news-details

قراءة في كتاب "المتفائل"، سيرة حياة توفيق زيّاد للكاتب تمير سوريك، ترجمة باسيليوس بواردي| فيصل طه

أصاب الكاتب تمير سوريك  في تسمية  كتاب سيرة حياة توفيق زيّاد الاجتماعية بالمتفائل، هذا العنوان يُمثِّل سيرة حياة توفيق الشاملة بكل تفاصيلها، سيرة لم يحصر حيثياتها توفيق زيّاد في نصٍّ سردي خاص لتلخيص سيرته الذاتية، بل هي متابعة، ورصد، وبحث اعتمده الكاتب سوريك بموضوعية وبأسلوب علمي وبجهود ميدانية متشعبة المصادر، استقاها من الأصحاب، الرفاق، العائلة، المعارف، المنافسين السياسيين الصحافة، الأرشيفات الاسرائيلية وغيرها، وبقدر ما توفرت له، لقد وفّرّت اشعار زيّاد قاعدة خصبة لسيرته العامة التي طغت على التفاصيل، وأبرزت مصداقية الالتصاق المدهش بين القول والفعل، بين الشعر الثوري والممارسة النضالية، وأظهرت ديمومة هذه المصداقية المتينة نحو ثبات اتجاه البوصلة المحرّكة للناس، لصناعة الأمل، والغد الأفضل، لخلق التفاؤل دوما.

 يقول الكاتب سوريك، صفحة (٢١)، من الكتاب: "فإن الشعر ليس المحور الرئيس في هذا الكتاب، الذي أعتبر توفيق زيّاد فيه، أولًا قائدًا سياسيًّا، من الجدير بالذكر أنه خلال أكثر السنوات درامية وتأثيرا في حياته السياسية (١٩٧٤-١٩٩٠)، لم يكتب الشعر، ومع ذلك فإن هوية توفيق زيّاد كشاعر، من جهة، ومحتوى شعره من جهة أُخرى، هما أمران مركزيان لفهم مركزه الاجتماعي والسياسي، ووثيقة صادقة لسيرة حياته، ونافذة على تجربة زياد الذاتية، ولفهم مجرى حياته"، ويحترس الكاتب سوريك بقوله: "أنا لا التزم بتحقيق تحليل أدبي دقيق لشعر زيّاد" (ص٢١)، لهذا فإن اعتماد مضامين قصائده وكتاباته القصصية والنثرية تمثّل مصدرا مركزيا لفهم سيرة حياته الشاملة في كل المستويات، السياسية، الاجتماعية، الأدبية، وإلى إدراك مواقفه ورؤيته العامة. ومن الصفحات الأولى لهذا الكتاب، تتراءى لنا شهادات أصحابه لسمات توفيق زياد في صباه، تجدها شاخصة واضحة "ولدٌ حادُّ اللسان، يعبّر عن نفسه بوضوح، له مزاجٌ مَرِح، متواضع، يحب الناس، لم يكن مغرورا، نزيه، عادل.." (ص٢٨).  أليس هذا هو توفيق زيّاد الذي نعرفه طيلة حياته، وهل نعرفه غير ذلك؟

 الكتاب يرافق ويعرض نشأة وتطور، وصقل شخصية توفيق زياد من طفولته حتى رحيله عام ١٩٩٤، المتأثرة وطنيا من مركبات محيطه، من والده أمين زيّاد (الذي لم يكمل دراسة الطب في دمشق)، والذي قال عام ١٩٥٨ حين سُجنَ ابنه "صبحي"،  توفيق "الموت أفضل من الاضطهاد، أُفضّل أن أرى اولادي يجلسون في السجن لأنهم دافعوا عن مصالح الشعب، على أن أراهم يهتمون بأنفسهم فقط" (ص٧٩).  تأثّر زيّاد من معلميه، من رفاقه النقابيين في مؤتمر العمال العرب الناصرة  في سنوات الاربعين من القرن الماضي، من مكتبة سمعان نصّار والحلقات الماركسية عنده، واضطراره لنسخ كتاب المعّري "رسالة الغفران، كلمة بكلمة، ومن مشاركته المظاهرات وهو في المرحلة الثانوية، ورؤيته لجماعات من الناس (من الشيوعيين)،  يلقون بأنفسهم أمام الشاحنات لمنع الترحيل عام ١٩٤٨، وقد تمَّ اعتقاله الأول لمدة اسبوع العام ١٩٤٩ لاشتراكه في مظاهرة عمالية في الناصرة (ص٥٦)، وقد جرت محاكمته العسكرية لاشتراكه في المظاهرة في شباط،١٩٥٠ ، وسجنه مدة سبعة أيام، ثم تمّ اعتقاله في العام ١٩٥٢ لمدة ثلاثة أسابيع لتعليقه اعلانات غير قانونية (ص٥٧)، وتتابعت نضالاته واعتقالاته، وفرضت عليه الاقامة الجبرية  في منزله من غروب الشمس حتى  شروقها، ومنعه من مغادرة الناصرة لمدة ستة أشهر، عام ١٩٥٤ (ص٦٣)،  بسبب خطابه التحريضي ضد الحكم العسكري، في قرية عرابة البطوف، وعليه أصدر القاضي العسكري عام ١٩٥٥ حكما يقضي بسجنه مدة أربعين يوما (ص٦٧)، انفراديا متنقلا بين سجن طبريا وسجن الدامون، حيث تعرض للتعذيب وللضرب  والصلب، وكان الردّ المتفائل، نشيد الأممية، "شتتونا في المنافي، واملأوا منا السجون، سوف تأتيكم ليالٍ، برقها حتف المنون" (ص٦٨). قبيل الأول من أيار ١٩٥٨، اعتقل توفيق زياد والعديد من رفاقه الشيوعيين في سجن الجلمة عند سفح جبل الكرمل، ومن ثم نُقلَ الى سجن الرملة لمدة خمسة أشهر، وكتب من وراء القضبان "ان يحبسونا .. انهم  لن يحبسوا نار الكفاح، لن يحبسوا عزم الشباب الحر" (ص٨١) ، ثم كتب عند خروجه من السجن " يا شعبي يا عود الند ّ، يا أغلى من روحي عندي، إنا باقون على العهد .." (ص٨٢).

 توفيق زيّاد "كان صانعا للأمل"، أمل في خلق مجتمع يتسم بالمساواة القائمة على الكرامة الانسانية، وبدون استغلال" (ص١٤). كان زيّاد ملتزما بمبادئه الشيوعية، بوضوح وجرأة، كتب عام ١٩٥٩، "قالوا شيوعيون..، قلت أجلهم حمرا بعزمهم الشعوب تُحررُ" (ص٨٥)، وكان في صميمه، أمميا طبقيا عندما كتب عن اضراب عمال آتا في العام١٩٥٧، "فالذي لصَّ خبزكم لصَّ خبزي" (ص٩٢) ، وأبرز طبقيته العام ١٩٦١، "أنا عامل .. أنا انسان.. انسانيتي هي رأس مالي" (ص٩٣). وأظهر عشقه للاتحاد السوفياتي حين زارها لأول مرّة للدراسة الحزبية العام ١٩٦٢، وقال: إنه حقق حلما قديما، فما أن وصل غرفته في موسكو حتى انطلق خارجا متلهفا لرؤية كل شيء في موسكو، "المترو ، أقصر الطرق، مكتبة عامة متحركة، اكتظاظ المسافرين، يرافق هدوء حديقة في يوم ربيعي "، وفي المترو، ضجيج خافت، هامس تُحدثه جلبة تقليب صفحات الكتب والجرائد، "متحف لينين على يسارك، متحف الثورة على يمينك" (ص٩٨)، وأمام ضريح لينين ينشد، "كأني ولدت من جديد، كل الشموس في يدي.. وكل الورود" (ص٩٩). قصائد توفيق تُجسِّدُ رؤيته التقدمية، شيوعيته، انسانيته، ووطنيته العربية الفلسطينية، بجدلية لافتة، وبمسؤولية جمَّة، وبشجاعة، وصياغة أثارت الجدل، وصعَّبت، وعقَّدت الفهم عند البعض القريب والبعيد، فالقصيدة المقاومة" أشد على اياديكم" التي كتبها العام ١٩٦٦، تُبرز هويته القومية، وتلاحم الشعب الفلسطيني الواحد "اناديكم اشد على اياديكم، أبوس الارض تحت نعالكم واقول افديكم... فمأساتي التي احيا ، نصيبي من مآسيكم" (ص١١٠). وتُبَّيْن الموقف النضالي الصامد لشعبنا "ما هنت في وطني، ولا صغّرت اكتافي، وقفت بوجه ظُلّامي يتيما عاريا حافي.. وصنت العشب فوق قبور أسلافي" (ص١١١)، وقصيدة الاصرار على البقاء والتحدّي الآمل، القصيدة الطبقية، "هنا باقون، كأننا عشرون مستحيل، في اللد والرملة والجليل، هنا على صدوركم باقون كالجدار.. ننظف الصحون في الحانات... نمسح البلاط في المطابخ السوداء، .. نجوع ، نعرى نتحدّى، ننشد الأشعار.. ونصنع الأطفال.. جيلا ثائرا وراء حيل" (ص١١٢).  سار زيّاد أبدا، مرتبطا بالمبدأ الطبقي الماركسي، لدرجة انه انتقد العام ١٩٦٦، بعض قصائد محمود درويش في مجموعته "عاشق فلسطين ":" عليه أن يتجاور أكثر مع كفاح الشعوب الأُخرى... وأن يُعمق أكثر توجهه الطبقي"(ص١١٦). 

بعد الخامس من حزيران، حيث انتكس الكثير الكثير، شبَّ الأمل والتفاؤل عاليا، "كبوة هذه وكم، يحدث أن يكبو الهمام، انها للخلف كانت خطوةً، من أجل عشر للأمام" (ص١١٧). وخاطب الاسرائيليين المنتشين بالنصر "لا تقولوا لي : انتصرنا، إن هذا النصر شرُ من هزيمة" (ص١١٧)، انه موقف جريء، واضح، صريح، طافح بالتفاؤل، مُحرِّض للأمل، هذا هو توفيق زيّاد، هذا هو دربه، الذي لم يحد عنه ابدا، موقف مُثقِّف، باقٍ للأجيال القادمة، انه مدرسة فكرية مجبولة بإرادة التغيير، وبإشعاع قاهر للظلم والظلام، قصائده ترصف الأمل، تبدد الخنوع لجبروت القهر والاستغلال، وتمهد الطريق للحياة الكريمة، لمستقبل نيِّر، لأُفق طيِّع المنال. هذا الشعر المتفائل، النابع من فكر، وعمل نضالي لا ينطفئ سريعا كالكبريت، والمتوهج أبدا كنيران المجوس، هذا الشعر الصادق أثار زوابع من الغضب، وعاصفة عامة عند نشر قصيدته حول حرب اكتوبر ١٩٧٣( العبور الكبير)، بادعاء بعض القياديين الرفاق واليسار الإسرائيلي بأن توقيت النشر بُعيد  الحرب مباشرة، كان خاطئا "طويلا كان الليل، طويلا كان، وثقيلا كان العار، ثقيلا كان، وعميقا كان الجرح عميقا كان، وحتى اللقمة كانت، ذلا وهوان، أما الآن، الآن، الآن، فالفرح المسقي دما ينبت في كل كيان، وكيان" (ص١٢٧)، اعتبرت لجنة الكنيست بأغلبيتها، أن القصيدة بمجملها، هي احتفال وتمجيد بالقتل، والحرب، والتعطش لدماء الجنود الاسرائيليين، ولا تتلاءم مع  قَسَم الولاء الذي ادّاه زيّاد كعضو كنيست. "لقد تأثّر زياد من الادانة الواسعة، وقلق على صورته أمام اليهود الاسرائيليين، وادعى أن بعضا من التعابير لم تُفهم كما يجب، وتم تحريفها" (ص١٣١)، وأنهم تجاهلوا السطور الواضحة من القصيدة، مثل: "أكره سفك الدماء.. وصفارات الانذار، أكره أن تبكي أم، زوجة، أكره أن يتوجع طفل، طفلة .." (ص١٣١)، وترجم قصائده القديمة إلى اللغة العبرية، كقصيدته التي كتبها العام ١٩٦٦ "واعطي نصف عمري للذي يجعل طفلا باكيا يضحك، واعطي نصفه الثاني لأحمي زهرة خضراءَ أن تهلك.." (ص١٣٣).

 توجد للشاعر توفيق زيّاد، قصائد انسانية تفوح سلما وبساطة "أنا انسان بسيط، لم أضع يوما على كتفي مدفع،  أنا لم أضغط زنادا، طول عمري، أنا لا أملك إلّا بعض موسيقى توقع، ريشة ترسم احلامي، أنا لا أملك حتى خبز يومي، أنا بالكاد أشبع " (ص٢٨٠)، وبعد ذلك توقف زيّاد عن كتابة الشعر مدة الخمس عشرة سنة القادمة، لانشغاله بالعمل السياسي والبلدي، كما قال، لكنه عاد لكتابة الشعر العام ١٩٩٠ ، وقد ربط بين المحلي والوطني، وبرز ذلك في قصيدته " أنا من هذي المدينة، من حواريها الحزينة، من شرايين بيوت الفقر.. ..."(ص١٦٠)، وقد صاغ نبوءته العلمية الآملة أبدا "لن يستطيع أحد أن يمنع التطور التاريخي، فالدولة الفلسطينية ستقوم، والاحتلال الاسرائيلي للمناطق الفلسطينية وجنوب لبنان والجولان السوري سيزول، فلماذا الانتظار، والثمن تدفعه الضحايا، ليس فقط شعبنا بل، وأيضا من الشعب اليهودي" (٢٧٠ص)، وكانت صرخته الأخيرة في الكنيست  "أنهوا الاحتلال، أنهوا سفك الدماء" (ص٢٧١)، نداء ما زال يجلجل في أجوائنا حتى يومنا هذا، نداء صارخ، نداء قاطع، نداء آمل،  نداء التفاؤل .. نداء زيّاد.

 تأتينا قصائده، تبشر بالحلم الآتي، يلاحق العتمة يبددها، "سيعود شعبي في ضياء الشمس من خلف الحدود" رأيته يكتب أُغنيته الحالمة في وجه الريح "وطني محتلا كان، وطني أصبح حرا والمحتل الغاصب كان، واليوم  تحول ذكرى، لتعانقها أُغنية أُخرى" أحبائي برمش العين أفرش درب عودتكم" "ومن لحمي سأبني جسر عودتكم على الشطين" تفاؤل يتجاوز الرحيل الصادم، يتقدم شامخا، يشدني برقّة إلى مشاريع مخيمات العمل التطوعي، إلى مظاهرات أول أيار، وساحات صبرا وشاتيلا، إلى يوم الأرض، إلى هذه المدينة ، إلى ايامنا النضالية، الى ما  صنعناه بالجد والكفاح والتفاؤل...  إلى دروب القدس الآتية من اريحا، حيث تريّث لحظة ساكنة، لحظة صارخة، صادحة تلتها أُغنية أسمعت الدنيا حُبّا وأمل "من شدّة حبي لبلادي لا أفنى وأموت، ... لكن أتجدد ... دوما أنجدد ... سأعيش وأحيا أتجدد... سأظل إلى أبد الآبدين أتجدد... في وطن الأجداد.. بكم أتجدد". وما زلنا نحفظ ونردد هذا النشيد المتفائل سائرين في دربه نحو القدس..

الكتاب يتجاوز سيرة حياة توفيق زياد إلى سيرة شعب، وتاريخ حزب زياد، إنه يحمل جهدا كبيرا، ويعرض سجلا وافرا، وتوثيقا دقيقا، وبعض التفاصيل التي تحتاج إلى دراسات علمية واسعة لاستكمالها، وإلى ضرورة، شملها بقراءات وندوات أُخرى تتجلى قيمة هذه الدراسة  بالتحليل، ورصد وتوثيق التاريخ النضالي لشعبنا، للحزب الشيوعي الاسرائيلي، وذلك، من خلال مسيرة وسيرة القائد السياسي، الشاعر توفيق زياد وتحثنا على المزيد من الدراسات العلمية، والكتابة الموضوعية حول تاريخ الحزب الشيوعي، والحركة الوطنية في الوطن، والتي تتعرض هذه الأيام إلى التزييف والتشويه من قِبَل أعداء شعبنا، ومن بعض المُستكتبين، والأقلام المأجورة.   

لتكن هذه الدراسة المحفّز المستقبلي لإجراء الأبحاث، والدراسات العلمية، وللنشاطات الثقافية والتثقيفية التقدمية النيِّرة، كي لا نُضيِّع البوصلة التي انتهجها القائد توفيق زيّاد ورفاقه. إنه كتاب مُثقِّف، قيِّم، ممتع، يستحق القراءة، والدراسة، للكاتب الشكر والتقدير والعافية، ولمترجم هذا العمل الكبير الى العربية، البروفسور باسيليوس بواردي، عظيم الشكر والتقدير، ولكل الذين ساهموا بإصداره، كل التحية والسلام، وشكرا لجمعية توفيق زياد على هذه المبادرة الهامة، شكرا نائلة، ام الامين شكرا.

صفورية – الناصرة

 

القيت في حفل اشهار كتاب "المتفائل" في الناصرة، باشراف جمعية توفيق زيّاد للثقافة والفنون

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب