news-details

لا عزاء للرجال

وماذا سيحلّ بكلّ الأرامل والأيتام الذين أضافتهم السنة إلى حساباتها؟

  • سيتدبّرون أمرهم "ما حدا مات وخِلْصَتِ الدنيا بعده".

  • لم أعد أجد الكلمات للتعزية، كيف سنعزّيها؟ 

سألَتْ صديقتها، رفيقتها إلى مجالس العزاء، فلكلٍّ من رفيقاتها وظيفتها؛ فهذه للمشاورة، وهذه للمجاورة، وتلك للمناورة، وتانكَ للمسامرة، وأخرى للمداورة، وهذه للمرافقة، وتلك بهيبتها وهيأتها وقوّة شخصيّتها اختارتْها لعوزةِ مجالس الفرح والترح والعزاء، لأنّها تكره دخول هذه المجالس، وتكره كلّ ما يقال وما لا يقال، و...

  • كرّري كلماتك الّتي تقولينها في كلّ أجر.

وهل تستطيع أن تكرّر ما كانت تقوله؟ إنّها تعرف القتيل، تعرفه؟ هي لا تعرفه فقط، هي تعرف خبايا حياته، ألم تكن زميلته لسنوات في نفس مكان العمل؟ ألم تسمع محادثاته القلقة المحرَجة مع موظّفي المصرف؟ ألم تستمع لمحادثاته مع أولاده يطلبون ويطالبون وهو يلبي ما استطاع إليه سبيلا؛ ومحادثاته الصامتة التي يومئ خلالها برأسه بالإيجاب، دون أن ينبس ببنت شفة مع زوجته، محاولًا أن يمتصّ غضبها كما امتصّ العاشر من الشهر راتبه كلّه ولم يبقِ شيئًا لعشرين قادمين... هي تعرفه، كان يرفض أن يشكو همّه لغير الله تجنّبًا للمذلّة، كان يرفض أن يتعامل مع السوق السوداء كي لا تكون هذه نهايته.

 هل من المعقول أن يكون قد اقترض من السوق السوداء ليبيّض صفحات حياته؟ كلًا، لو كان فعل ذلك، كانت علِمَتْ، كان اغتنى، كان سدّ ديونه، كان اشترى لبناته ما طلبنه، ودفع مستحقّات نادي أولاده، ومستحقّات المجلس المحليّ، وشركة الكهرباء، وشركة الماء، وشركة الانترنت، وشركة الهاتف، وشريكة حياته، وشركة اجتماعيّاته من أعراس وولادات وأعياد، وأعياد ميلاد، وواجبات اجتماعيّة، وعيادات لمرضى من الأقرباء، وشراكته في الدفع الشهريّ لِمن تجمّعن من أرامل في عائلته بسبب الثأر الذي لا ينتهي، هذا الثأر الذي لا أوّل له ولا آخر، ولا سبب له ويحزنون....

ماذا ستقول لزوجته؟ كيف ستعزّيها؟ وقد انضمّت إلى فئة المغلوب عليهم ولا الضالّين.

ستقول لها: زوجك كان زميلًا متعاونًا مع أصدقائه، محبوبًا من الجميع، مخلصًا لعمله ولمرؤوسيه، محبّا لكِ ولأولادكما... هل ستخبرها بما لا تعلمه هي؟ هل ستخبرها بما تخمّنه؟ هل ستخبرها بمشاعر زوجها تجاهها وتّجاه أبنائهما؟ بأيّة صفة ستخبرها ذلك؟ بصفتها زميلته المتنصّتة على مكالماته؟ 

لا. لا، لن تعدّد مناقبه، ولن تكون كالخنساء حين رثت أخاها.

ستعزّيها بالقول المعتاد: "اللي خلّف ما مات"؛ لكنّه في الحقيقة ما مات، لقد قُتِل بالخطأ حسب الادّعاء، إذ كان المقصود شخصًا آخر....

ستعزّيها بالقول: "فليجعل الله مثواه الجنّة"؛ وماذا ستفيد الزوجة جنّة زوجها المقتول إذا كانت ستعيش هي في جحيم الأرض تربّي عائلتها وحدها، وتبكي وحدها، ولا تفرح لا وحدها ولا مع غيرها، وتحاول أن تداوي جرح أيتام يعرفون أنّه لا أمان في هذا العالم، لأنّ الذي من المفروض أن يحميهم، لم يستطع أن يحميَ نفسه من قتلٍ عشوائيّ يحصد من عائلتهم على مرّ سنوات رجالَ العائلة دون توقّف.

ستعزّيها بالقول: "الله يخلّي الموجودين"؛ وهي تعرف بأنّ الأعمار محدودة الأجل، وربّنا سيخلّي الموجودين إلى أن يحين الأوان.

  • ما بك؟ سادكِ صمتٌ طويل، قاربنا على الوصول...

دقّ قلبها عنيفًا حين رأت القماش الأسود منصوبًا كسقفٍ في الساحة، وسمعت نحيب النساء ورنين بكائهنّ، ولمحت ابنته الصغرى تلعب بألعابها في زاوية الدار..

ونظرت في جمع النساء الجالسات وهي تقترب لتعزّيهم.. يا إلهي تلك قرب زوجة القتيل، كانت قد عزّتها قبل أسبوعيْن؛ هل يمكن؟ لا يجوز! أيكون القتيل قبل شهر أيضًا قُتل بالخطأ؟ أين المقصودون بالقتل إذًا؟ أين يختفون؟ لماذا يحمل غيرهم وزر خطاياهم؟ لماذا نشرّع القتل عن قصد أو عن غير قصد؟ لماذا نتّهم الحكومات الغابرة والباقية؟ لماذا نبحث عن السياسيّين لحلّ أزماتنا الاجتماعيّة؟ أهي أزمات اجتماعيّة، أو سياسيّة أو مجتمعيّة؟ أهي العصبيّة القبليّة التي ما زلنا نتوارثها في جيناتنا مع وأد بناتنا وهنّ على قيد الحياة بممنوعاتنا الفكريّة الاجتماعيّة البالية؟ كنّا منعنا القتل بدل أن نشرّعه ونشرعنه خوفًا على عرض العائلة وطولها، وفجأة نكتشف أنّ العائلة التي حمينا عرضها، هي كانت السبب في قتلنا، في قتل أحلامنا، في قتل عائلاتنا وحاضرنا ومستقبلنا.. ستقول للجميع بعد عزاء زوجته، لو تنازلتم عن جاهليّتكم لَما وصلْنا إلى هذا الكمّ من الأرامل والأيتام، يا مجتمعًا ييتّم أبناءه باسم المال والحبّ والشرف والقرف، ويرمّل بناته باسم "الرجولة"... ستقولها بصوتٍ عالٍ، لا حياء في الحقّ.. ولا حياة لمن تنادي...

اقترَبَت من زوجته وكلّ سيناريوهات العزاء تتراكض في عقلها، احتضنتها، بكت الثانية على كتفها وبادرت بعزاء نفسها: كنتِ أختًا له، وستكونين أختًا لي في فراقه.

رفعت رأسها عن كتف زوجة القتيل؛ أختها، زوجة أخي تكون أختي.. قالت لها معزّيةً، نظرت في عينيها رأت كلّ تصديق الدنيا، رأت وراء البؤبؤ كلّ حزن الدنيا ونفاقها، ورأت في البياض سوادًا ظلامه معجزة، خافت وتراجعت.. وتراجعت معها كلّ كلمات العزاء.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب