news-details

قبل النكسة بيوم| رشيد عبد الرحمن النجاب

مصادفة عجيبة تجمع القارئ بعناوين الكتب سيما في معارض الكتب، يشدك بعضها بسحر غريب، يغمزك، وربما يهمس إليك مناديا أن خذني، إلا أن حكايتي مع الاختيار هذه المرة مختلفة، ففي زيارة إلى معرض عمان الدولي للكتاب ذات يوم من بقايا صيف عام 2022، لمشاركة صديق قديم  متجدد في يوم توقيع أعماله في جناح "الآن ناشرون وموزعون"،  وقد جمعتنا جامعة المنصورة في دلتا مصر التي تخرجنا فيها،   كما ضمّنا ولا يزال فكر نير لا زلنا نتشبث بأصوله وبعماله وفلاحيه، برغم وهم خادع لآخرين بعبثية هذا التوجه،  وأسعدني أن تجمعنا الكلمة الهادفة المصاغة في إطار أدبي، يكتب هو وأقرأ  ضمن من يقرأون، وأكتب، فيقرأ،  ويعلق بتجرد بعيد عن المجاملة، إنه الصديق إبراهيم الغبيش، طبيب وكاتب، وأديب، ولكنه قبل كل ذلك صديق ، يمتد عمر صداقتنا إلى نصف قرن،  أرشدني خلال تلك الزيارة لمعرض الكتاب إلى عدد من الكتّاب والعناوين في المعرض، ربما لم يكن مصادفة أن تكون جميعها مصرية، فهوى مصر "التي نحب" قنديل  يرشدنا في ليل الظلمات،  وكان أبرز ما أضاءه هذا القنديل مؤلفات الكاتب د. إيمان يحيى، سيما عمله الموسوم "قبل النكسة بيوم" الصادر عن دار الشروق  في القاهرة عام 2022 والذي أنهيت قراءته للتوّ.

 وإن كان الصديق د. ابراهيم أرشدني الى هذا الكاتب فإن لاختيار العنوان كيمياء أخرى مختلفة ومستقلة عن المعرفة والصداقة، “قبل النكسة بيوم" عنوان جاذب لا شك، ترى أي صدفة ربطت هذا العنوان برواية أخرى تتناول النكسة وعنونها الروائي الأردني قاسم توفيق بــــ “ليلة واحدة تكفي" والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر.  وإن كانت النكسة موضوع مشترك في الروايتين، إلا أن التناول مختلف، ففي حين يتناول قاسم أعماق نفس الإنسان العربي المهزوم قبيل النكسة، فإن الرواية التي بين يدي القارئ اليوم تتحدث عن نظام ملتبس له ما له من الميزات التي لا تخفى على أحد، ولكن له سقطاته وموبقاته. والحق أن الروائي صاحب هذا العمل د. إيمان قد أوفى النظام حقه إيجابا ثم سلبا، في إطار من الواقعية التي تسمو بالقارئ وهو يتابع إيجابيات ثورة يوليو  وآمالها  وانعكاساتها سيما في رؤية "كريمة" الفتاة النوبية الطموحة التي تعدت أحلامها سقف عمارة في "شارع قصر النيل" بصفتها ابنة البواب، لتعمل وتواصل التعلم، وتمارس العمل السياسي من خلال منظمات الشباب، طموح  يسمو بها، ويستدرجها لخوض تجربة عاطفية مع شاب من طبقة أخرى، لا تبعد كثيرا إلا أنها مختلفة،  تخوض كريمة التجربة متعلقة بوعود التساوي، وغياب الفوارق الطبقية، لتصطدم بعادات نوبية بالية منغلقة ترفض الزواج البنت خارج المجتمع النوبي، والأقارب على وجه الخصوص،  ناهيك عن أخرى طبقية خاضها الحبيب الموعود  مع عائلته، قبل أن يصطدم بهذا الموقف المتخلف والمتصلب لوالد محبوبته،  يعزز  كل هذه السلبيات اعتقال غير مبرر لحبيبها من الطبقة الوسطى المدافعة عن النظام بحماس متقد،  ليخرج هذا الشاب من الاعتقال  مستسلما، فاقدا للبوصلة، فارا من واقعه، مهزوما فوق ذلك بفعل النكسة، فإلى أي اتجاه قادته تلك الرياح  مرورا بالعمل في الخليج؟!

من رحم انتفاضة يناير عام 2011 يطل الروائي د. ا يمان يحيى على ستة عقود مضت من تاريخ مصر في القرن العشرين وحتى بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ولئن استثنى الكاتب تفاصيل عهد السادات بفداحة سلبياته، ولم يخض في تفاصيل أخرى أكثر سوءا من عهد مبارك والتي قادت إلى إرهاصات ثورة يناير 2011 بالرغم من نتائجها المحبطة.  إلا أن الكاتب يشير إلى ستة عقود هي بداية لثورة يوليو.

تركز الرواية على أحداث يناير عام 2011 وتطل من خلالها تدريجيا على فترة الرئيس الخالد جمال عبد الناصر بكل ما فيها من تفاصيل، وايجابيات،  وآمال عريضة، وطموحات لامست احتياجات الناس حتى تلك المتعلقة بآمالهم وعواطفهم الشخصية، وإلغاء الفوارق الطبقية "ارتباط كريمة بحمزة مثالا"، وأخرى تمثل حماسا للعمل السياسي تحت شعارات الدولة، والإتحاد الاشتراكي، ومنظمات الشباب ، والتخلي عن التنظيمات الأخرى خارج هذا الإطار وإلغائها، "حركة القوميين العرب" كواحد من أبرز هذه التنظيمات، وما تبع ذلك من انقلاب على اليسار بشكل عام والشيوعيين على وجه الخصوص.

 وتشير الرواية إلى الاختلاف بين شعارات الدولة من جهة، وتعاملها الواقعي مع العديد من القضايا الأخرى، مثل قضايا المبعوثين والتفرقة بين العسكريين والمدنيين في امتيازاتهم، ونمو طبقات أخرى ضمن الدولة من المقاولين والمنتفعين والضباط، كما تشير إلى إلغاء الأحزاب الأخرى وضم جميع النشاطات ضمن الإتحاد الاشتراكي، وأن هذا لم يعف بعض الأعضاء من التعرض للمراقبة، والاعتقال، وحتى التعذيب بتهمة الجنوح نحو اليسار "وحدة الشيوعيين" مثالا.

تأتي الرواية على شكل فصول متتالية تشمل ما يمكن أن يعتبر مذكرات شخصية لثلاثة شخصيات رئيسة "كريمة"، و"حمزة النادي، حبيب كريمة"،  والصحفي  "عبد المعطي" ، وتنتقل هذه الشهادات من رواية للواقع المتمثل في  الثورة ضد نظام مبارك، كل من موقعه، إلى قراءات لفترات مضيئة، واعدة،  حافلة بالأمل وبالإشادة بشخص الرئيس جمال عبد الناصر وإنجازاته، إلى أخرى تشير إلى صعوبات وقصور في التعامل مع توفير المتطلبات اليومية للناس، وصولا  إلى غمز في قناة النظام، و تدخله في حرب اليمن،  والآثار السلبية المترتبة على هذا التدخل، وتأثيرها على الحياة اليومية للناس.

يتخلل هذه الفصول ما أسماه الكاتب "فاصل"، يلمح من خلالها إلى قضايا متعددة؛ منها ما يشير إلى ميزات النظام متمثلا في قائمة المصاريف التي تدل على رخص الأسعار في ستينيات القرن العشرين، وأخرى تشير إلى بعض الممارسات التي تدين نائب الرئيس عبد الحكيم عامر، وتشير أخرى إلى نقد سياسي صحافي للثورة، ومفاهيمها، و"معتقداتها"، والتغيرات التي طرأت على هذه المفاهيم ودلالاتها، وتشير هذه إلى صحافة من خارج مصر لاستحالة طرح مثل هذه الآراء من داخل مصر.

وقد تضمنت الفصول الأخيرة من الرواية صورا مرعبة للتعذيب الذي تعرض له السياسيون من ذوي التوجه اليساري على وجه الخصوص، بالرغم من كون الكثير من هؤلاء من اشد المدافعين عن نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، "حمزة النادي" والذي يتحول لشخص نفعي شديد التمحور حول ذاته، والصحفي "عبد المعطي" بتوجهاته السلبية والذاتية أيضا والنأي بنفسه عن مواقع لا يضمن فيها مصلحته، ولا سلامته.

ولعله من الجدير بالذكر أن الرواية تعرضت لأسماء أدبية معروفة في نضالها مثل الراحلين الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، والأديب الأردني غالب هلسا، ونضالها المبدئي المستمر حتى آخر يوم من الحياة، وللأبنودي قصيدة كتبها بعد أن تقدم في السن إشادة بعبد الناصر واستذكارا للجميل من أيامه ومناقبه.

كانت كريمة الشخصية الأقرب إلى طبيعتها، الأكثر صدقا في تصرفاتها، ومشاعرها، وآمالها وطموحاتها للعيش الكريم، للحياة السياسية التي خاضتها بعفوية ولكان بحماس، وللحب والمشاعر الإنسانية التي كانت قادرة على إدراكها حتى في عقدها السابع من العمر.

ثمة دلالات تشير إلى نية الكاتب توجيه رسالة مفادها أن ثورة يوليو 52 برغم ما قدمته من إنجازات إلا أن ثمة ذنوب اقترفتها من خلال ممارسات عديدة أدت فيما أدته من سلبيات إلى التدحرج نهو هزيمة حزيران 67، وربما قصد المؤلف من إغفال تفاصيل عهد السادات وعهد مبارك الإشارة إلى أن هذا كله بدأ قبل النكسة بيوم؟ بسنة؟ ولكن السؤال الحقيقي هل انتهى في يناير عام 2011؟

عمان في 19/03/2023

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب