news-details

قصة في حلقتين: مَسارِب ودُروب (1)

كم في الدّروب وأرضِ الرّوم من قدمٍ

                           وجماجم صرْعى ما بها قُبروا

بِقندهار ومن تُكتبْ منيّته

                          بقندهار يُرجّى دونه الخبر

(أغنية لابن جامع)

 

رَشرشات النسمة الوافدة من ملتقى الشمال والغرب، ترقّص أوراق التوت الواسعة المرحة، منها المنبَسطة، او ما ينعطف جانباها للتقارب. بنشيد ناعم شفاف كفَرفرة العصافير الصغيرة الممراحة. وتتعبأ في عبّ الشجرة المترامية العالية، تتنهد هناك بعمق، تروّح عن نفسها بعد هذا المشوار الطويل قبل ان تتابع مسيرتها الهادئة الى الشرق، تنقل معها احاديث وأحداث وذكريات.

عدد من الشيوخ، المُلتَحين، من ذلك الجيل، يفترشون طرّاحات رقيقة باهتة على حصيرة الحلفاء المدعوكة، وقد نبَرت بعض جوانبها وانفلتت، ويتكسون بارتياح وهداة بال على مخدات النخّالة الرخوة، في الظل، حيث تتراقص وتتلاعب فيه بقع الشمس الوامضة بحبور.

يشرّقون ويغرّبون في حديث وذكريات عما شاهدوه وقاموا به او ما وصل اليهم من اجيال سابقة، ذكريات عمرها طويل، لا تقسو الأيام لإحناء ظهرها، ولا يغزوها المشيب. في حديثهم مسارب ودروب، تتواصل وتنقطع وتعود وتلتقي وتتعايش مع الناس، وأنا ابن العاشرة أدور بالقهوة المُرة في فناجين شامية تحمل وشما خفيفا منمنما. وأبي يرمقني، هل أقوم بدوري كما يجب!!

وجوههم، وخاصة جباههم مزروعة بتجاعيد نافرة، حاكتها الأيام وغزلتها كما يحلو لها. لكل واحد صوته المميز، وسحنته، وطريقته في الكلام، هذا يقطمه قطما ويبلع نصفه، وهو راض كأنه أتقن دوره على أتم وجه، وآخر يعرف محط وأصول الحديث، مع فواصل ووقفات، يعلو ويخفت، يعبس وينبسط ويرشق الحضور بنظرات تطلب الاعتراف بمقدرته. حديث وروايات عن المواسم والمواقع والطوشات، عن الكريم والبخيل – إيدُه ماسْكِه – عن الحيايا والسرقات، ورزق الحلال والحرام. رزق الحرام يدخل نفس الانسان كالشعرة ويخرج كالخشبة. والمجموعة تردّ بورع: 

الله يرزقنا رزق الحلال ويبعدنا عن رزق الحرام.

الحديث الغَطوِي عن العزارات والفضايح، والصحبِه والخطيفه يشار اليه بغموض ولكْشات في الخاصرة وهمهمات مرحة باسمة، وشقرقة ضحك صاخب تدمع له العيون، يتبع ذلك: الله يعطينا خير الضحك. ناس وحكايا وأفعال وأعمال في كل شبر من حِكْر البلد. يسوّون من قعداتهم ليرتاحوا، هذا يتربّع، وآخر يمدّ رجليه وقد تخدّرتا من الجلوس، وذاك يقف ويسوّي أذيال قمبازه، حيث تكتّلت تحته، ومن يطقّع أصابعه، ويتجبّد وسنسلة ظهره تكرّ اصواتا مترجرجة عميقة، ترتاح بعد كسل الجلوس.

جارنا مصطفى، هو الوحيد الحَسيس بلا لحية، رغم انه من نفس الجيل. وتخزن ذاكرتي ما رواه الجار عن مشواره الى وادي بوعلي ووعر بُخوخ وتلك المعاصي والزّرْدات، عن العين والحجر المنقوش، مع شخص آخر، توفي، الله أخذ وداعتُه.

هذه العادة عندي لا اعرف كيف بدأت، استيقظ كل يوم مع طلعة الصفّاده، ومشوار الخيط، وقبل ان يُعرف الكلب من الذيب، في الفجر المبكر، في الساعة الرابعة، قبل زرقة الشمس من وراء الجبال، فوقها بقعة واسعة مورّدة نارية تبشر بطلائع الفجر، وتروح النجوم تخفت مهزومة متلاشية من وجه قرص الشمس القادم بتثاقل ووقار. يسرح نظري ويحطّ على الجبال المتجهمة الداكنة الكبيرة، كلا، ليس بسبب العُمر، هذه العادة قديمة قبل عشرات السنين، عادة مِش شْحادِه، وتغيير العوايد صعب، وليس بسبب عشق امرأة، هذا القلق، هو ليس قلقا ثقيلا مقيتا، بل بهجة، من الشباك أتطلع كل يوم الى وادي بوعلي ووعر بُخوخ، ليس كل الوعر الكبير ولا الوادي، بل حصة مما يظهر منهما، الوعر والوادي جيران، صرت احلم بالوصول الى هناك.

 الى الوعر البِكر، شبكة واحدة، واي مكان واي موقع بلا مسارب ودروب، الى العيون والارض والبيادر والمقابر، والجبال وصيَر المعزى والمراعي في الجهات الاربع، عشرات كثيرة من الاسماء، اطلقها الناس، الناس في كل مكان، والموت بين الناس نعاس، والجنة بلا ناس ما بتِنداس. في السماء جلّ السما واسمه، مسارب ودروب بين النجوم المرشوشة هناك في ذلك الفجاج الهائل الغامض، لكل نجم اسمه وعالمه وخصوصيته، من يعرف اسماء كل هذا العالم السحيق، لا اقصد بنات نعش والثريا والميزان ونجمة الصبح ولا حتى كوكب الشمال الرهيب، في جبال الأنادير وفلوعها القطبية يسمونه "المسمار" "يلكاب ينار"، في اكرايينا يسمون بعض النجوم الكوكب الجبار ونجمة بيت لحم. هذا ما قرأته في كتب الرجل الاسطورة، وفي خنادق ستالينغراد، التي جاء احد المُفلسين والمفلّسين وسماها فولْغاغراد. وفي الليل مسارب.

وهذه الغيوم البيضاء والزرقاء الفاتحة والداكنة العابسة تسوقها الرياح الجَفول في الاعالي، وتصوّر منها اشكالا في غاية التنوع والطرافة، بعضها مكدّس تكديسا ثقيلا، ينسحب بتثاقل واتزان وكرامة وعرامة، وغيوم اخرى على شكل قِمم وجبال عالية مفجّمة ومعرّقة بعروق زاهية، وهناك تشحيط ممطوط، مع مسارب ودروب تتسع وتضيق وتذوب، او فلول، مجرد فلول، هاربة او باقية، متأخرة عن الركب المهرول.

وعلى وجوه الشيوخ شلوش وتجاعيد نافرة داكنة، شبكة واحدة مع تواصل وتقاطع، وكيف هذه الايدي بفعل الايام والشّقا، وبعد الشقا بقا. جروح وخدوش ودَركات وكدمات، تواقيع وخربشات تقول: اليوم تعبُه وبُكره ذهَبُه. لو نتعرف على واحد، على اول من نطق بهذه الاقوال والامثال، لنمجّده، والمجد لأخيار الناس، لكل اولاد الحلال.

في البلد مجموعة من الشباب، رأوا في انفسهم مسؤولين عن كل ما يدور في بلدهم، مع توزيعه عمل غير مكتوبة، يعرفون كل مجريات الامور، تراهم مسؤولين في الفرح والكرَه، والمساعدة، هم عنوان، إذا ذُكر اسم واحد منهم، تُعرف البقية، هذا ذكّرني بتلك الصُّرْبة من الرِجال الرّجالِ في قصة عرس الزين لابن السودان الطيب صالح، لا تربط قرابة عائلة او حارة وحيّ، بل ما هو أعمق من ذلك بكثير، بلا تصنّع ولا تظاهُر ولا دعاية، فكأن هذا هو الامر العادي الطبيعي، وكيف يحدث انهم يتواجدون في كل مكان مطلوب: يدبّ خلاف، هم هناك لفَضِّه، يشبّ حريق هم اول من يصل لإطفائه، يُفتح طريق زراعي، او تهديد بهدم دار، هم هناك، يتدخلون في فض خلافات حتى داخل البيت الواحد، كل واحد متخصص في مجال معين، وفي الحياة تشعب وشعاب ومسارب ودروب وكدمات وخدوش، يتصدون "للإجر الغريبة" التي تنوي الشر وتعكير الجو والعَبث براحة الناس، كل الناس، ترى احدهم المسؤول عن العرس والقيام بالواجب، والجنازة، وزيارة المرضى، وضحايا حوادث الطرق وإصابات العمل. ولا يظننّ احد انهم عاطلون عن العمل، كل واحد وشغلته.

ومضت الفكرة كالبرق، هم العنوان المطلوب، للوصول الى تلك المواقع المجهولة، المشكلة ليست في الطريق المعروف المطروق، بل الاهتداء الى مسْرب او فتح مسرب من ذيال الوعر الزاحف فوق الطريق الى هناك، الى العين والحجر المنقوش والشّيّار. زادت اهمية المكان عندما قرأت في الموسوعة الفلسطينية او بلادنا فلسطين عن وعر بخوخ، الاسم يوحي في الموسوعة بغير ما نظن، من شجر الخوخ البلدي، قلّ هذا النوع اليوم، من النادر ان تجد منه، حافظت على شجرتين من الخوخ البلدي، جيلنا يحنّ الى تلك الايام، الى النجاص الخشّابي والقَبريش والتفاح السّكرجي والحاحوم والمشمش اللوزي، وظلت اسماء كروم النجاص، الحدّ بين ارضنا وأرض فرّاضه، وخلة القبريش والرنجس والطيّون والدوالي وجْباب القصَب والريحان وعيون السّمورة والرَّتم... والموبرة...

الشيوخ يتحدثون عن اسماء كثيرة، ولكل موقع ومكان قصص وحكايات من ميّات السنين، كروم الخشب اليوم فيها بيوت عامرة، اما في الماضي البعيد فكانوا يقطعون منها خشب الملّ والسنديان وحتى الميس لسطح البيت الترابي، خشب ورَكْس وبلان وفِرْس ابيض من مرشقة عجلان، وهو ما يسمونه كُركار اليوم، بالزفتة والكركار يشترون الاصوات.

بعدها تأتي مغارة راس الطلَعه. في نْصاص الليالي، والدنيا مدلمسة، مِدّ اصبعك بتْشُفاش، سمع احدهم طَرقا في المغارة، يمكن الرّصد، دخل الى هناك، فوجدها، امرأة العياذ بالله مثل الغولة، تكسر رأس بغل، لتأخذ المُخ وتمخّخ صْحيبها، عندها، تقودُه وتملكُه ويصير مثل الغنمة القرْعا، شُبيك لُبيك عبدَك بين ايديك، في البلد اكثر من عشرين صبية كارهَتْ، ورفضت الغصيبة: ما باخُذْ إلا نَقا عيني، واحدة كادت ان تخصي الرجل الذي غصبوها فيه، اسماء كثيرة عرفت عددا منهن في طفولتي، الواحدة على حِفّة قبرها، مضى لْها عِز، ويقولون لك ان الحُرمة ضلع قاصر، كم واحدة سُميت الأسرة على اسمها، فهي أفْتح من الزوج، قوية، مَلقى، هي ربّ البيت، وهي التي تتحركش في الرجال، هناك نسوان شرّها يُعلّق على الحيطان، على درب الزتون واحدة بَطحت أعتى زلمِه، وأخرى كانت تلبس الحطّه والعقال وتقصد هدفها، وتشكُل الخنجر في زنارها، تدق المهباج في جرن القهوة، قال الفرَس من ورا خيّالها، أي هي الخيّال، راكبة على كتافُه ومْدندْلِه جْريها، ليلة الدخلة هبّشت المغصوبة فيه كأنه طالع من جِب عُليق، دَم مع مسارب.

سأحكي للشباب عن جُرن ابليس، هناك قتَل الشامي غولة عين النوم وسال دمها، والناس لا يشربون من هذا الجرن، وعن دخنوس العين ونبعة القاتِله، كانت المعزى تورد على النبعة وتقيّل تحت شجرة القاتل، اليوم سَملوها، وأخذوا جرانة الحجر عن العيون، باعوها او حطوها في بيوتهم، الناس جْناس.

في وادي القيصريّة كم من شجرة صُفّير معمّرات، فقط في القيصرية، والوادي يحمِل في سنين الخير ويفيض، عميق يشحط الجَمل، في صير الوادي هاشت الذئاب على المعزى وشردقت الشّلعة.

جاء الذيب كما تقول الحكاية، الى الراعي وطلب منه راس معزى وقال: انا جائع، إسمح لي في سخل، رفض الراعي بعد ان شاور المعّاز. راح الذيب واشتكى للنبي الخَضر فقال له:

غار على المعزى، ولذلك نقول يا غارة الذيب، لا يكف عن الشردقة حتى يأتي على كل الشلعة لولا الكلاب، كل حيّ ومعيشته.

عين الذبان فوق الطريق، على زمان قبل، قُتل قتيل، العلم عند الله، خطْلِة مش مقصودة، يد غلَبِه، والقاتل خاف وفَل، قطع الحدود، وراح الناس يفتشون عن المفقود، احدهم رأى الذباب الازرق يطير ويحط هناك، الكثير الكثير منه، على العين وجدوا المفقود قتيلا، وسميت عين الذبان.

سأحكي للشباب في الطريق عن هذه الاماكن، عن المَضبعَة والخرايب والمشيرفه ووادي خْزانِه، وفي الحكايا مسارب ودروب، عن النوم على العِرزان في الصّيرة، وعلى العرزان بلاّن يابس عليه قطاطيع وملابس عتيقة بدل الفرشات، والمعزى في الليل تُعفّط وتجتر وتعنّ وعيونها تبرق، ونحن ننام على العتمة، بعد ان يحل الجرس الثقيل عن رقبة الكُراز، حتى يرتاح منه بعد ان حمله طيلة النهار، كل روح بدها ترتاح.

فليتعرفوا على الكشكول والقلاية، وحليب المعزى البَرشا الحلو، وعلى اسماء المعزى من الوانها: رفْلا كحلا عطْرا سكّا رخْما مَلْحا نَمْرا قطْثا قرْعا خَزْما، دَرْعا، شَعْلا...

على السخلة والصاعورة والقصّيصَه والقفيزه والسّلوبه والجفرا.

على الزبدة والسمنه والقَريشه والمخيض – الشّنينة – شومر وشنينِه طيب وسعر القمح بشَيّب. والسميدة والزيت عامود البيت، وزكاكير اللبنة التِّشرينية، والمسارب والدروب في الحياة، والموت بين الناس نعاس، والجنّه بلا ناس ما بتنداس، وشْقيف الشهيد بُحمدان ابن الصفصاف، وغباطه وعين غبّاطه، نقّطوا فيها الأفندي الملتزم!! أوادم البلد!!

أما عن ارض الخيط والمسارب والدروب فقد كنا وكانوا هناك، 

بلادٌ بها كنّا وكنا من اهلها

  إذ الناس ناسٌ والبلاد بلادُ

(يتبع)

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب