ترجمة: جريس جريس
خاص بـ"الاتحاد"
في عام ١٩٧٥ دعا باحثون من جامعة ستانفورد مجموعة من الطلّاب الجامعيين للمشاركة في دراسة حول الانتحار. عُرض عليهم خلال التجربة أزواج مختلفة من رسائل (ملحوظات) الانتحار، في كل زوج من الرسائل كان هنالك رسالتين كُتبت احداهن اعتباطيّا على يد شخص تم اختياره عشوائيًا، وأخرى كتبت على يد شخص قد انتحر بالفعل. كان على الطلّاب أن يميّزوا بين الرسائل الحقيقية والمزيّفة.
اكتشف قسم من الطلاب انهم كانوا "عباقرة" عند انجازهم لتلك المهمة، حيث كان بمقدورهم التعرف على ٢٤ رسالة انتحار حقيقية من أصل ٢٥. أما القسم الآخر من الطلاب قد شعر بأنه عديم القدرة وغير كفؤ للقيام بمهمة كهذه، حيث تعرّفوا، بالمعدل، فقط على رسالة حقيقية واحدة من بين كل ١٠ رسائل.
لكن كما هو الحال عادةً في الدراسات النفسيّة، كان مجمل الدراسة عبارة عن خدعة، مع ان نصف الرسائل كانت حقيقية فعلًا، حيث تم الحصول عليها من قسم الطب الشرعي لبلدية لوس انجلس، لكن النتائج كانت كاذبة. الطلاب الذين تم أخبارهم بأنهم كانوا شديدي الدقة بتعرّفهم على الرسائل الحقيقية، لم يكونوا بالحقيقة إلا على ذات القدر من الدقة كحال زملائهم اللذين كانوا تقريبًا دائما على خطأ.
كُشفت الخدعة في المرحلة الثانية من الدراسة، أُخبِر الطلاب أن هدف التجربة كان قياس ردة فعلهم بالاعتقاد سواء كانوا على صواب أم على خطأ. (وهذه، كما سوف يتّضح لنا لاحقًا كانت أيضا خدعة).
بالمرحلة الأخيرة، كان على الطلاب التخمين كم من رسائل الانتحار قد صنّفوا على صواب وكم كان باعتقادهم قد أصاب سائر الطلاب في تصنيفهم للرسائل. وهنا تحديدًا حدث أمر مثير، فطلاب المجموعة ذات النتائج العالية، اعتقدوا انهم قد حققوا نتائج أفضل بكثير من الطالب المتوسط- مع انهم قد أُخبِروا للتو أن لا سبب لديهم بأن يعتقدوا ذلك. وعلى العكس، أولئك اللذين دُرّجوا في المجموعة ذات النتائج المنخفضة اعتقدوا بدورهم انهم أحرزوا نتائج أقل بكثير من الطالب المتوسط- بالرغم من أخبارهم للتو بعدك وجود أي سبب يجعلهم يعتقدون ذلك.
صرّح الباحثون بلهجة جافة، بعد معاينتهم للتجربة: "أن الانطباعات، بمجرد تشكّلها تغدو ثابتة ومتّسقة بشكل ملحوظ".
بعد بضعة سنوات، تم تطويع بعض الطلبة من جامعة ستانفورد لدراسة مشابهة، استلم الطلاب رسائل صغيرة عليها بعض المعلومات عن رَجُلي اطفاء، فرانك ك وجورج ه، في سيرة فرانك، ضمن أمور أخرى، كُتب ان لديه طفلة صغيرة وانه يهوى رياضة الغوص. ولجورج كان طفل صغير وهو من هواة رياضة الغولف. تضمّنت الرسائل ايضا على ما اسماه الباحثون اختبار الخيار المغامر-المتحفّظ. صيغت احدى الرسائل بوصفها لفرانك على انه رجل إطفاء ناجح، حيث اختار تقريبًا بشكل دائم الإمكانية الآمنة (المتحفظة). في الصيغة الثانية اختار فرانك الإمكانية الآمنة أيضا لكنه وُصف على انه رجل إطفاء رديء، إذ قام المشرفون عليه بتقديم عدة تقارير عنه. مرة أخرى، بمنتصف التجربة، أُخبر الطلاب بأنهم خُدعوا، وان المعلومات التي استلموها كانت مغلوطة تمامًا. طُلب من الطلبة بعد ذلك أن يشرحوا قناعتهم، ما هو موقف رجل الإطفاء الناجح اتجاه المغامرة/المخاطرة؟ اعتقد الطلبة الذين استلموا الصيغة الأولى من الرسائل انه (أي رجل الإطفاء الناجح) سوف بتجنّب المخاطرة، أما أولئك الذين استلموا الصيغة الثانية فكانوا مقتنعين انه سيتبنّى السلوك ذو الطبيعة المُخاطِرة.
حتى بعد إظهار البينة، ودحض قناعاتهم، يفشل الناس في إعادة النظر بقناعاتهم بشكل يتلاءم مع البيّنات/الأدلة. وفي هذه الحالة، الفشل كان "مدهش بشكل بارز" كما صرّح الباحثون، إذ لا يمكن لمعطيين فقط أن يشكّلوا قاعدة متينة من المعلومات تمكننا من التعميم (الاستنتاج).
باتت دراسات ستانفورد معروفة، وخصوصًا انها صدرت عن مجموعة من الأكاديميين في سنوات السبعين، إذ كان الادعاء أن الناس ليسوا قادرين على التفكير السليم صادم. لكن الصدمة لم تدم طويلًا حيث أن آلاف التجارب اللاحقة عززت مصداقيتها (بل توسعت واستفاضت) بناءً على نتائجها. يعرف كل من تابع الأبحاث – أو حتى من تصفّح بين الفينة والأخرى نسخة من مجلة "علم النفس اليوم" أن أي طالب متخرّج لتوه وبواسطة حافظته الصغيرة بمقدوره أن يبرهن لنا ان أولئك الناس اللذين يبدون ظاهريًا على قدر لا بأس به من المنطق السليم، هم بالحقيقة ليسوا عقلانيين اطلاقًا. نادرًا ما كانت هذه الرؤية تبدو صائبة وذات صلة بواقعنا الحالي كما تبدو عليه اليوم. لكن المعضلة الجوهرية لا تزال غير محلولة: كيف غدونا (نحن البشر) لنصبح على هذه الحال؟
في كتابهم الجديد "أحجية العقل¹" (جامعة هارفرد) يحاول عالميا الادراك هيوغو ميرسير ودان سبيربير أن يجيبا على هذا السؤال. ميرسير يعمل في مؤسسة فرنسية في مدينة ليون، وسبيربير مرتكز بجامعة وسط – اوروبية في بودابست، قد أشار الاثنان على أن التفكير العقلاني هو صفة تطوريّة تمامًا كالمشي على القدمين² والرؤية ثلاثية الألوان. ظهرت جميعها في سفانا أفريقيا ووجب أن تُفهم في هذا السياق.
عند تجريده من الكثير مما قد ندرجه تحت تسمية علوم الإدراك، فأن إدعاء ميسرسير و سبيربير قد يصاغ بصورة ما كالتالي: إن أكبر أفضلية للبشر على بقية الكائنات تكمن في قدرتهم على التعاون. من الصعب توطيد التعاون وكذلك من الصعب استدامته. إذ يكون التطفل دائمًا النهج السلوكي الأنفع/الأجدى لأي فرد. العقلانية لم تتطور من اجل حل المشاكل المنطقية المجرّدة أو من أجل مساعدتنا على الاستنباط من معطيات غير مألوفة، بل انها تطورت من أجل مواجهة المشاكل الناجمة عن العيش في مجموعات تعاونيّة.
"التفكير العقلاني بمثابة تكيّف للمكانة الاجتماعية الفائقة التي طوّرها البشر لأنفسهم". بحسب ميرسيير وسبيربير؛ أنماط تفكير قد تبدو غريبة أو حمقاء أو ببساطة مغفّلة بوضوح من وجهة نظر "تعقليّة"، لكنها قد تبدو ألمعية إن نُظر اليها بمنظار "التفاعليّة" الاجتماعية.
إن أمعنا النظر بما قد أصبح يُعرف "بالانحياز التأكيدي"، أي ميل الناس لاحتضان المعلومات التي تدعم معتقداتهم ورفض تلك التي تتناقض معها. نجد أن الانحياز التأكيدي يتصدّر قائمة المغالطات الادراكية من بين عدة مغالطات ادراكية تم رصدها (تشخيصها)، انه موضوع كُتُب دراسية كاملة جديرة بالتجربة. أشهرها كان، مرة أخرى، تجربة أجريت بجامعة ستانفورد. عندما حشد الباحثون مجموعة من الطلاب ذوي الآراء المتعارضة فيما يخص حكم الإعدام، نصف الطلبة كان مع حكم الاعدام بحجة كبحه للجريمة، والنصف الآخر كان ضده بحجة ان لا تأثير يُذكر له على الجريمة.
كان على الطلبة الاستجابة لدراستين، إحداهما تزوّد بمعطيات تدعم حجة الكبح، والأخرى تعرض معطيات تبعث على التشكيك بها. الدراستان -كما خمّنت- كانتا مُلفّقتين، وكانتا مصممتان لعرض، ان تحدثنا بموضوعية، إحصائيات مقنعة بشكل متساو. الطلبة مناصري حكم الاعدام قيّموا المعطيات الداعمة لكبح الجريمة على انها ذات مصداقية عالية، والمعطيات المناقضة لحجة الكبح على انها غير مقنعة؛ الطلاب اللذين عارضوا بالأساس حكم الاعدام فعلوا العكس تمامًا. في نهاية التجربة سُأل الطلبة عن رؤيتهم؛ أولئك اللذين بدأوا التجربة كمؤيدين لحكم الإعدام كانوا الآن أكثر دعما له، وأولئك اللذين عارضوه، أصبحوا الآن أكثر عدائية اتجاهه.
إذا كان التفكير العقلاني قد صُمم من أجل توليد الأحكام الموضوعية، فعندها من الصعب تصوّر علة حَرجة في ذلك التصميم أكثر من الانحياز التأكيدي. فلنتخيّل فأرًا يفكر بالطريقة التي نفكّر بها، كما يقترح ميرسيير وسبيربير" فأرًا عزم على تأكيد اعتقاده بان لا وجود للقطط في المنطقة" سيتحول قريبا لوجبة عشاء. لدرجة أن الانحياز التأكيدي قد يقود الناس الى رفض أدلة على تهديدات جديدة او تلك التي لا تحظى منهم بالتقدير الكافي – المقاربة البشرية للقط خلف الناصية – أنها ميزة كان ينبغي أن لا تُنتقى (وفقًا لمبدأ الانتقاء الطبيعي لنظرية التطور، المترجم). لكن حقيقة اننا والفأر قد نجونا، كما يجادل ميرسيير وسبيربير، تثبت لنا انها (أي ميزة الانحياز التأكيدي) يجب أن تكون ذات وظيفة تكيفيّة، وهذه الوظيفة، كما يدّعيان، لها علاقة بقدرتنا الفائقة على التفاعل الاجتماعي.
ميرسيير وسبيربير يفضّلان استخدام مصطلح " انحياز بصفي³". البشر، مثلما ينوّهان، ليسوا ساذجين بشكل اعتباطي. عندما نواجه حجة شخص ما فاننا بارعين في رصد نقاط الضعف، لكننا بشكل شبه دائم نكون مكفوفين عن رصد مواقفنا نحن.
تجربة حديثة قام بها ميرسير بمشاركة طاقم من زملائه الاوروبيين، أظهرت بدقة هذا التباين. طُلب من المشتركين أن يعالجوا إشكاليات منطقية بسيطة، ومن ثم شرح أجوبتهم، بالإضافة الى ذلك، أعطي الطلبة هذه المرة فرصة لتعديل أجوبتهم إن وجدوا بها أخطاء. كانت الغالبية راضية عن اختياراتها الاصليّة؛ أقل من ١٥% منهم بدّلوا آرائهم بالمرحلة الثانية.
بالمرحلة الثالثة، عُرضت على الطلبة إحدى تلك المشاكل مع إجابتهم عليها، بالإضافة الى إجابة مشترك لديه استنتاج مغاير. مرة أخرى، كانت لديهم الفرصة على تغيير أجابتهم. لكن الحيلة كانت تكمن في أن الإجابة التي عُرضت عليهم على أنها إجابة شخص آخر، لم تكن إلا أجابتهم هم، والعكس صحيح. نصف المشتركين أدرك ما يحدث. أما في صفوف النصف الآخر أصبح المشتركون أكثر نقدًا. ما يقارب ال ٦٠% رفضوا الإجابة التي سبق ورضوا بها.
هذا الانحياز، كما يوضّح ميرسير وسبيربير يعكس المهمة التي تطوّر الفكر العقلاني من أجل تأديتها، وهي وقايتنا من أن نقع في مكائد قد ينصبها لنا أعضاء من مجموعتنا. أسلافنا الذين عاشوا في مجموعات صغيرة من الصيّادين وقاطفي الثمار كانوا بالمقام الأول قلقين حيال مكانتهم الاجتماعية، وحرصوا ان لا يكونوا بين هؤلاء اللذين يخاطرون في حياتهم خلال الصيد، بينما يتسكع الآخرون بالكهف. كانت هنالك أفضلية في التفكير العقلاني النقي، بينما كانت الأفضلية الأكبر تقبع في الفوز بالنقاشات.
ضمن أمور أخرى كثيرة لم يعير أسلافنا اهتمام، لتأثير حكم الإعدام على نسبة الجريمة أو ماهية شيم رجل الإطفاء المثالية. حتى أنهم لم يتصارعوا البتة مع دراسات مُلفّقة، أو أخبار كاذبة أو منصات تواصل اجتماعي. لا عجب إذا حين يخيّب التفكير العقلاني أملنا، كما صرّح ميرسير وسبيربير: "إن هذه حالة من بين عدة حالات تغيّرت فيها البيئة بسرعة أعلى مما يستطيع الانتقاء الطبيعي إدراكه.
سيفان سلومان برفيسور في جامعة براون وفيليب فيرنباخ بروفيسور في جامعة كولورادو، هم أيضًا علماء في مجال العلوم الإدراكية، يعتقدان كذلك أن القدرة على التفاعل الاجتماعي هي مفتاحية من أجل فهم كيفية عمل العقل البشري، أو ربما كيفية قصوره عن العمل إن أردنا أن نكون دقيقين. حيث افتتحوا كتابهم "وهم المعرفة: لماذا لا نفكّر بمفردنا" بنظرة الى المرحاض.
بالواقع، كل من يعيش بالولايات المتحدة والدول المتقدّمة على دراية بالمرحاض. يحتوي المرحاض التقليدي على حوض سيراميكي معبأ بالماء، عندما نضغط على المقبض أو ندفع بالزر، يتم سحب الماء والفضلات الى ماسورة ومن ثم الى شبكة الصرف الصحي، لكن كيف تتم هذه العملية؟
في بحث من جامعة ييل، طُلِب من الطلبة تقييم مدى فهمهم لبعض الأجهزة يومية الاستعمال، كالمرحاض، السحّاب، والقفل الأسطواني. وبعدها طُلب منهم أن يدلو بالتفاصيل وشرح طريقة عمل ذلك الجهاز خطوة بخطوة ومن ثم (أي بعد ان يحاولوا الشرح بالتفصيل، المترجم) تقييم مدى فهمهم من جديد. لقد بيّن ذلك المجهود للطلبة مدى جهلهم بجلاء. لأن تقييمهم الشخصي قد انخفض. (المرحاض، كما اتضح لهم، أكثر تعقيدًا مما يبدو عليه.)
سلومان ووفيرنباخ يرصدان هذه الظاهرة في جميع المجالات ويدعوانها ب "وهم عمق التفسير". يعتقد الناس أنهم يعرفون أكثر بكثير مما يعرفونه بالفعل. ما يجيز لنا بالحقيقة أن نُصر على اعتقادنا هذا هم الآخرون. لنأخذ حالة المرحاض، مثلًا، صممه شخص آخر ليمكنني من استخدامه بسهولة، وهذا أمر يبرع به البشر، لقد تعلّمنا أن نثق في مهارات بعضنا البعض منذ أن أجدنا كيفية الاصطياد سوية. قد تكون هذه الميزة مفصليّة في سيرورة نموّنا التطوريّة. نحن نتعاون بفاعلية جيدة جدًا، كما يوضح سلومان وفرينبخ، لدرجة تصعّب علينا الإشارة أين ينتهي فهمنا وأين يبدأ فهم الآخرين.
" تتجلى إحدى تداعيات البداهة (الطبيعيّة) التي نقسّم بها العمل المعرفي"، كما يصرّحان، بأنه "لا وجود لحد واضح بين أفكار ومعرفة فرد واحد وتلك الخاصة بأعضاء المجموعة الآخرين"
غياب الحد هذا، أو الارتباك، إن اردتم، يشّكل أيضا عاملًا حاسمًا لما نعتبره تقدّم. عندما ابتكر البشر أدوات جديدة ساهمت بدورها بصياغة أساليب عيش جديدة، خلقوا عندها عوالم من الجهل، إذا أصر كل من أراد أن يقتني سكينا على إتقان قواعد تصنيع المعادن، لما كان العصر البرونزي قد وصل الى ما وصل إليه. عندما يتعلق الأمر بتكنولوجيا جديدة يكون عدم الفهم الكامل بمثابة أفضليّة.
في حين، أن ذلك يوقعنا في شاكل، وفقًا لسلومان وفيرنباخ، في مجال السياسة، اعتقد ان ثمة اختلاف بين غسلي للمرحاض دون معرفتي بكيفية عمله من ناحية، ومن ناحية أخرى أن أدعم (أو أعارض) منع الهجرة دون أن أفقه شيئًا بالخصوص. يستشهد سلومان وفيرنباخ باستطلاع أُجري عام ٢٠١٤، فترة وجيزة بعدما اجتاحت روسيا شبه جزيرة القِرم الاوكرانية. طُلب من المشتركين ان يعبّروا عن آرائهم إزاء ردة فعل الولايات المتحدة بذلك الصدد، وإن كان بمقدورهم التعرف على اوكرانيا بالخريطة. كلما ازداد تعثرهم بالجغرافيا كلما ازدادت ارجحيتهم على دعم التدخل العسكريّ. (كان عدم تيقّن المشتركين بموقع اوكرانيا كبيرًا لدرجة أن وسيط التخمينات كان خاطئ ب ١٨٠٠ ميل، أي ما يقارب المسافة بين كييف ومدريد).
استطلاعات بقضايا أخرى أتت بنتائج مفزعة بذات القدر. " كقاعدة: مشاعر قوية بشأن قضايا معينة لا تنبع بالضرورة من فهم عميق،" كما يصرّح سلومان وفيرنباخ. وهكذا يُفاقم اعتمادنا على عقول الآخرين المشكلة، إذا كان موقفك، على سبيل المثال، مناصر لقانون الرعاية الصحيّة الأمريكي⁴ واهيا وبلا أسس متينة، وأنا بدوري أعوّل عليه، بالتالي سيكون موقفي واهيًا أيضًا، عندما اتحدث مع توم ويقرر أن يوافقني الرأي، سيكون رأيه واهيًا هو الآخر، لكن عندما يتوافق ثلاثتنا على رأي واحد سنشعر عندها بالاعتزاز اتجاه رؤيتنا، إن غدونا نرفض من الآن فصاعدًا أي معلومات تتعارض مع رؤيتنا ونعتبرها غير مُقنعة، ستحصل على، حسنًا، ولاية ترامب.
"هكذا قد يصبح جمهور المعرفة خطيرًا" كما لاحظ سلومان وفيرنباخ. لقد أجرى الاثنان صيغتهم الخاصة من تجربة المرحاض، حيث قاما باستبدال الأجهزة المنزليّة بالسياسات العامة، في دراسة أجريت بال ٢٠١٢ سُأل المشتركون عن موقفهم تجاه قضايا مثل: الرعاية الصحيّة الحكوميّة أو أجر الاستحقاق للمعلمين⁵. طُلب من المشاركين تقييم مواقفهم اعتمادًا على مدى حدة موافقتهم على هذة المقترحات/المشاريع. من ثم، كُلّفوا أن يشرحوا بالتفصيل انعكاسات تلك المقترحات/المشاريع إن خرجت الى حيّز التنفيذ. في هذه المرحلة، واجه غالبية المشتركين بعض المتاعب، عندما طُلب منهم مرة أخرى تقييم مواقفهم، هبطت حينها حدة المواقف، إذ أصبحوا حينها أقل حماسًا بموافقتهم أو معارضتهم للمقترحات/المشاريع.
يرى سلومان وفيرنباخ هذة النتيجة بمثابة شمعة صغيرة بعالم يكتسيه الظلام. إذا قضينا- نحن أو اصحابنا أو الخبراء في "سي إن إن"- وقتًا أقل بالإفتاء، وحاولنا أن نكرّس وقتًا أطول للتمحيص في عواقب المقترحات السياسيّة، لكنّا قد أدركنا مدى جهلنا وزهد مواقفنا (رؤيتنا). قد يكون هذا -كما يُصرّحان- النسق من التفكير هو الوحيد القادر على تحطيم "وهم عمق التفسير" وتغيير توجّهات الناس.
احدى الزوايا التي يمكن من خلالها النظر للعلم هي على انه منظومة يمكن من خلالها ضبط ميول البشر الطبيعيّة. في المختبر السويّ، لا يوجد مساحة لانحياز "بصفي"، فعلى النتائج أن تكون قابلة للتكرار في مختبرات أخرى، على يد باحثين لا دوافع لديهم لتأكيد صحتها. ولهذا السبب، يمكننا أن نحاجج، لماذا هذه المنظومة (المنهج العلمي) ناجحة بامتياز، ففي أي لحظة معطاه، قد تطغى المشاحنات على المنظومة، لكن في نهاية المطاف، ستحظى المنهجية العلمية بالغلبة، العلم يسير الى الأمام، حتى لو بقينا نحن عالقين في أماكننا.
في كتابهم "الانكار الى القبر": لماذا نتاجهل المعلومات التي قد تأتي بخلاصنا" (أوكسوفرد) الطبيب النفسي جاك غورمان وابنته سارا غورمان أخصائية الصحة العامة، يسبران بالفجوة القائمة ما بين ما يقوله لنا العلم وما نقوله نحن لأنفسنا. حيث ركّزا اهتمامهما بتلك القناعات المُترسّخة التي ليست مجرد خاطئة بالدليل والبرهان فحسب، بل يمكنها أيضا أن تكون قاتلة، كالقناعة بأن التطعيمات ضارة. من الواضح ان ما قد يكون ضارا هو أن لا نتطعّم؛ لهذا السبب صُنعت التطعيمات أساسًا. " التطعيم كان أحد أهم إنجازات العلم الحديث" كما ينوه لنا المؤلفان. وبالرغم من ذلك فلا ثمة أهمية لعدد الدراسات العلمية التي تقر بعدم وجود أي صلة بين التطعيم والتوحّد، يبقى معارضو التطعيم متشبثون بقناعاتهم. (باستطاعتهم الآن اعتبار أنفسهم -نوع ما- بطرف دونالد ترامب الذي صرّح بأنه بالرغم من انه وزوجته قد طعّما ابنهما بارون، الا انهم قد رفضوا فعل ذلك وفقا للجدول الزمني الذي أوصى به أطباء الأطفال).
يجادل جومان وابنته أيضا، بأن أنماط التفكير التي تبدو ظاهريا مدمّرة للذات قد حملت في طيّاتها ميزة تكيفيّة بمرحلة ما. وهما أيضا يكرّسان العديد من الصفحات حول الانحياز التأكيدي، الذي، كما يدّعيان، له مركّب نفسي. حيث يستشهدان ببحث مفاده أن البشر يشعرون بسعادة حقيقية -دفعة من الدوبامين- عند تعاملهم مع معلومات تدعم معتقداتهم. " انه شعور جميل ان نتمسّك بآرائنا جتى لو كنّا على خطأ". كما تبيّن لهما.
لا يسعى غورمان وابنته الى تصنيف الأنماط التي نخفق بها فحسب، أنما يتطلعان الى تقويمها. فلا بد من إيجاد وسيلة ما-كما يزعمان- لإقناع الناس بأن التطعيمات مجدية للأطفال، والبنادق خطِرة. (شائعة أخرى متفشية مفنّدة إحصائيًا، يحاول الناس الاسقاط من مصداقيتها (أي الإحصاءات) وهي أن امتلاك بندقية/مسدس يجعلك أكثر أمانًا.) لكن ها هما يقعان في نفس المأزق الذي أوضحاه للتو. يبدو أن تقديم المعلومات الدقيقة للناس عديم الجدوى؛ انهم ببساطة لن يعيروها (المعلومات الدقيقة) أي اهتمام. الاحتكام لمشاعرهم سيأتي بنتائج أفضل، لكن من الواضح أن فعلًا كهذا لن يكون فعلا أخلاقيا يهدف لتعزيز صوت العلم.
"يبقى التحدي الأكبر" كما يذكران عند نهاية الكتاب، في إيجاد كيفيّة إيجاد سبل لمعالجة النزعات التي تفضي للاعتقادات العلمية الخاطئة".
"احجية العقل"، "وهم المعرفة" و "الإنكار الى القبر" جميعهم كُتبوا قبل انتخابات تشرين الثاني⁶. رغم هذا فقد تشوّفوا كليان كونواي وصعود "الحقائق البديلة⁷". يشعر المرء بيومنا هذا وكأن البلد بأكملها قد خضعت لتجربة نفسية ضخمة لا يشرف عليها أحد أو أنها تُدار على يد ستيف بانون⁸. يمكن لأصحاب الفكر العقلاني أن يفكروا في طريقة توصلهم الى حل، لكن الادبيات، في هذا الشأن، لا تبعث على الاطمئنان.
*المصدر: مجلة "ذا نيويوركر"
هوامش:
1 "العقل" في هذا السياق هي ترجمة لكلمة Reason بمفهومها الاضيق وبوصفها للتفكير العقلاني المنطقي ولا تشمل بالضرورة جميع عمليات التفكير والادراك (بالمفهوم الكانطي). لهذا ترجمت كلمة reason بموجب فهمي لسياقها بالمقال ب "التفكير العقلاني"
2 "المشي على القدمين" ترجمة ل Bipedalism أي السير على الأطراف الخلفية او الساقين.
3 "إنحياز بصفي" ترجمة ل my side bias كمرادف لمفهوم الانحياز التأكيدي.
4 تعديل على قانون الصحة الأمريكي من العام ٢٠١٠ ما قد أصبح يعرف ب.Obamacare
5 الأجر المتعلّق بالأداء. Merit -based Pay
6 الانتخابات الامريكية لسنة ٢٠١٧
7 عبارة استخدمتها مستشارة الرئيس الأمريكي كيليان كونواي، لتبرير تصريح كاذب ادلى به السكريتير الصحفي للبيت الابيض شون ببيسر.
8 يميني متطرف شغل سابقا منصب كبير مستشاري ترامب للشؤون الاستراتيجيّة، سجن بتهمة النصب والاحتيال وغسيل الأموال.
إضافة تعقيب