news-details

ملاحظات عن الثّقافة والأيديولوجيا في إسرائيل |  ارام محاميد

الصّراعات الثقافية الأيديولوجيّة هي تعبير عن صراعات قوى اجتماعية وليست صراعًا قائمًا بحد ذاته. في داخل الحركة الصّهيونية الّتي اتفقت على خطوطٍ عامّةٍ عريضةٍ رغم تعدّد التيارات إلّا أنّها لم تتجاوز المعسكرين في التّحليل الأخير، حيث انقسم الصهاينة بداية الأمر إلى معسكرين

إنّ مفهوم الثّقافة من المفاهيم الّتي يدور حولها نقاشٌ طويلٌ بين المدارس الفكريّة المختلفة ومحط جدلٍ كبير. وليس هنالك متسع لعرض مختلف الآراء حول الثّقافة وماهيتها وتاريخ الكلمة، إنّ ما يهمنا في مفهوم الثّقافة هو ارتباطها ببنية وحركة المجتمع أو كما يقول ادموند بروك: "إنّ الثّقافة تقدّم تعبيرًا مجازيًا عن المجتمع الفعليّ ومن ثم تكون درعًا يحميه".

رأى لوي التوسير بالثّقافة كنتاج لصراع ايديولوجيات متعدّدة والدّولة تعبّر عن خلاصة المجتمع وتناقضاته وصراعاته فتأخذ على عاتقها مهمة تسكين الصّراعات داخل المجتمع عن طريق خلق "ثقافة" عامّة للمجتمع، ونعني بثقافة عامة الأخلاق والعادات والفن والمعرفة ومختلف الأمور العموميّة، وتكون الثقافة خليطًا من هذه الأيديولوجيات ولكن الظاهر والسائد يكون أيديولوجيا التيار المسيطر وباقي الأيديولوجيات تكون وإن كان لها مكان فإنها تكون ثانوية.

على ضوء الواقع الإسرائيلي فإنّ الثّقافة العامّة داخل إسرائيل هي خليطٌ من ثقافاتٍ مختلفةٍ بحكم تكوين المجتمع الإسرائيلي من مهاجرين من ثقافات مختلفة ومتنوعة جاؤوا إلى فلسطين وكوّنوا مجتمعًا جديدًا. وبهذا الصدّد يقول ادوارد سعيد حول الثقافة وتنوّعها وخصوصيتها:

"جميع الثّقافات متداخلة في بعضها البعض، لا ثقافة فريدة ونقيّة، الكل هجينٌ متغاير الخواص، متباين على نحو استثنائي، ولا يمثل بنيةً متجانسةً أحادية التكوين"

علينا أن نجد الايديولوجيا وراء هذه الثّقافة العامة ومن ثم الصّراع الأيديولوجي داخل هذه الثقافة بتفرعاتها المختلفة. الثقافة العامة الإسرائيلية الّتي خلقت من مزيج من ثقافاتٍ مختلفةٍ للمهاجرين اعتمدت الخرافة التوراتية وبعض التقاليد اليهودية كأساس جامع لهذه الثقافة الجديدة المختلقة.

 

الصّراعات الثقافية الأيديولوجيّة هي تعبير عن صراعات قوى اجتماعية وليست صراعًا قائمًا بحد ذاته. في داخل الحركة الصّهيونية الّتي اتفقت على خطوطٍ عامّةٍ عريضةٍ رغم تعدّد التيارات إلّا أنّها لم تتجاوز المعسكرين في التّحليل الأخير، حيث انقسم الصهاينة بداية الأمر إلى معسكرين:

1. الصّهيونية العماليّة التي قادها بن غوريون تاريخيًا وهي من أقامت هذه الدّولة.

2. الصّهيونية التنقيحية التي قادها زئيف جابوتنسكني ولاحقًا مناحيم بيجين.

هذا الإنقسام التاريخي داخل الحركة الصّهيونية يعبّر عنه اليوم بسطحيةٍ بتسميات يمين ويسار الّتي لا تعدو كونها صراعًا صُوريًا، ولكن الصّواب هو أنّ كلا الاثنين يعبّران عن الانقسام داخل المؤسسة الحاكمة ويتجاوز الخلاف بينهما مجرد صراع سياسي إلى الاقتصاد والمجتمع ومختلف مناحي الحياة في المجتمع الإسرائيلي.

داخل كلّ قضية في إسرائيل نرى الانقسام إلى رأيين وتوجهين مختلفين ونبدأ هنا بالسياسة، على الصّعيد السّياسي تيار التنقيحيين  رغم التّغيرات الّتي طرأت عليه ما زال توجه هذا التيار هو السّيطرة على "أرض إسرائيل الكبرى" كحق لليهود وعدم منح حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ونضع أحزاب الليكود والمستوطنين والحريديم  ومختلف كتل اليمين تحت هذه الخانة رغم بعض الخلافات الثانوية بينهم. يمثل بنيامين نتنياهو اليوم هذا التيار ونستطيع أن نتعقب أيديولوجيا نتنياهو من كتابه "مكان تحت الشمس" الصّادر عام 1994 حيث يريد غرب النهر بكامله لليهود. ويريد الجولان لليهود. أي يريد فلسطين التّاريخية برمتها باستثناء غزة الّتي يعدها عبئًا على إسرائيل فلا بد من التخلص منها بإلقائه على مصر.

أمّا التّيار الثّاني فهو تيار يرى أيضًا "بأرض إسرائيل الكبرى" حقًا طبيعيًا لليهود ولكنه مستعد للتنازل خوفًا من دولةٍ ثنائية القومية، وكان آخر قائدٍ تاريخي يؤخذ على محمل الجد لهذا التيار هو اسحاق رابين وقد عبّر عن هذا التوجه بوضوح:

"كان علينا الاختيار بين أرض إسرائيل الكاملة الّتي تعني دولةً ثنائية القومية، وتركيبة سكانية تعني 5.4 مليون يهودي وأكثر من 3 مليون فلسطيني. أكرر هذه النقطة. كان علينا الاختيار بين أرض اسرائيل الكاملة - ونحن نؤمن أنّ للشّعب اليهودي الحق بها - ولكن معناها هو دولة ثنائية القومية تركيبتها السكانية ستكون 5.4 مليون يهودي وأكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني وهم كيانٌ منفصلٌ دينيًا، سياسيًا وقوميًا، وبين دولة أصغر في مساحتها ولكنها دولة يهودية. اخترنا بإرادتنا أن نكون في دولة يهودية، اخترنا الدّولة اليهودية لأننا مقتنعون أنّ دولة ثنائية القومية مع ملايين العرب الفلسطينيين لن تستطيع أن تقوم بهدفها اليهودي العالمي لدولة إسرائيل التي هي دولة اليهود" (من آخر خطاب لرابين في الكنيست بتاريخ 5.10.1995).

الصّراع بين المعسكرين هو صراعٌ موجود قبل قيام دولة إسرائيل، وبقي بعدها، عرف تفوق الصّهيونية العماليّة بدايةً ولاحقًا مرحلة من تقاسم السّلطة، أمّا اليوم فكل مطلع يعلم جيدًا أنّ الجناح اليساري هزم هزيمةً نكراء، ووجدت محاولات لمعسكر يمثل حلًا وسًطا بين الاثنين. نعطي مثالًا واضًحا للغاية على محاولة إيجاد حل وسط يوفق بين الاثنين هو يائير لبيد. هذا الإعلامي الّذي قرّر دخول المعترك السياسي، كان سببًا لخوضه الصّراع السياسي مباشرةً هو خوفه على طبقته الوسطى ومحاولة إنقاذها من التفكك والانحدار الطبقي بسبب سياسات نتنياهو وحكوماته، كما صرح هو (يائير لبيد) بنفسه مرات عديدة وكان المدان الأول بالنسبة له هم الحريديم، سياسات يائير لبيد كوزير مالية جعلت نتنياهو لا يتحمله أكثر من سنة ويرمي به إلى صفوف المعارضة. تفسخ المعارضة حول المعادلة إلى معسكر اليمين وكل آخر، ولكن مع ذلك لم يتبلور معسكر يمثل حلا وسطًا بين المعسكرين التاريخيين (على تعدّد أقطابهما) اللّذان شكلا نواة الحركة الصهيونية. 

رغم الأيديولوجيات المتعدّدة الّتي تتكوّن منها الثّقافة العامّة الإسرائيلية إلّا أنها الأيديولوجيات اّلتي تنافست وانتشرت عند الشّعب ومختلف مركباته لم تخرج من إطار النخبويّة، وبقيت أيديولوجيات النّخب وأقطاب السّلطة بشقيها اليميني واليساري

 

ما ذكرنا عن يائير لبيد وسبب خوضه للمعترك السّياسي يقودنا إلى الحديث عن الصّراع الأيديولوجي في شقّه الاقتصادي، حيث عاشت إسرائيل مرحلة نسميها ب"رأسماليّة الدولة" ومرحلة ممتدة حتى يومنا هذا قدّمت الدولة والسّلطة فيها نفسها كسلطة فوق طبقية لا تتدخل قدر الإمكان بالسوق والاقتصاد. يمثل الجناح الأوّل الّذي سميّ باليمين التيار النيوليبرالي داخل دولة إسرائيل الّذي لا يريد كل تلك التقييدات لرأس المال أو أي تنازلات طبقية لباقي فئات الشعب، نعطي مثالًا يعبّر عن هذا بعومر يوئاف الاقتصادي المعروف بحماسه الشّديد للرأسمالية حيث اعتبر أنّ الرأسمالية هي شرط الرفاه الاجتماعي (من مقاله: هل السويد اشتراكية لا سمح الله؟) وكذلك لا يعتبر تقليص الفوارق الاجتماعيّة حلًا للفقر أو المستضعفين ومهمة الدّولة فقط الحفاظ على السوق. بينما الجناح الآخر يريد إسرائيل باقتصادٍ رأسمالي أكثر "انسانية" وأقل "توحشًا" مثل ضرائب أكثر على المستثمرين والواردات ودعم وموازنات أكثر لمساعدة المهمشين وترقية وضعهم الطبقي والحفاظ على الطبقة الوسطى، ونستطيع أن نعطي عدة أمثلة من أصحاب هذا التوجه مثل داني غوتوين ويوسي داهان صاحب كتاب: "نظريات في العدالة الاجتماعية" وغيرهم ممن يعبّرون عن الصّراع من هذه الزاوية.

هناك صعيدٌ آخر لهذا الصراع أريد أن أسميه "صراع الهويّة" داخل المجتمع الاسرائيلي الصهيوني وهنا لا أقصد فقط النّقاش المشهور: "من هم اليهود" بل ما أجمع عليه الطّرفان "يهودية ديمقراطية" وما يتمخض عنه من مشاكل هوياتية. يتفّق الطرفان أنّ دولة اسرائيل يجب أن تكون دولةً "يهوديةً وديمقراطيّةً" في نفس الوقت، ولكن الّذين ينتمون لليمين يحاولون خلق هوية مستمدة بشكل رئيسي من الخرافة اليهودية وقصصها، وليس بالضرورة هوية دينية، إنما يلائم ما يسمى بالتراث اليهودي مع هوية تخصّه، وتتفرع طرق التعبير عن هذه الهوية الّتي يكون "التراث" اليهودي عمادها، فقد تكون هويةً دينيةً أو ثقافوية مثل ارتداء نجمة داوود وما يمكن للآخر أن يميّزك بكونك يهوديًا. بينما الطرف الآخر رغم حفاظه على مفهوم اليهودية كجزء من الهوية إلّا أنّه يميل أكثر لهوية حداثية تعبر عنه كإسرائيلي يعيش حياةً عصريةً واليهودية بالنسبة له هي تاريخه وثقافته وليست حاضره، وهناك منهم من اكتفى بالإسرائيلية بدون اليهودية مثل شلومو زاند الذي رغم تخلّيه عن اليهودية ومعارضته المشهورة لها في كتبه: (اختراع الشّعب اليهودي، اختراع أرض إسرائيل، متى وكيف توقفت عن كوني يهوديًا) ولكنّه أصر على كونه "وطني اسرائيلي". في هذا السياق أيضًا بين الأكاديميين كانت محاولة لإيجاد حلولٍ وسط، مثل دعوة رافيت جيبزون لإيجاد نسخةٍ يهوديّةٍ جديدةٍ جامعةٍ لا يختلف عليها (يهدوت يهوديت) ولكن مثل هكذا محاولات لا تعدو كونها أحلام يقظة رومانسيّة.

تلعب الخلفية القومية دورًا في تحديد المكان الأيديولوجي والهوياتي للأفراد رغم أنها ليست قاعدةً مطلقة، وهنا يجب التنويه إلى أنّ صراع الهويات هو بالفعل صراع واقعي ولكنه يعبر عن صراع مصالح بين فئات طبقيةٍ عليا داخل المجتمع يكون ضحيتها الفقراء والمهمشون، ولا أدلّ على هذا في سياق إسرائيل من التسجيلات الّتي (البقية ص22)

خرجت عن نتان ايشيل المقرب من نتنياهو الّذي قال بمنتهى الوضوح بوجوب إشاعة الكراهية عند "غير الأشكناز" لأنهم يخدمون مصالحهم وأشاد بما تقوم به ميري ريغف رغم كونها "بهيمة".

رغم الأيديولوجيات المتعدّدة الّتي تتكوّن منها الثّقافة العامّة الإسرائيلية إلّا أنها الأيديولوجيات اّلتي تنافست وانتشرت عند الشّعب ومختلف مركباته لم تخرج من إطار النخبويّة، وبقيت أيديولوجيات النّخب وأقطاب السّلطة بشقيها اليميني واليساري ولم تشهد إسرائيل بسبب الشّروط المادية الّتي تحكم المجتمع تبلور أيديولوجيّة تمثل مصالح الفئات المهمشة والفقراء والعمال ومختلف من ظلموا ورمي بهم إلى هامش المجتمع في دولة اليهود، وشروط الحياة المادية هذه لا مجال لمناقشتها هنا ولا يكفيها مقال ولا حتى دراسة بحكم تعقيد المجتمع الإسرائيلي بسبب اختلافه عن المجتمعات الرأسمالية الكلاسيكية بحكم التّمويهات الدينية والقومية الّتي تشوبه.

أمّا بالحديث عن الثقافة العامّة الإسرائيلية، ونقاط عمومية، فملموس عند الكل تقريبًا إلّا من رحم ربي، نظرتهم وتعاملهم مع الشّعوب الأخرى، الشّعب الإسرائيلي يجابه الشعوب الأخرى باكتفاء لا حدود له، بهذه المملكة الأثيرية للأحلام الّتي تسمّى دولة الشّعب اليهودي، مملكة "أبناء الأنبياء" زاعمين أنهم قمة وخاتمة التاريخ العالمي بأسره. إنهم يعتبرون في كل مجال أن أوهامهم الحالمة هي الحكم النهائي والجازم على أعمال الآخرين، وعندما يكون نصيبهم مجرد التفرج على الأحداث من دون الحصول على أية مكافأة على أتعابهم، يحسبون أنهم مدعوون لإصدار الأحكام على العالم بأسره، وتحويل إسرائيل إلى الحلبة، حيث يبلغ التاريخ بأسره أغراضه الأخيرة. إنّ هذه الغطرسة القومجية المنتفخة الأوداج والمسرفة جعلت الإسرائيلي عموما يشعر أنه هو مثال للإنسان الأعلى، وإن أصابه مصاب فإنها كارثة ينبغي على العالم كله أن يساعده فيها بينما هو معفي من التضامن مع الآخرين، وعند إبداء اهتمامه وتضامنه فإنه يستحق سماع أحر كلمات المديح ونيل أعلى الرتب والجوائز على معروفه هذا. واذا كان التعصب القومجي بغيضًا في كل مكان ويثير الاشمئزاز ففي إسرائيل على وجه الخصوص يتجاوز كل حد معقول. يعتقد الشّعب الإسرائيلي بمعظمه أنه قمة العالم ولكنه لا يدرك أنم يعيش تخلفًا ثقافيًا قل نظيره، يعيش عهدًا من القزامة الفكرية، يتميز بتفاهة وغوغائية وضحالة يضرب بها المثل، وحكم على الأمور لا يتجاوز أنفه.

يلاحظ القارئ كذلك أني استثنيت العرب من المعادلة، وهذا بالطبع ليس لأنني أدعوهم للانعزال عن الحياة السياسية والاجتماعية داخل هذه الدولة، إنما لأني أتحدث هنا حصرًا عن المجتمع الّذي أفرزته الحركة الصهيونية وما فيه من أيديولوجيات كوّنت ثقافته. أما العرب فكانوا وسيبقون خارج هذه المعادلة دائمًا.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب