءً ولا تحليلا اقتصاديا ولا خطابا سياسيا بل هي واقع حي مصفوف في مشاهد سينمائية تُضحكك وتبكيك وتلامسك، وتلامسها عن قُرب.
يظهر الصراع الطبقي في ؤقصة الفيلم من خلال عائلتين، واحدة غنية وأخرى مفقرة تعيشان في نفس المنطقة لكن كل في "عالم" مختلف. تجمعهما ظروف الحبكة في مواقف مشتركة فيتمظهر الصراع الطبقي بوضوح وفجاجة غير مقحمة ولا مصطنعة بل واقعية وطبيعية لأبعد حد. القصة الأصلية والذكية بشكل استثنائي تتحدث عن عائلتين متماثلتين، كل منهما مكونة من أربعة أفراد، أب وأم وابنان تعيش كل منهما بفروق طبقية شاسعة، وهذه الفجوة الشاسعة بين عائلتين متماثلتين هي مدار الفيلم الأساسي. لدينا عائلة "كيم كي تيك" المعدمة حيث أفرادها الأربعة بلا وظيفة، تقتات من طي علب البيتزا لأحد المطاعم، وتعيش في قبو لا يطل على سطح الأرض إلا عبر نافذة وحيدة. وعائلة السيد بارك شديدة الثراء والتي تعيش في منزل فاره. ينجح ابن العائلة الفقيرة بتزكية من أحد أصدقائه أن يجد عملًا كمعلم لابنة العائلة الثرية ثم بشيء من الحيلة والخداع تنجح العائلة الفقيرة في أن تعمل بالكامل لدى الأسرة الثرية. ثم تتفجر المفارقات الكوميدية والتراجيدية من التقاء العائلتين تحت سقف واحد.

الصراع الطبقي ظاهر في كل كَدر وصورة ومشهد وحوار يُعبر عنها بشكل كوميدي حينا وتراجيدي في حين آخر، وفي اختلاط ساحر بين الاثنين في لحظات أخرى. فلسلفة الإخراج وفلسفة التصوير وفلسفة الديكور والأداء التمثيلي كلها تخدم بشكل متسق الفلسفة الطبقية للفيلم، كأنها كلها وحدة واحدة في انسجام تام تتحرك بشكل متكامل على خط واحد ومتعدد في آن: شكل أشعة الشمس في بيت العائلة الغنية يختلف كليًا عن شكل أشعة الشمس المتسلل من نافذة القبو الذي تعيش فيه العائلة الفقيرة، المطر ذاته يتساقط بصورة مختلفة في الحي الغني عنه في الحي الفقير. بيت الاسرة الفقيرة مصمت بلا أبواب ولا نوافذ عدا نافذة صغيرة متسخة، تطل على حي خَرب وزقاق يتبول عنده سكير كل يوم. الإضاءة في بيتهم تغلب عليها الظلمة. أما بيت عائلة بارك، فله زجاج شفاف يطل على حديقة واسعة وتظهر أشعة الشمس في الصورة ساطعة ودافئة.
إذًا الفجوة الطبقية هي المحور الذي يدور حوله الفيلم، وهذه الثيمة ليست جديدة على المُخرج جونغ بونغ هو التي سبق ووظفها في فيلم الخيال العلمي "سنوبيرسر" يصورة فانتازية فيه عالم طبقي متخيل تفصل بين الطبقات فيه حواجز حقيقية ملموسة يحميها حراس مع أسلحة، لكنه في هذا العمل، يكتفي بتصوير دقيق للواقع الطبقي، واقعنا الذي نعيشه في ظل المجتمع النيوليبرالي المعاصر، واقع يبدو على حقيقته أشد بؤسًا من أي خيال علمي مرعب. الحواجز التي تفصل بين الطبقات هنا ولا يحرسها حراس مسلحون، ليست مرئية، العائلة الفقيرة استطاعت أن تخترق البيت الفاره وأن تعيش فيه وأن تحلم بتملكه يومًا، لكن الهوة الطبقية تعيد تأكيد فجاجاتها حينما تضطر العائلة الفقيرة أن تعود إلى بيتها في الحي الفقير في يوم مطر جارف- ذات المطر التي تستطيع العائلة الغنية التمتع بمنظره وأفرادها جالسون على الأريكة يشاهدون ابنهم الأصغر يستمتع بخيمته تحت الأمطار في الحديقة- ليجدوه قد دمرته السيول في حي ببنى تحتية مهملة يبعد مسافة مشي على الأقدام عن الأحياء الغنية . يقول بونغ: "في فيلم سنوبيرسر استطعت أن أوصل رسالتي للناس بشكل واضح وقوي. لكن في "طفيلي"، أردت أن أقترب من المسألة على مستوى آخر، أردت أن أنظر عبر مجهر لكل زاوية من زاويا البشر، أن أبصر أكثر المواضيع شمولا عبر أصغر العدسات".
انحياز الفيلم الطبقي واضح، الفيلم يبرر للعائلة الفقيرة تصرفاتها البشعة من أجل تسلق السُلم الطبقي، لا يظهرون كشخصيات شريرة بل شخصيات محببة تجبرك على التعاطف معها، ولا يشير الفيلم بأي حال الى أن فقر العائلة يرجع إلى قلة في "الاجتهاد" أو الذكاء أو القدرات كما تصور الايدلوجيا الرأسمالية، بل ان عدم قدرتهم على تسلق السلم الطبقي عائد إلى طبيعة النظام الوحشي. الفيلم يُبرر "الحقد الطبقي" والانتقام الدموي ويجعل المشاهد يتفهمه. لكن حتى العائلة الغنية، ليست "شريرة" هنا، هي عائلة عادية أيضًا لا تُمنح صفات "شيطانية". الشرير الحقيقي هنا هو المنظومة النيولبرالية.

من هو "الطفيلي"؟!

السؤال الذي يجب الإجابة عليه، من هو "الطفيلي" الذي يشير اليه عنوان الفيلم؟ العائلة الفقيرة التي تعيش في جسد "المضيف"، بيت العائلة الغنية، تستفيد من المعاش الذي يعطونه إياه ويأكلون من طعامهم ويتصارعون مع طفليات أخرى على جسد المضيف، فقراء آخرون يحاولون الاستفادة من فتات العائلة الغنية؟ الحقيقة هي أن الطفيلي الحقيقي هنا هو العائلة الغنية والطبقة التي تمثلها، طبقة الأقلية المرفهة التي تتغذى على جسد "المضيف"- المجتمع وثرواته التي من المفروض أن توزع بعدالة على الجميع، إنها تتغذى على بؤس الفقراء وتراكم ثرواتها على حساب إفقارهم.
الفيلم ينتقل بين الكوميديا والدراما ثم الغموض والرعب والتشويق بسلاسة ساحرة، ثم يقوم في قسمه الأخير بصدم المُشاهد كليًا في إنقلابة غير متوقعة، لأنه ينقلب كليًا على القواعد التي أرساها هو ذاته في القسم الأول والثاني، يمزق التعاقد غير المعلن بينك وبينه كمشاهد بشأن "أي نوع فيلم كنت تشاهد" ويقلب عليك الطاولة. لا يكتفي الفيلم بالمتوقع بتركك مع مسحة حُزن ومجموعة مختلطة من العواطف غير المفهومة المتداخلة والمتشعبة، بل يُصر على تقديم حلول "متطرفة" لصراع الحبكة، لأنه بالأساس يصور واقعا "متطرفا"، صوّرته لنا الأيدلوجيا السائدة على أنه واقع "يومي" عادي نعتاش معه، لم يقم الفيلم الا بنقل حقيقته العارية على شاشة السينما.
هذه الوجبة السينمائية الاستثنائية بفلسفتها كما هي استثنائية بقيمتها الفنية التي تسللت الى حفل الاحتفاء الأكبر في هوليوود، هي بالأساس نفض وهز لأركان الرتابة الهوليوودية، التي لم يكتفِ الفيلم بالتسلل اليها قادمًا من القسم الآخر من الكرة الأرضية، من كوريا الجنوبية، بل حصد كبرى جوائزها في سابقة تاريخية.
يقول مخرج الفيلم بونج جون وهو الحائز أيضا على جائزة أفضل مخرج وأفضل سينارست عن الفيلم: "حاولت من خلال الفيلم التعبير عن عواطف خاصة بالثقافة الكورية الجنوبية، لكن من المفاجأة أن كل الردود من قبل جمهور مختلف حول العالم كانت تقريبًا ذاتها..في النهاية يبدو أننا جميعًا نعيش في دولة واحدة..تُسمى الرأسمالية".

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب