هل للكتابة النسائيّة خصوصيّة؟ وهل للمرأة الكاتبة لغة أنثويّة خاصّة؟ هذا ما حاولت د. شاهين أن تثبته في دراستها اللغة والأسلوب في الرواية النسائيّة، وحول ذلك انقسم النقاد بين مؤيّد ومعارض كما تبيّن الباحثة في المدخل النظري، فهناك الفريق الذي اعتبر أنّ اللّغة هي واحدة للرجال والنساء، والثاني اعتبر أنّ للمرأة خصوصيّة في الكتابة النسائيّة، أمثال رشيدة بن مسعود، عبد الله الغذامي، محمّد معتصم، محمّد صفوري، ولوسي إيريغاري الّتي ترى أنّ حياة المرأة مليئة بالأحداث غير قابلة للتغيير والّتي تمثّل عمرها مثل: البلوغ، الحمل، الولادة، الرضاعة، إضافة إلى تأثير الأمومة وتربية الأطفال والتي ترتبط بالمرأة أكثر من الرجل. وكلّها أمور تؤثّر على جسمها ونفسيتها، وبالتالي تؤثّر على الموضوعات التي تعالجها في كتابتها وعلى اللغة التي توظّفها.
على أيّ حال المرأة وعلى مدى عصور واجهت تحدّيات وصعوبات وعراقيل اجتماعيّة، سياسية واقتصاديّة منعتها أن تعبّر عن ذاتها أو أن تكتب إبداعاتها أو تنشرها في ظلّ المجتمعات الأبويّة أو الذكوريّة، فكثيرًا ما كانت النساء تكتب تحت أسماء مستعارة، أمثال، ماريان إيفانس الّتي كتبت تحت اسم جورج إليوت والأخوات برونتي اللواتي استعرن أسماء رجال في كتاباتهنّ. وتدريجيًا استطاعت المرأة أن تكسر القيود وتتحرّر من قبضة المجتمعات الأبويّة، وهكذا تعدّدت الكتابات النسائيّة وبتأثير الانفتاح والعولمة على الغرب، أصبحت الكاتبات العربيات أكثر جرأة في كسر تابوهات الثقافة الأبويّة، حتّى أصبحت كتاباتهنّ اختراقيّة في تناول مواضيع مثل الدين والسياسة والجنس، وربما يعود ذلك إلى محاولة من الكاتبات لفرض وجودهنّ من خلال كسرهن للمألوف أو من أجل استقطاب عدد كبير من القراء، ولكن للكتابة النسائية مقوّمات وخصوصيات، وعن طريقها تستطيع الكاتبات تمرير أفكارهن وهواجسهنّ إلى المتلقي، فالكتابة النسائية تتّسم بالذاتية والخصوصيّة، وتُعرف الكتابة النسائية بكتابة الداخل، فحين تكتب المرأة فإنّها تكتب عن هواجسها ومؤرّقاتها وتُخرج ما في داخل كينونتها الأنثويّة إلى العلن، لذلك توظّف أساليب ولغة خاصّة من أجل نقل أفكارها إلى المتلقي.
تعرض د. إخلاص شاهين في دراستها: اللّغة والأسلوب في الرواية النّسائيّة في الأدب العربي الحديث (1958-2008) الكاتبات الرائدات في الكتابة النسائيّة، اللاتي لعبن دورًا بارزًا في نهضة الأدب النسويّ داخل مجتمعات بطريركيّة أبويّة، فتمردن على مجتمعاتهنّ وأبرزن لغة نسويّة خاصّة بهنّ.
أضافت شاهين في دراستها هذه، رصيدًا جديدًا للأبحاث النسائية والنسويّة فكان لها دور هامّ وبارز في قراءة جديدة ومستفيضة للروايات النسائيّة التأسيسيّة (1958-1899) فوقفت على رواية حسن العواقب لزينب فوّاز ورواية بين عرشين لفريدة عطيّة وأروى بنت الخطوب لوداد سكاكيني، مظهرة دور الكاتبات في تناول القضايا الاجتماعيّة والسياسية والتاريخيّة أسوة بتوجّه الكتّاب الرجال في عصر النهضة.
وتخصّص الدكتورة إخلاص شاهين الفصل الثاني في دراسة الروايات النسائيّة الرائدة؛ فتأتي برواية الباب المفتوح للطيفة الزيّات، أنموذجًا، لتبرز قضيّة التماهي بين الكاتبة والبطلة، إذ تستحيل دراسة حياة البطلة وتحليل الخطاب الروائي بمعزل عن حياة الكاتبة وما لعبته من أدوار اجتماعيّة وسياسيّة، لذلك وردت لغة البطلة منطقيّة تراعي تسلسل الأحداث والخطّ الزمني الواقعي وتبتعد عن البعثرة والفوضى.
فيما تخصّص الفصل الثالث، لتعرض رواية حكاية زهرة لحنان الشيخ، أنموذجًا للرواية النسائيّة الجديدة، وهذا ما ينعكس في لغة الرواية في بعدها عن اللغة المعياريّة بحيث تبرز اللّغة الشعريّة الّتي تكثر فيها الانزياحات النحويّة والبلاغيّة، حيث نستطيع اعتبارها لغة اختراقيّة بما يخصّ جسد المرأة، انفعالاته، ووصف العلاقة الجنسيّة مع الرجل بدون ألفاظ بديلة أو مداورة، وهذا ما يعكس كسر التابو اللّغوي المفروض على المرأة في الثقافات البطركيّة.
وفي الفصل الأخير من هذه الدراسة تحت عنوان: الرواية النسائيّة على مشارف الألفيّة الثالثة، تناولت شاهين ثلاث روايات تعكس هذه المرحلة، رواية كم بدت السماء قريبة (1999) للكاتبة بتول الخضيري، ورواية بنات الرياض للكاتبة رجاء صانع، ورواية امرأة الرسالة للكاتبة رجاء بكريّة.
توضّح شاهين في هذا الفصل التزام الكاتبات بالقضايا العامّة الّتي تتعلّق في البلدان العربيّة سياسيًا واجتماعيَا إلى جانب قضايا المرأة، إيمانًا من الكاتبات أنّهن لا يستطعن الخوض في قضايا المرأة الخاصّة بمعزل عن القضايا العامّة. ونستطيع أن نعتبر ذلك تقويضًا للنظريّة الذكوريّة الّتي نظرت إلى النساء نظرة دونيّة، وأنّهنّ لا يستطعن الخوض في القضايا الهامّة والمصيريّة، إنّما تنحصر كتاباتهنّ في المجالات الخاصّة والضيّقة. وهذا ما أكّدته الباحثة بثينة شعبان في كتابها مائة عام على الرواية النسائيّة العربيّة.
تميّزت لغة الروايات في هذه المرحلة بالجرأة، السخرية والإيرونيا السوداء، أضف إلى ذلك، التناصّات، الاستعارات والتشبيهات، واللّغة الترميزيّة، واللّغة التجريبيّة الجريئة.
وهنا سأقف في نقد لرواية امرأة الرسالة لرجاء بكريّة بشكل مسهب كأنموذج على هذه المرحلة، خاصة أنّ رجاء بكريّة من الكاتبات الرائدات في توظيف لغة أنثويّة خاصّة، والتي دأبت على سبر أغوار الذات الأنثويّة، وإظهار معاناتها في المجتمع الذكوري.
تستعرض الباحثة شاهين تطوّر الرواية النسائيّة في فلسطين، مبرزة القضايا التي استحوذت على اهتمام الكاتبات الفلسطينيات كقضية القمع المزدوج الذي تتعرض له المرأة، قمع الرجل وقمع الاحتلال أضف إلى ذلك مسألة ازدواجية الهوية التي تحدّثت عنها بشكل مسهب من خلال رواية امرأة الرسالة أنموذجًا. وهذه هي أزمة غالبية الكاتبات الفلسطينيات اللواتي يعانين من القمع المزدوج.
أظهرت الباحثة رواية امرأة الرسالة والّتي تتحدّث عن علاقة عاطفيّة بين امرأة ورجل، تيارًا روائيّا جديدًا في الأدب النسائي الفلسطيني، فتناولتها بدراسة جادّة ومعمّقة مبرزة الخطاب النسوي فيها؛ حيث يتمظهر هذا الخطاب بجرأة البطلة في إقامة علاقة جسديّة بالرجل، كذلك استطاعت شاهين ايجاد قوالب وتمثّلات لغويّة نسويّة في تناولها هذه الرواية، فوقفت على التشبيهات المبتكرة لدى الكاتبة والاستعارات واللغة المجازيّة الّتي تؤنّث السرد واللّغة. وذلك لأنّ هذا الأدب النسوي يفترض لغة خاصّة بالأنثى هي نتاج عوالمها الداخليّة والنفسيّة والبيولوجيّة الّتي تفرض عليها لغّة مائزة ومتفرّدة تبوح بمكنوناتها وخلجات نفسها، وتخرج المكبوت إلى العلن.
تعرض الدكتورة إخلاص شاهين جرأة بكريّة في علاقتها بالرجل والتعبير عن حاجاتها الجسديّة وفي خروجها عن مألوف السياقات والمفاهيم الأبويّة وهذا ما يميّز الخطاب التجريبي عندما تضع المرأة حرّيتها الجسديّة فوق كلّ المسلّمات والمفاهيم الأبويّة.
كذلك تبرز توظيف الضمير أنا في امرأة الرسالة وهو أسلوب مائز للكتابات النسويّة اللواتي يحاولن فرض سيطرتهنّ على الرجل حين يتعذر عليهنّ ذلك في أرض الواقع، وهو توظيف يظهر قوّة المرأة وجرأتها في إسماع صوتها.
وهذا ما أورده البروفسور إبراهيم طه أنّ توظيف الضمير المتكلّم يُمكّن الكاتبات من السيطرة على النصّ، والكتابة عن حياتهنّ وتجاربهنّ الخاصّة، وعن أفكارهن ومبادئهنّ الّتي يؤمنّ بها، هذا بالإضافة عن استغلال ضمير المتكلّم كاستراتيجيّة للإعلان عن تمردهنّ على مفاهيم الثقافة الأبويّة.
تشير الباحثة إلى أنّ لغة رواية امرأة الرسالة هي لغة شعريّة، تنزاح عن مألوف اللغة، وتخرج عن قوالب اللّغة الذكوريّة، وبما أنّ الرواية تصوّر علاقة حبّ بين امرأة ورجل، ترد اللغة عاطفية تحمل بعديْن "البعد الروحاني الحافل بالكلمات العاطفيّة، غير الحسيّة، مثل الحبّ والعشق، والشوق، والحنين، والحزن، والفقد والروح والقلب. والبعد الجسدي الّذي يستمدّ ألفاظه وصوره من العالم الحسيّ، من جسد المرأة وأدواتها وأشيائها، ومن جسد الرجل، ومن الطبيعة بنباتاتها وأشجارها وثمارها ومخلوقاتها ومن سجّل الأفعال الحسيّة ذات البعد الجنسي بالذات". (شاهين، ص 287).
استطاعت شاهين الوقوف على قوالب لغوية أنثويّة مبتكرة لدى بكريَة: مثل: "انتقت فستانًا خمريًا ضيقًا يلفّ جسدها لفّ قشرة لقرن موزة ممتلئة، حين لبس جسدها أبرز مرونة حارّة لا تليق بكلّ النساء، كأنّ الفستان حينذاك لم يلبسها، بل انمرح على تقاطيعها انمراح الزبدة على قطعة خبز ساخن. وانبعث منه بريق أخذها" (بكريّة، 268-269).
"تبدأ الكاتبة سلسلة صورها بتشبيه جسد البطلة بقرن موزة ممتلئةً والفستان بقشرة الموزة، تنتقل بعدها إلى صورة استعارية وتنسب الفعل اللبس للفستان بدل البطلة أو جسدها، ثم تستدرك بصورة استعاريّة جديدة حين تنسب للفستان الفعل انمرح وتشبّه انمراحه بانمراح الزبدة بحيث تكون تقاطيع جسد البطلة شبيهة بقطعة خبز ساخنة. (شاهين، 289).
كذلك تقف القلق على تعابير وتشبيهات من حقول دلالية خاصّة بالمرأة مثل الحقل الدلالي الذي يتّصل بالطعام والثمار والثاني المتّصل بما يرتبط بأشياء المرأة ملابسها ومستلزماتها وما يقع ضمن اهتماماتها كالحياكة والخياطة وحقول دلالية أخرى ترتبط بجسد المرأة وأعضائها؛ فحين تعبّر عن وقع فعل الخيانة تقول:
"وخزتها العبارة في رسغ يدها وقاع رحمها" (بكريّة، ص280) فالوجع في قاع الرحم هو أنثوي بحت وهذا ما يؤنّث اللغة فتصبح لغة ذات نكهة أنثويّة خاصّة.
كذلك تشير الباحثة إلى الحقل الدلالي المستمدّ من الطبيعة وعناصرها، فتلجأ الكاتبة إلى توظيف الحيوانات والحشرات في تشبيهها لزوجة حبيبها غسّان حين تقول: "مثل الزرافة طويلة كحبل، ووجهها ضامر مثل رأس خيل" _بكريّة، ص 58) وعشيقته "كالدبة الشقراء" (ن.م، ص 146) "وأطلقن إلى الشوارع، كما تطلق إلى المزابل شلعة جراء ضالّة كي تنبش فيها شيئًا تأكله" (ن.م، ص 141).
وتؤكّد الباحثة في دراستها اهتمام المرأة بالتفاصيل فتسترسل في الوصف، وتغنيها بجمالها فلا تُغفل لون البشرة، والشعر والعينيْن وطول القامة والغمّازتيْن، كذلك الأمر بالنسبة لمظهر حبيبها غسّان، عندما تصف البطلة شكله وسماته الرجوليّة، ولون بشرته وعينيْه وشعره وأسنانه من خلال حديثها عنه ووقع ذلك في نفسها.
كما تُظهر الكاتبة وعيّ البطلة بالقضايا السياسيّة من خلال توظيفها لقوالب أنثويّة خاصّة حين تًشير إلى احتلال مدينتيْ عكّا ويافا كما يرد ذلك على لسان رفيقها العراقي كاظم: "عساها فلسطين بخير، قولي، أكو، حررتو يافا وعكّا؟ ما يجوز نشوة تجلسين في مدينة محتلّة. أنتظرك. ... وهذا ما استفزّ مشاعر البطلة على حدّ قول الباحثة حين عبّرت عن مشاعرها قائلة: "فلسطين لم تعد فلسطين، هذه حقيقة، ويافا وعكّا لم تبقيا مدينتيْن ممدودتيْن إلى فوق بل "يافو" و "عكو" بيديْن مكتوفتيْن فوق الصدر ومستسلمتيْن" (ن.م، ص 308) وفي هذه اللّغة تدليل على تهويد المكان متمثّلا بالمدن والقرى الفلسطينيّة.
كلّ هذه الأمثلة، تستطيع أن تؤكّد أنّ الكاتبات قادرات على تطويع اللّغة وتأنيثها، من خلال الخروج عن القوالب اللغويّة الذكوريّة، فالأنثى هي الوحيدة القادرة على تمثيل قضايا المرأة، وما يختلج أعماقها من أفكار، هواجس ومؤرّقات.
وأخيرًا أستطيع القول إنّ الباحثة استطاعت أن تُجيب عن سؤال البحث ببراعة وامتياز، فقد أثبتت الدراسة وجود لغة أنثويّة خاصّة بالنساء من خلال التمحيص والتدقيق في لغة الروايات على مرّ الأجيال، ودراسة عدد من الروايات النسائيّة من مختلف الدول العربيّة.
وأجمل بالقول إنّني استمتعت واستفدت من قراءة هذه الدراسة القيّمة، والمعمّقة، وأنوّه بدوري كباحثة في مجال الأدب النسويّ، أنّ الدراسات الّتي تناولت اللّغة والأسلوب في الرواية النسائيّة هي دراسات نادرة، وإن وُجدت فلم تكن دراسات مستفيضة وشاملة وبمثل هذا الاتقان والعمق. وقد تابع البروفسور محمود غنايم -رحمه الله- هذه الدراسة خطوة بخطوة وحرص على إخراجها إلى النور عن مجمع اللغة العربيّة، لما فيها من قيمة علميّة.
ومن هنا يُمكن القول إنّ هذه الدراسة حقّقت قفزة نوعيّة وكبيرة في مجال البحث العلمي والأدب النسوي خاصّة، والأدب العربيّ عامّة.
إضافة تعقيب