news-details

محمّد نفّاع – أديب الجماهير

 في هذا العنوان فكرتان: الجماهيرية والأدبية. وهما متعالقتان بالضرورة. فالجماهيرية هي ما تجعل مشروعه الكتابي أدبًا (إبداعًا)... وكيف ذلك؟

 

الجماهيرية (Popularity)

جماهيرية محمّد نفّاع في الأدب تنهض على سبعة مفاهيم متجانسة ومتعالقة: (1) الانتماء، (2) الطبقية، (3) الحكائية، (4) الأساليب التعويضية، (5) الجغرافيا الطبيعية، (6) اللهجة/اللغة، (7) الصدق/المصداقية.

محمد نفاع كاتب منتمٍ، ولأنه منتمٍ فهو منحاز إلى الطبقة التي ينتمي إليها، طبقة الفلاحين والعمال فلا ينشغل إلا بها. ولأنه منتمٍ إلى طبقة بعينها كان لا بدّ أن يحكي حكايتها ويعرض واقعها بحكائية توافقها، وتتميّز بأساليب خاصّة أسمّيها تعويضية. وهكذا لا بدّ أن يضعها في بيئتها الجغرافية الطبيعية القروية الفلاحية. وهي بفضل هذه الجغرافيّة يُنطقها محمد نفاع بلهجتها ونكهتها المميّزة... ولأنّ هذه الطبقة قد حكت حكايتها بأساليبها الحكائية التي تلائمها في بيئتها الجغرافية الخاصّة ونطقت بلهجتها المميّزة فلا بدّ أن تكون صادقة مقنعة.

 

الأدبية (Literariness)

ولأنه صادق فهو أديب وليس مجرد كاتب. أدبيّة محمد نفاع قائمة أساسًا على هذه الجماهيرية الشعبية. وقد طوّرها وجعلها مدرسة أدبية متفرّدة في الحركة الأدبية الفلسطينية بصفة عامة.

 

الجماهيرية

(1) الانتماء

الانتماء مسألة فطرية بالأساس، لأنه موقف، وحالة اللاموقف مستحيلة (والموقف هو العمود الفقري لإنسانية الإنسان... بدون ذلك فهو كوم من اللحم والشحم)... وعلى هذا الانتماء الفطري يركّب نفاع انتماءً مكتسبًا محسوبًا... والموقف عند محمد نفاع على ثلاثة أوجه مركزية:

  1. الانتماء إلى بيئته ومحيطه - الرجل يكتب عين على الناس والعين الثانية على الناس..

  2. انتماء سياسي – ينحاز فيه ضد كلّ من يضطهد شعبه إن كان من الداخل أو الخارج..

  3. الانتماء إلى فكرة أو آيديولوجيا أو فلسفة - الطبقية العمال والفلاحين والرعاة، الطبقات الكادحة..

وبفضل هذا الانتماء لا يستطيع أن يترجّل عن الجرمق، ولا يحقّ له ذلك أصلا. حتى أننا لا نحتاج إلى سارتر حتى يذكرنا بضرورة الانتماء على النحو الذي نقدّمه هنا، وهو يستعمل مصطلح التورّط (Involvement)، وهو مفهوم يذكّرنا بفلسفة الفلاحين عندنا في قولهم "إللي خلق علق" يعني تورّط.. وهنا لا بدّ من التذكير بتجربة علاء الأسواني في روايته "عمارة يعقوبيان" والتي اضطر فيها لمعايشة العاهرات في عملهن كي يستطيع أن يكتب بعض المشاهد والمواقف الخاصّة بهنّ في روايته. ما يعني أنه لا يستطيع الكتابة عن شيء لا ينتمي إليه ولو بصفة مؤقّتة أو متكلّفة.

محمد نفاع أديب صاحب مدرسة في السرد الفلسطيني بفضل كلّ هذا التوصيف الذي تقدّم... هذه المدرسة هي التي تبرزه في المشهد الأدبي الفلسطيني بكلّ تفريعاته (في الداخل وفي المناطق المحتلة وفي الشتات والمنافي). وهي هي التي تضمن له حقًا في الأدب العربي كله من أقصاه إلى أقصاه. وهي المدرسة نفسها التي تضعه على خريطة الأدب العالمي في بعض ميزاتها خصوصًا في خضرة أدبه

(2) الطبقية

على العموم، الحديث عن الطبقية ينبغي أن يتكئ على تقابلات. محمد نفاع يكتب عن فئتين: ينحاز إلى الأولى ويمقت الثانية:

(1) ينحاز إلى الفلاح، الراعي، العامل، الناطور، الحرّاث، الطباخة في الأعراس، النائحة في المآتم، الولادة (القابلة)، المسؤول عن خصي الكلاب وسواعير المعزى والمسؤول عن حصان الشبا...

(2) ويمقت الغاصب المحتل، والانتهازي البرجوازي أو المتبرجز، يمقت كثيرًا من سلوكيّات المتديّنين وأخلاقيّاتهم، المتعاونين مع السلطة من أبناء جلدته...

تبدأ الكتابة عند نفاع في الحالتين من تحت إلى فوق وليس بالعكس. والكتابة من تحت من القاع ترفع تجربته إلى فكر فوقي عام وجميل. وهو لا يفعل ذلك إلا لأنه كاتب منتمٍ...بعض كتابنا يكتب من فوق إلى تحت.يقول لك مثلا عندي فكرة ممتازة تحتاج إلى قصّة أو قصيدة. وفي بعض الأحايين قد يصل الأمر ببعض الكتاب إلى أن يقول لك "عندي عنوان جميل لقصيدة".

 

(3) الحكائية

الحكائية تعني الكتابة الدرامية المتحرّكة: نحن نفرّق بين ثلاثة أنماط من المحور القصصي: (1) قصّة الحدث، (2) قصّة الفكرة، (3) قصّة الشخصية. عند محمد نفاع الفكرة والشخصية هما جزء عضوي من بناء حدثي متكامل. ما يعني أنه لا يركّز على عنصر دون آخر. والعنصر الشامل الذي يشمل كلّ مركبات القصّة هو الحدث. وهكذا ينتقل محمد نفاع في أدبه من التجربة إلى الفكرة، مثلما قلنا، أي من تحت إلى فوق. يلتقط حكايات الناس وعاداتهم وتقاليدهم في كلّ مناحي الحياة ليرفعها مقامًا فكريًا محمودًا. يلتقط الحدث الحياتي العابر البسيط ليمارس عليه فعلا آيديولوجيا، وهكذا يحوّل الآيديولوجيا إلى ممارسة تحتية واقعية حيّة مقنعة تعود فائدتها مباشرة على الناس، لأنها في الأصل من الناس وإليهم. لا يكتب محمد نفاع للكتب ولا للتنظير المترف تلهو به بعض العقول القابعة في أبراجها الزجاجية. ولأنّ القصّة عنده في كثير من حالاتها هي قصّة حدث فهي تحتفل بالتفاصيل الدقيقة المفصّلة. حتى أنه يجعلك تعيش الحدث تمامًا (والحكي مش مثل الشوف).

 

(4) الأساليب الطبيعية

نحن في الجامعة (يعني الأكاديميين) لا يعجبنا العجب نحبّ النصّ متعاليًا مراوغًا متحدّيًا هي لعبة التحدي بين الكاتب والنص والقارئ. من الأقوى ومن الأقدر على إبهار الآخر. محمد نفاع لا يدخل في هذه اللعبة الرأسمالية فيبتعد عن مظاهر الغموض والإبهام والالتفاف والمكر أو المراوغة النصية ويذهب إلى الوضوح. وحتى لا يقربه هذا الوضوح إلى حدود الابتذال والسذاجة والملالة تراه يحرص بلباقة على شدّ القارئ بآليات وتقنيات جميلة سمّيتها التقنيات التعويضية. وهي كثيرة: (1) الأسلوب الحكائي الشعبي وما يستند عليه من توصيف مفصّل واستطرادات، (2) اللهجة المحكية الغنية بمفرداتها وأمثالها وأقوالها المأثورة وتعبيراتها الجاهزة التي تضيف مزيدًا من المصداقية على الأحداث وحركة الشخصيات فيها، (3) الأساليب الفكاهية بأنواعها وأشكالها المختلفة في اللغة والمواقف... هذه التقنيات تلفع الأفكار وتلفها بشكل لافت جميل يساهم في كسب القارئ وثقته.

 

 

(5) الجغرافيا الطبيعية

محمد نفاع من أبرز الكتاب العرب بالمطلق الذين مارسوا ما نسمّيه في أدبياتنا الأكاديمية "الأدب الأخضر" (Green/Eco Literature)، وقد كتبت مقالا عن هذا الموضوع تحدّثت فيه عن مساهمة نفاع وإبراهيم الكوني وعبد الرحمن منيف في هذا الموضوع (نشر في "ضفة ثالثة"من تحرير أمجد ناصر وأنطوان شلحت، ثمّ نشر فيما بعد في الاتحاد).قبل أسبوع بالضبط كانت هناك مظاهرات صاخبة في ألمانيا انتصارًا للبيئة والطبيعة. احتج فيها المتظاهرون على توسيع منجم على حساب الطبيعية الجميلة العذراء لأحد جبالهم. محمد نفاع يتظاهر بصفة مستمرّة انتصارًا لطبيعة أرضنا وسهلنا وجبلنا ووادينا... وهو يفعل ذلك بطبيعية فطرية مقنعة لم يسبقه إلى ذلك أحد من الأدباء ولم يستطع أحد منهم أن يتجاوزه.

 

(6) اللغة

اللغة في أدب محمد نفاع مميّزة خاصّة، فيها كلّ طبقات اللغة المعروفة: الفصحى العالية، الفصحى العادية، فصحى المثقّفين، المفصّحة، المترجمة من العامية، وفي الأخير المحكيّة بطبقاتها المتنوّعة (حتى في داخل المحكيّة هناك مستويات كثيرة بطبيعة الحال)... هناك كاتب واحد فقط في كلّ العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه أتقن كلّ هذه التنويعات اللغوية وهو يوسف إدريس.. محمد نفاع من هذه الحيثية هو يوسف إدريس الفلسطيني. تكتب عن لغته الآن أطروحات الماجستير، وهي تحتاج إلى العديد من أطروحات الدكتوراة حتى توفّي هذا الموضوع حقّه... وأنا أحضّ الباحثين بقوّة على معالجة هذا الأمر وتسريع العمل على معجم خاصّ بلغة محمد نفاع ومفرداته.

 

(7) الصدق (المصداقية)

الحديث عن الأدب الصادق يعني بالضرورة أنّ هناك أدبًا غير صادق، وهو على نوعين:

  1. كذب في الحقائق، بمعنى تزوير الواقع الذي يكتب فيه الكاتب ومنه وعنه.

  2. الكذب الناتج عن الفرق بين الكاتب والمكتوب، أي الفرق بين الشعارات والممارسة على أرض الواقع.

لأنّ محمد نفاع أديب منتمٍ فهو صادق. لا يشوّه الحقيقة، ولا يجمّل الواقع ولا يزيّف الحقّ وإن كان على نفسه.الصدق في الكتابة يحتاج إلى وصفة واحدة: الكتابة من تحت إلى فوق. وليس من فوق إلى تحت مثلما قلنا من قبل. محمد نفاع صادق في كتاباته كما هو صادق في حياته، ويشهد القريب والبعيد على ذلك.

 

الأدبية: كلمة إجمالية

لا يصحّ إلا الصحيح ولا تبقى في الوادي إلا حجارته... هذا الذي تقدّم هو هو ما يجعله أديبًا وليس كاتبًا. والفرق بين الأديب والكاتب واضح، كنا قد بيّناه في موضع آخر...

أربع حقائق ينبغي أن تُذكر في ختام الحديث عن أدب محمد نفاع: (1) قرأت كلّ ما نشره أبو هشام، وقد قرأت بعضه أكثر من مرّة. وإلا سيكون حكمي عليه تعسفيًا غير موضوعي، (2) لم أعرف محمد نفاع بصفة شخصية إلا مؤخرًا قبل سنوات. وكنت أعرف أدبه قبل ذلك بكثير، (3) كنت أدرّس بعضه ضمن مساق خاصّ بالأدب الفلسطيني، أحرص على تدريسه منذ دخلت الجامعة قبل ثلاثين عامًا بالضبط (عام 1989)، (4) وهو الأديب الوحيد الذي كتبت عنه كلّ هذا العدد من المقالات والدراسات دون أن يطلب مني ذلك لا بالقول الصريح ولا بالإشارة ولا بالغمز، لا مني ولا من غيري... وأنا أحثّ طلابي في الدراسات العليا على كتابة أطروحاتهم عن أدبه باستمرار... وأنا لا أذكر هذه الحقائق إلا لأنها تجعلني أكثر النقاد اهتمامًا ومعرفة بأدب محمد نفاع. وهذا بطبيعة الحال، أساس كلّ نقد موضوعي متأنٍّ.

محمد نفاع أديب صاحب مدرسة في السرد الفلسطيني بفضل كلّ هذا التوصيف الذي تقدّم. قلت هذا الكلام مرارًا وتكرارًا. أن يكون الأديب صاحب مدرسة أدبية يعني أن يتفرّد في جملة من المواصفات الأدبية يصرّ عليها إصرارًا ويستمرّ فيها استمرارًا. لو قارناه بإميل حبيبي، مثلا، في هذا الجانب من القول لتبيّن أنّ إميل حبيبي لم يصرّ على الواقعية السحرية (الغرائبية العجائبية) في كلّ أدبه. وهكذا لا يمكن الحديث في حالته عن مدرسة أدبية ثابتة ومنجزة ومتكاملة على مستويي التتابع والتزامن.

هذه المدرسة هي التي تبرزه في المشهد الأدبي الفلسطيني بكلّ تفريعاته (في الداخل وفي المناطق المحتلة وفي الشتات والمنافي). وهي هي التي تضمن له حقًا في الأدب العربي كله من أقصاه إلى أقصاه. وهي المدرسة نفسها التي تضعه على خريطة الأدب العالمي في بعض ميزاتها خصوصًا في خضرة أدبه. ونحن حين نتحدّث عن هذه المكانة الفلسطينية والعربية والعالمية نعي تمامًا أنّ أدوات التسويق والتهريج لا تجعل من الكاتب أديبًا. ونعي أيضًا أنّ النصّ نفسه هو الضمان الوحيد للانتقال من المحلية إلى الإقليمية إلى العالمية وليس الظرف المؤقّت والزائل. والأدب العربي والعالمي حافل بأدباء لم ينتقلوا إلى العالمية إلا بعد زوال الظرف بقسريّاته وخصوصيّاته. ولعلّ الأديب فرانتس كافكا من أبرزهم.

 

(نصّ المحاضرة التي ألقيت في حفل تكريم الأديب محمد نفاع في بيت جن يوم الجمعة الماضي).

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب