أتاح لي الصديق الدكتور رضوان مسنات مشكورا، فرصة قراءة كتاب بعنوان "طريق الكفاح في فلسطين والمشرق العربي" – مذكرات القائد الشيوعي محمود الأطرش المغربي – وهي من إعداد وتحرير الدكتور ماهر الشريف، وصدرت في طبعتها الأولى عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2015.
يقول د.الشريف في مقدمته أن المذكرات الأصلية جاءت في 700 صفحة بخط اليد كتبها المناضل المغربي أثناء وجوده في برلين في ألمانيا الشرقية، إلا أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا يشمل 312 صفحة من المذكرات الأصلية، وتضم المرحلين الفلسطينية والمشرقية في الفترة من عام 1903- 1939، وقد تولاها د.الشريف بالتحقيق والشرح للشخصيات والحوادث.
يقع الكتاب في نحو 360 صفحة من القطع الكبير، معززا بفيض غزير من المعلومات المبوبة "حواشي" بعد كل فصل من فصول الكتاب، والتي تشمل إضاءات على الشخصيات، والأحداث التي وردت في هذا الفصل أو ذاك، مزودة في بعض الأحيان برأي المحرر في بعض المعلومات وتقييمه لها.
وخلافا للنمط السائد في سرد المذكرات ابتعد صاحب هذه المذكرات عن ما هو شخصي، باستثناء الفصلين الأولين المتعلقان بمولده ونشأته، بما في ذلك ترك الدراسة في وقت مبكر من حياته، والتحاقه بالعمل لتأمين لقمة العيش الأمر الذي مكنه من تصوير استغلال أصحاب العمل للعمال بشكل عام، وللأطفال بشكل خاص، ثم التمييز في المعاملة بين العمال العرب وأقرانهم من اليهود من حيث الأجور وظروف العمل، وربما شكل ذلك إرهاصات البحث عن الشيوعية، سيما بعد أن قرأ عنها في صحف كان يلتقطها من هنا وهناك. ومن لقائه بمحمد اللداوي والذي كان قد عاد من الاتحاد السوفياتي وكاتب المذكرات مازال في سن الفتوة، وقد نقل إليه بكثير من الحماسة أنباء انطلاق ثورة أكتوبر الإشتراكية، ثم التحق بالشبيبة الشيوعية في يافا ليبدأ من هناك درب النضال الطويل، ويكون من طليعة الرفاق الذين حملوا راية الشيوعية في فلسطين وفي ظروف بالغة الصعوبة.
اتخذ الكتاب في مجمله نمطا تقريريا في السرد، أشبه بالبرامج الحزبية، والمعلومات ذات الطابع التنظيمي. وكراريس الثقافة الحزبية، دون أن يشكل ذلك انتقاصا من قيمة المعلومات الواردة فيه. لا بل شكل بهذه التفاصيل مرجعا هاما ونادرا يبحث في تاريخ المنطقة بشكل عام، وتاريخ الحركة الشيوعية في فلسطين، و"سورية و لبنان"، على وجه الخصوص، مع مراعاة ما قاله المحرر في الفصل الأخير عن قيمة المذكرات الشخصية في التأريخ للحركات الاجتماعية والسياسية.
ومن اللافت للنظر أن صاحب المذكرات ابتدأ مذكراته بمقدمة تاريخية تستعرض حال بلاد شرق المتوسط في القرن التاسع عشر ابتداء من هزيمة نابليون على أبواب عكا، وحتى مشارف القرن العشرين، بما شملته من متغيرات سياسية وفكرية، مع الإشارة إلى بعض معالم النهضة الفكرية، في ذلك العصر وذكر بعض أهم أعلامها. ويلمح القارئ من هذه المقدمة معالم كاتب واسع الثقافة على الرغم من تركه الدراسة في مرحلة مبكرة من عمره لتأمين لقمة العيش.
ربما ساعدت الفقرتان التاليتان، واللتان تشكلان ما يشبه استطرادا لما قدمه القائد المغربي من مقدمة حول القرن التاسع عشر، بحيث تلقيان إضاءة على أهم المتغيرات في العقود الأربعة الأولى من العشرين التي عاش فيها القائد المغربي حياته وتجربته النضالية التي عكست هذه المذكرات بعض تفاصيلها.
فقد شهد القرن العشرين منذ مطلعه تتابعا سريعا للأحداث، من أفول نجم السلطة العثمانية، والحرب العالمية الأولى، وما تبعها من بداية الغزو البريطاني الفرنسي الإمبريالي للمنطقة ولفلسطين على وجه الخصوص، إلا إنه شهد كذلك انطلاقة ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، وما حملته من آمال للعمال والفلاحين، وما تبع ذلك من بدايات تشكل الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية؛ في مصر وفلسطين، و"سورية ولبنان"، والعراق وما قامت به الأممية الشيوعية "الكومنترن" من ابتعاث الكوادر إلى "الجامعة الشيوعية لكادحي الشرق" في موسكو.
كما شهد العقد الرابع من القرن العشرين، اشتداد ضراوة الهجمة الصهيونية على الفلسطينيين، والإمعان في سرقة أراضيهم وتهجيرهم بمباركة الاستعمار البريطاني ودعمه، وما قابله من استبسال الشعب الفلسطيني الذي تجاوز اللجنة التنفيذية العربية وتقاعسها في مواجهة الاحتلال البريطاني في بطشه وتنكيله بالشعب الفلسطيني، في سياق سعيه الحثيث لتحقيق وعد بلفور. وتشكلت معالم ألمانيا النازية بقيادة هتلر، ونواياها المبنية على أسس عنصرية، وموسوليني وحزبه الفاشي في إيطاليا، وسقوط النظام الجمهوري في اسبانيا في الثورة التي قادها فرانكو بدعم من النازية والفاشية، وبتقاعس من كل من فرنسا وبريطانيا إنجازا للنازية والفاشية وهكذا تجمعت نذر الحرب العالمية الثانية.
من هنا يمكن للقارئ أن يتخيل شدة التحديات التي واجهها الشيوعيون الأوائل في فلسطين في هذا الحشد من الهجمة الإمبريالية الصهيونية، وتقاعس البرجوازية المحلية ممثلة في اللجنة التنفيذية العربية وما آلت إليه هذه اللجنة بعد تفككها من أحزاب أكثرا تقاعسا في مواجهة دولة الانتداب، وتمثيلا لمصلحة البرجوازية المحلية وكبار الملاك. واتخذت فصول هذه المذكرات عناوين وثيقة الصلة بهذه المحاور.
ويمكن للقارىء أن يلمح ابرز مظاهر المسيرة النضالية للقائد محمود المغربي ومنها:
وقد غادر القائد محمود الأطرش المغربي موسكو متجها إلى فرنسا ثم الجزائر قبيل الحرب العالمية الثانية عام 1939، إلا إنه تعرض لمعاملة سيئة في فرنسا بما في ذلك الاعتقال قبل أن يصل إلى الجزائر، حيث بدأ المرحلة الجديدة من حياته النضالية. وكانت هذه أيضا حافلة بالملاحقات، والاعتقال، والعمل في ظروف العمل السري، وهو ما لم ترد تفاصيله في هذا الكتاب إلا إن د. ماهر الشريف أشار إليها بإيجاز في مقدمة الكتاب.
وفي ما أطلق عليه د. ماهر الشريف "بمثابة خاتمة" قيَّم صدقية المذكرات كمصدر لكتابة تاريخ الحركة الشيوعية في فلسطين، وذلك من خلال مقارنتها بماورد عن الأحداث ذات العلاقة بما ورد في أرشيف الكومنترن.
وجاء في هذا السياق تقاطع ما كتبه محمود المغربي، مع ما كتبه نجاتي صدقي (إعداد الشاعر حنا أبو حنا) وهما الرفيقان في لجنة رئاسة الحزب الشيوعي الفلسطيني، وتشاركا في الأنشطة الحزبية المختلفة واعتقلا معا لمدة عامين ، إلا إنهما اختلفا في وصف الأحداث من خلال المذكرات وتناول معد هذا الكتاب ما له من مآخذ على كل منهما ضمن ذكره ما للمذكرات إيجابيات وسلبيات.
وقد خلص الدكتور ماهر الشريف إلى "أن المذكرات تشكل مصدرا رئيسا وضروريا لدراسة تاريخ الحركات الاجتماعية والسياسية، فهي تنفخ روحا إنسانية حية في وثائق الأرشيف الجافة، إلا إنه مصدر لا يمكن الاعتماد عليه وحده، الأمر الذي يفرض على المؤرخ أن يتعامل مع المذكرات تعاملا نقديا، وأن يضع المعلومات التي تتضمنها في تقاطع مع المعلومات التي تتضمنها وثائق الأرشيف".
إضافة تعقيب