news-details

محمّد بكري في مقابلة خاصة بـ"الاتحاد": على الإنسان أن يكون حرًّا وليس عبدًا لأحد

(مقابلة أجرتها الاتحاد بتاريخ 2020-01-17، نعيد نشرها الآن تضامنًا مع قضيّة الفنان محمّد بكري).

فيلم جنين جنين كان بمثابة ضربة قاضية وثّقت بل فضحت وعرّت ممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جنين عام 2002 بعد عدوان "السّور الواقي" الّذي دمّر المخيّم بالكامل تقريبا، وفيه يوثق الفنان والمخرج الفلسطيني محمد بكري الجرائم الّتي ارتكبها جيش الاحتلال أثناء هذا الاجتياح، ويوثّق شهادات حيّة لسكان المخيّم الّذين وصفوا ما عاشوه ورأوه في هذه الحرب. 

قضية هذا الفيلم لم تعد قضية شخصية بل هي قضية جماهيرية من الطراز الأوّل، خاصة بعد الهجمات الشرسة والمتتالية من قبل أذناب اليمين المتطرف والملاحقات القضائية الاسرائيلية المستمرّة على مدى ثمانية عشر عامًا، والّتي تهدف كما عوّدتنا إلى اغتيال الذّوق الفنّي والعمل الإبداعي عامّةً، وإلى خفت روح النشاط السنيمائي والمسرحي الذي يملكه بكري. 

فقبل جنين جنين كانت كذلك أعمال فنيّة غنيّة كثيرة أخرى تعنى بوصف وتوثيق الصّراع الفلسطيني مع دولة الاحتلال وأذرعها وقد حظيت بكثير من الرّفض، النبذ، القمع والتعسّف الإسرائيلي، ومع ذلك نال هذا الفيلم حصّة الأسد في صراع ثلاثيّ على مستوى الميدان السياسي، وفي السّاحة القضائية والإعلامية على حدٍ سواء. 

فيما يلي مقابلة حصرية للاتحاد يروي فيها محمّد بكري تفاصيل الملاحقات القضائية: 

 

  • ما هي القضيّة الأساس الّتي يخوض من أجلها محمّد بكري كل هذه المعارك والحروب؟

الحقيقة أنّني لا أخوض معارك وحروب، أنا أدافع عن نفسي، لقد قمت بإخراج فيلم "جنين جنين" الّذي أعتبره استمرارية للأيديولوجية الّتي أومن بها، انطلاقًا من الفرضية أنّ على الإنسان أن يكون حرًّا، يملك كرامة وليس عبدًا لأحد. لم يبقَ احتلالات في هذا العالم غير هذا الاحتلال. أصبح العالم اليوم حرًّا ومن المفروض أن يحظى الشّعب الفلسطيني بهذه الحريّة كغيره من شعوب العالم، اذًا هذا العمل بالنسبة لي هو فاصلة أو نقطة من جملة كلام قلته سابقًا ليس اليوم بشكل خاصّ، وسأظل أردّده كذلك. فمنذ بدايتي الفنيّة وأنا أحذو هذا الطّريق، يعني هي ليست حربًا بقدر ما هي عملية نقل لرسالة، لقصّة ولرواية يرفضها الآخر. 

 

- لمَ جنين جنين بالذّات، لمَ استحوذ الفيلم على هذه الموجة القضائية والإعلامية المهولة؟

ربّما لنفس ما قلته سابقًا هو أن الايديولوجية الإسرائيلية الصهيونية ترفض أن تسمع حكاية أخرى، خصوصًا فيما يتعلّق بالأرض، الأمن والجيش وفي الكارثة والبطولة. هناك مناطق ملغومة ومقدسة يجب ان تتحايدها تبتعد عنها والا سيحدث مع أي شخص مثلما حدث معي الآن في "جنين جنين". يعني وكأنّ هنالك "تابو" معيّن، هنالك "كود" أو نوع من الاحتكار، ممنوع أن تفكر حتّى بالدخول إلى هذه المناطق الّتي ذكرتها سابقًا، الأمن، الكارثة والبطولة وكلّ ما يتعلّق بالحرب العالميّة الثّانية، الأرض وغيره. 

أطفال فيلم جنين جنين يتطرّقون إلى ما أحدثته الآلة العسكرية الإسرائيلية في مخيم جنين أثناء الاجتياح، يوثقون ماذا أحسوا حينها، يتحدثون عن مشاعرهم أثناء الاجتياح، وبالتّالي هذا لن يعجب الحكومة الإسرائيلية ولذلك أشهروا سيوفهم ضدّي، ويحاربونني بكل الوسائل الممكنة منذ ثمانية عشر عامًا دون كلل، منذ اللحظة الأولى الّتي رأى فيها الفيلم النور بدأت المشاكل والملاحقات.

 

  • ما سير التطورات الأخيرة على القضية؟

بالنسبة للقضيّة ذاتها، هناك محكمة كأي محكمة أخرى في السّادس من شباط الآتي في محكمة اللّد المركزية، هي جلسة أخرى من هذه الجلسات تباعًا لما كان ولما سيكون. 

 

  • كيف يحصّن محمد بكري نفسه من كل هذا العداء الموجّه والممنهج ضدّه؟

يعني أعتقد كما يقولون أنّ الضربة الّتي لا تكسر الظهر تقوم بتقويمه وتقوّيه، أنا ما زلت صامدًا وأراهن على نصف الكأس الملآن وليس الفارغ واتأمل ان يكون هناك صحوة ضمير لدى القضاة مستقبلًا وأن يكون نوع من العدل والموضوعية في الحكم. 

 

  • في مقابلة سابقة لك، قلت ان دافعا هاما في توثيق هذه المجرزة كان ما قلته "إنّ العقل يسكن في القلب"، ماذا كنت تقصد حينما قلت ذلك وهل ما زلت تقف عند هذا الرأي؟

أنا أعتقد أن العقل والقلب يعملان معًا، هو أمر عضوي، أعني أوّلًا أنّ الانسان يفكّر ويحسّ وثانيًا عندما يكون هناك تفاعل وانسجام بينه العقل والقلب يتربع الصدق، بما معناه يكون الصدق وكأنّه مايسترو الفرقة الموسيقيّة أو المعزوفة ذاتها. يعني هذا ما قصدته، فعندما وصلت إلى جنين كي أصوّر الفيلم لم يكن لدي خطّة، لم أملك أي سيناريو مكتوب، ولم تكن لدي أدنى فكرة لما سأعاين، ذهبت إلى مكان لا أعرفه ولكنّني أسمع عنه، فقد شاع حينها أنّ هنالك مجزرة تحدث في جنين وإنّ المكان مغلق وممنوع الدخول الى هناك، لا للطواقم الطبيّة، لا للصحافيين ولا لأحد بتاتًا، وقيل حينها أنّه قد تكون هناك تجاوزات أو جرائم حرب تحصل في المنطقة، ولذلك قام الإسرائيليون بتطويق المنطقة وحظر الدخول إليها أو الخروج منها.

لذلك أنا دخلت وأنا أملك إحساسًا حقيقيًّا بأنّ هنالك خطب سيّء، هناك شيء ليس على ما يرام يدور في المكان. وبناءً عليه حكّمت عقلي وقلبي سوّيةً، فما أراه وأشاهده أصوره ولكن بانتقائية، يعني عمليًّا الإحساس الّذي أملكه وجّهني. وهذا أمر طبيعي، أنا رأيت أناسًا في مكان مدمّر وكان عليّ اختيار لمن أتوجّه، وعليه كان الخيار القلب والدّليل، واختياري للأشخاص وللنّص المحكي كان العقل سيّد الموقف. ولهذا كان هناك انسجام بين الاثنين، في اختيار النصوص والأشخاص شاهدي العيان الّذي تواجدوا في المخيم أثناء الحرب.

بعد خروج الجيش بأيام قليلة دخلت أنا وكان ما زال الموت مهيمنًا على المكان.  

 

  • كيف أثرت القضية على مسيرتك الفنية، هل أعاقتها؟ أم جعلت محمد بكري أكثر حزمًا وقوّة في اختيار الأعمال الفنية؟

فيلم "جنين جنين" كان نقطة تحوّل في حياتي القنيّة لأنّه جعلني مغرّدًا خارج السّرب، وكان هنالك نوع من المضايقات والملاحقات الإسرائيلية المستمرّة حتّى اليوم، نوع من المقاطعة غير العلنيّة، كان هنالك تخوف وذعر من الإسرائيلي في أن يتعامل معي، فقد كنت أظهر كثيرًا في مقابلات تلفزيونية، تصريحات ونقاشات، ومنذ جنين جنين يمتنعون عن دعوتي إلى التلفزيون. 

 

وعلى الصعيد الفنّي؟

على الصّعيد الفنّي كان هناك حرمان شبه تام من قبل المؤسسة الإسرائيلية، وكانت هنالك محاولات لمضايقات خارج إسرائيل، فبالطبع أثر هذا الأمر عليّ ولكن لكل شيء هنالك ثمن في هذه الحياة. ومن جملة الأمور الّتي دفعت ثمنها هي أن مساحتي الّتي أدور في فضائها أصبحت أضيق بكثير ممّا كانت عليه سابقًا. 

لا سيّما أن هنالك نوع من محاولة قطع الرزق وكم الأفواه من أجل الإشارة غير المباشرة لغيري ولكن عن طريقي بأن ابتعدوا عن هذا الطّريق، يعني التعامل بتخويف وترهيب. وأيضًا كانت بمثابة رادع ليشغلوني بأمور لا تمتّ بصلة إلى عملي الفنّي، وكأنّ هنالك من ينتزعك أو يسلخك عن واقعك الطبيعي الّذي تريد أن تعيشه وهو الفنّ، السينما والمسرح. ولهذا أنا مشغول منذ ثمانية عشر عامًا بقضايا تبعدني وتقلق مسيرتي الفنيّة وتشتّت تركيزي. 

 

  • هل هنالك عمل فني جديد في الفترة القريبة؟

في الحقيقية، هنالك أعمال مستقبليّة قيد الدّراسة، وفي طور الكتابة والتّفكير ولذا لا أستطيع أن أفصح عنها حاليًّا. 

 

  • كلمة يوجهها محمد بكري لمن يقف معه في هذا الظرف، لأبناء شعبه وللفنانين في الوطن العربي الذين أبدوا تضامنًا مع قضيته؟

أنا أستمدّ قوّتي من أهلي ومن ناسي، من شعبي وحتّى من الإسرائيليين المنفتحين الّذين لديهم قابلية لسماع الرواية الأخرى. أنا أستمدّ قوّتي من كلّ الناس العقلانيين، غير المتطرفين، الّذين يرون بأعيُني الأمل والضوء ما وراء الظلام. 

 

  • هنالك جيل جديد يتوجّه بكثافة لتعلّم المسرح في المؤسسات الأكاديمية، بمَ تنصحهم؟

الخوف يجب أن يكون فقط من الله وليس من أحد آخر، أقول لهم لا تخافوا أبدًا، لديكم كلمة تبتغون إيصالها فافعلوا، ابتعدوا عن التّطرف بكلّ أنواعه، الدّيني والسّياسي بشكّل خاصّ، وحاولوا أن تكونوا صادقين مع أنفسكم، قولوا كلمة الحقّ ولو كلّف الأمر قطع رؤوسكم.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب