news-details

مبدأ مونرو وعدوانيَّة الولايات المتَّحدة على دول أمريكا اللاتينيَّة

في بداية العشرينيَّات من القرن التَّاسع عشر، عام ١٨٢٣، قام الرَّئيس الأمريكيُّ جيمس مونرو بطرح مبدأ سُمِّي باسمه في الكونغرس الأمريكيِّ "مبدأ مونرو" ، وقد نصَّ هذا المبدأ على ضرورة عدم مدِّ الدُّول الأوربيَّة نفوذها الاستعماريِّ نحو أمريكا، مقابل ذلك تلتزم الولايات المتَّحدة بعدم التَّدخُّل في الشُّؤون والمشاكل الأوربيَّة.

ظاهريًّا يبدو المبدأ وكأنَّه سياسة انعزال أمريكيَّة، لكنَّ الحقيقة هي أنَّ الولايات المتَّحدة استمرَّت في معارضتها لأيِّ استعمار أوروبيٍّ للقارَّة الأمريكيَّة لأنَّها أرادت أن تكون هي المستعمِرة والمؤثِّرة الوحيدة في هذه القارَّة. لقد رأينا تخلِّي الولايات المتَّحدة عن سياسة العزلة، وهوالدَّافع الظَّاهر لمبدأ مونرو، حين تطلَّبت مصلحتها ذلك، فقد تدخَّلت في الحرب العالميَّة الأولى، لأنَّ مصالحها الاقتصاديَّة تتضرَّر اذا انتصرت ألمانيا على الحلفاء، عادت بعد الحرب إلى العزلة لكنَّها لم تتردَّد في دخول الحرب العالميَّة الثَّانية إلى جانب الحلفاء عام ١٩٤١ وبشكل شرس إذ ألقت بقنبلتين ذريَّتين على هيروشيما ونغازاكي في اليابان لأنَّها حليفة ألمانيا التي لم تستسلم بعد.

إن دلَّ هذا على شيء فإنَّه يدلُّ على أنَّ مبدأ مونرو هدف إلى سيطرة استعماريَّة للولايات المتَّحدة على القارَّة الأمريكيَّة بكاملها.

لقد أوضح روزفلت أنَّ ضعف دول أمريكا اللاتينيَّة يؤدِّي إلى ازدياد مطامع الدُّول الأوربيَّة فيها، ولذلك يجب حمايتها من هذه العدوانيَّة وما من طريق سوى سيطرة الولايات المتَّحدة على هذه الدُّول، هذا التَّبرير هو ألذي استخدمته الولايات المتَّحدة لتفسير تدخُّلها في الدُّومينكان عام ١٩٠٥، ونيكاراغوا عام ١٩١١، وهاييتي عام ١٩١٥.

إنَّ دول أمريكا اللاتينيَّة لم تنظر بعين الرِّضى إلى التَّدخُّل الأمريكيِّ،إذ أنَّها استاءت من الطَّريقة التي فرضت فيها الولايات المتَّحدة استعلاءها عليها وكان تخوُّف هذه  الدُّول من هيمنة الولايات المتَّحدة أكبر من تخوُّفها من الدول الأوربيَّة.

قبل التَّدخُّل الأمريكيِّ في شؤون دول أمريكا اللاتينيَّة، الدَّاخليَّة، دخلت الولايات المتَّحدة من نفس المنطلق، بحروب ضد دول أوربيَّة مثل حربها ضدَّ اسبانيا عام ١٨٩٨ بعد انفجار البارجة الأمريكيَّة في ميناء هاڤاناوكانت نتيجة هذه الحرب استيلاء الولايات المتَّحدة على كوبا والفلبين والحصول على أرض بورتوريكو وازدياد السَّطوة الأمريكيَّة على أمريكا اللاتينيَّة.

استمرَّت الولايات المتَّحدة في سياستها العدوانيَّة في أمريكا اللاتينيَّة عن طريق الاستخبارات الأمريكيَّة وذلك بتنظيم انقلابات عسكريَّة وحماية حلفائها ودعم ثورة الكونترا في نيكاراغوا.

في العام ١٩٦٢ وفي أوج الحرب الباردة بين المعسكرين، الاشتراكيِّ بقيادة الاتِّحاد السُّوفييتي والمعسكر الغربيِّ بقيادة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وقعت الأزمة الكوبيَّة. إذ حاولت الولايات المتَّحدة منذ ١٩٥٩ ونجاح الثَّورة الكوبيَّة بقيادة فيدل كاسترو في تحويل الحكم إلى حكم اشتراكيٍّ على سواحل الولايات المتَّحدة، حاولت الإطاحة بهذا الحكم بطرق مختلفة مستخدمة اعوانها الذين لجأوا إليها بعد ان تضررت مصالحهم من النِّظام الاشتراكيِّ الجديد. حاولت الولايات المتَّحدة التَّدخُّل العسكريَّ، إِلَّا أنَّ الاتِّحاد السُّوڤييتي أرسل قطعًا من أسطوله إلى الشَّواطئ الكوبيَّة، وهنا وصلت الحرب الباردة بين المعسكرين إلى الأوج، ووافق الاتِّحاد السُّوڤييتي على سحب سفنه من سواحل كوبا شرط أن لا تتدخَّل الولايات المتَّحدة في الشُّؤون الدَّاخليَّة لكوبا وكان هذا الأمر نصرًا للمعسكر الاشتراكيِّ وتراجعًا للسِّياسة الاستعماريَّة الأمريكيَّة.

في العام ١٩٦٣نشطت المخابرات الأمريكيَّةعلى الإطاحة بحكم بخواو غورلات الرئيس البرازيليِّ لادعائها أنَّه "شيوعيٌّ صريح" وكان عضوًا في حزب العمَّال البرازيليِّ، وعبر سلسلة من الأحداث قادها قائد أركان الجيش البرازيليِّ، برانكو، وبمساعدة مباشرة من الولايات المتَّحدة له، وقد أدَّت خشيتها من أن تتحوَّل البرازيل إلى "صين السِّتِّينات" وقد اعترفت المخابرات الأمريكيَّة أنَّها موَّلت المظاهرات وأنَّها مدَّت الجيش البرازيليَّ بالسِّلاح والوقود وهكذا قضى برانكو على حكم غورلات التَّقدميِّ.

في ٢٤ آذار ١٩٧٦ دعمت الولايات المتَّحدة انقلابًا عسكريًّا في الأرجنتين بقيادة فيديلا وأطاح بحكم الرَّئيس الأرجنتينيِّ إيزابيل بيرون وقد استمرَّ هذا الانقلاب حتَّى العام ١٩٨٣ وذهب ضحيَّته٣٠ ألفًا وزُجَّ بالآلاف من الأرجنتينيِّين في السِّجن وقد عُرفت هذه الفترة بـ"الحرب القذِرة".

في العام ١٩٨٣ بعد وصول معلومات عن حدوث انقلاب عسكريٍّ يساريٍّ في جزيرة غرانادا قامت الولايات المتَّحدة باحتلال الجزيرة. بعدها قامت الولايات المتَّحدة باحتلال بنما واعتقال رئيسها نورييغا بتهمة تورُّطه في عمليَّات تهريب مخدَّرات للولايات المتَّحدة.

أمَّا ما حدث في تشيلي فهو وقاحة أمريكيَّة من الدَّرجة الأولى ، ففي العام ١٩٧٠وصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات، سلڤادور اللندي، مرشح الجبهة الشَّعبيَّة التي مثَّلت قوى اليسار في تشيلي، وقد تقدَّم اللندي ببرنامج إصلاحيٍّ أقرب إلى اليسار إذ تضمَّن تشكيل حكومة تضمُّ الحركات والأحزاب السِّياسيَّة اليساريَّة كافَّة، وصيانة حقِّ المعارضة في إطار القانون، وتحرير وسائل الإعلام من الطِّابع التِّجاريِّ والاحتكاريِّ، وتبديل النِّظام الاقتصاديِّ بنظام اشتراكيٍّ، وقام اللندي برفع أجور الموظَّفين بـ40ُ% وأمَّم الصِّناعات الهامَّة خاصَّة صناعة النُّحاس، وقد مثَّلت سياسة اللندي مواجهة مباشرة مع الولايات المتَّحدة، واعتبرت الأخيرة أنَّ قرارات الرَّئيس التِّشيليِّ الاقتصاديَّة ضربَت المصالح الاقتصاديَّة الأمريكيَّة، لذلك قرَّرت الإطاحة به وبالحكم الاشتراكيِّ عن طريق عميلها بينوشي الذي حاصر القصر الرئاسيِّ وطالب اللندي بالاستسلام إِلَّا أنَّ الأخير حارب حتى الرَّمق الأخير واستشهد، وذلك عام ١٩٧٣. وأغلب الظَّنِّ أنَّ للولايات المتَّحدة كان دور في مقتل سلڤادور اللندي.

في بداية القرن الحادي والعشرين انتقلت الولايات المتَّحدة إلى سياسة القوَّة النَّاعمة كبديل للانقلابات العسكريَّة في أمريكا اللاتينيَّة، كي لا تشوِّه سمعتها وذلك باستعمال الاقتصاد والمساعدات والشرَّكات الكبرى والعولمة ووسائل التَّواصل ومراكز الأبحاث ودعم الأحزاب اليمينيَّة الدَّاخليَّة وهدفت من كلِّ هذا إلى تشويه سمعة الأنظمة المقصودة وعدم شرعيَّة هذه الأنظمة.

في العام ٢٠١٤ أجريت انتخابات رئاسيَّة في أربع دول في أمريكا الجنوبيَّة وهي كولومبيا، البرازيل، بوليفيا وأرغواي. وقد جدَّد البوليڤيُّون ثقتهم بموراليس الذي فاز في المرَّة الأولى عام ٢٠٠٥. كذلك فاز اليسار في البرازيل وأرغواي، وهذا النَّصر لليسار اعتبر استمرارًا لفوز مادورو عام ٢٠١٣ في ڤنزويلا وميشيل باتشيليت في تشيلي وكووريا في الإكوادور.

الولايات المتَّحدة لم تسلِّم بالأمر الواقع وقد قامت في السَّنوات الأخيرة باستغلال الأزمات الاقتصاديَّة خاصَّة انخفاض أسعار النَّفط في العالم ومن هذه المحاولات محاولاتها في القضاء على الحكم الاشتراكيِّ في ڤنزويلا والقضاء على مادورو إِلَّا أنَّ هذه المحاولات فشلت. وقد نجحت العدوانيَّة الأمريكيَّة في الانقلاب ضد حكم موراليس في بوليڤيا ولكن هذا النَّصر مؤقَّت لأنَّ حزب موراليس ومؤيِّدوه يعدُّون العدَّة للعودة للحكم في هذا البلد.

ومن المهم أن نؤكِّد أنَّ وجود النِّظام الاشتراكيِّ في كوبا وتحدِّيه للولايات المتَّحدة وصموده رغم سياسة الحصار الأمريكيَّة كان له أثر كبير في التَّحولات الهامَّة التي جرت في أمريكا اللاتينيَّة، والتَّصدِّي للولايات المتَّحدة ومؤامراتها على الشُّعوب في امريكا اللاتينيَّة التي سعت وتسعى من اجل إنهاء كل سيطرة للولايات المتَّحدة عليها.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب