news-details

من أجل اتحاد حقيقي يبني مجتمع المستقبل | د. خليل اندراوس

 

* الأمة العربية قادرة أن تعود وتقوم بدورها التقدمي الإنساني *

 

لقد ترك انهيار الاتحاد السوفييتي فراغا كبيرا في بنية النظام الدولي وتوازناته، ولذلك كان لا بد للولايات المتحدة من البحث عن عدو جديد تستطيع من خلاله الاستمرار في حروبها المحلية خدمة لطبقة رأس المال العالمي والصهيوني وخدمة لشركات صناعة السلاح، التجار بدم الشعوب، فبرزت في هذا السياق نظرية " صراع الحضارات" التي روجها بدعم اليمين المحافظ الأمريكي، الأمريكي صموئيل هنتنغتون، والتي كانت في الأصل نظرية البريطاني المحافظ برنارد لويس. واعتمد هنتنغتون هذا مقولة الصدام تعبيرا عن لحظة الصراع الذي يجري وسيستمر على ارض الواقع، بعدما أصبحت الولايات المتحدة هي القطب الوحيد الحاكم والمقرر في القضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية.

لذلك أخذ بعض لا بل أغلب رجال السياسة في الغرب وخدمة لطبقة رأس المال العالمي وخاصة اليمين الأمريكي ورأس مال صناعة السلاح، يتنبأون بالتقسيم السياسي للعالم، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، فقال هنري كسينجر ان" "النظام العالمي في القرن الواحد والعشرين سيضم على الأقل ست قوى رئيسية: الولايات المتحدة، أوروبا، الصين، اليابان، روسيا وربما الهند بالإضافة الى عدد كبير من الدول المتوسطة أو صغيرة الحجم". (صموئيل هنتنغتون صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي. ترجمة طلعت الشايب، طبعة ثانية 1999. ص 46).

وفي طرحه ينزع هنتنغتون عن الصراع خلفيته الأيديولوجية- الاقتصادية ويرمي بالصراع في أحضان الاختلاف الثقافي والديني فيقول: " في عالم القرن الواحد والعشرين لن تكون الصراعات المهمة والملحة والخطيرة بين الطبقات الاجتماعية أو بين الغني والفقير أو بين أي جماعات أخرى محددة اقتصاديا، الصراعات ستكون بين شعوب تنتمي الى كيانات ثقافية مختلفة.

الحروب القبلية والصراعات العرقية سوف تحدث داخل الحضارات، الا أن العنف بين الدول والجماعات التي تنتمي الى حضارات مختلفة يحمل معه إمكانية التصعيد، فتهب دول وجماعات من تلك الحضارات وتتجمع لدعم (دول القربى)، ويستشهد هنتنغتون في تدعيم رؤيته في كل من:  فاتسلاف هافل، منشق ورئيس تشيكي سابق وكاتب مسرحي كتب خلال حياته أكثر من عشرين مسرحية وعددا من الكتب التي ترجمت الى لغات عالمية عديدة. اختير ليشغل المرتبة الرابعة وفق ترتيب مجلة prospect magazine  لأفضل مئة مفكر على مستوى العالم. حين وفاته كان هافل يتولى رئاسة مجلس إدارة منظمة حقوق الانسان ومقرها نيويورك. ويعد هافل مؤسس مؤسسة vize 97 ، والمؤسس الرئيسي للمؤتمر العالمي السنوي forum 2000  كما يعد مهندس اسقاط الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا السابقة ابان "الثورة المخملية" في تشرين الثاني من العام 1989، تولى الرئاسة في تشيكسلوفاكيا من 29 كانون الأول عام 1989 حتى تموز عام 1992. ثم رئاسة جمهورية التشيك في 2 شباط 1993 حتى 2 شباط 2003. وحاز على جائزة غاندي للسلام الرفيعة، وقد اختير لهذه الجائزة نظرا الى اسهاماته في السلام العالمي، والتزامه بحقوق الانسان في أصعب المواقف من خلال انتهاجه أساليب الزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي. وقد توفي في 18 كانون الأول عام 2011، بعد صراع طويل مع مرض السرطان عن عمر ناهز الخامسة والسبعين) " الذي يقول ان الصراعات الثقافية تتزايد وهي الآن أخطر مما كانت عليه في وقت سابق في التاريخ". وجاك ديلورز (جاك لوسيان - جان ديلورز ولد في 20 تموز عام 1925 هو سياسي فرنسي شغل منصب الرئيس الثامن للمفوضية الأوروبية في الفترة من 1985 الى 1995. شغل منصب وزير المالية في فرنسا من عام 1981 الى عام 1984، وكان عضوا في البرلمان الأوروبي من عام 1979 الى عام 1981) الذي يقول "ان الصراعات المستقبلية سوف تشعلها عوامل ثقافية أكثر منها اقتصادية أو أيديولوجية" (المرجع نفسه ص 37) طبعا هذه الطروحات تسعى الى تهميش الصراعات الطبقية الموضوعية المادية في المجتمع الرأسمالي، والى تهميش دور الاقتصاد في الصراعات الاجتماعية داخل هذا البلد أو ذاك وبين الدول.

يتناسى هنتنغتون وأمثاله البناء الاقتصادي المادي هو البناء الموضوعي والموجود مستقلا عن الوعي وعن إرادة الأفراد، وحياة المجتمع الثقافية والاجتماعية والسياسية والروحية هي انعكاس لواقع المجتمع الموضوعي المادي، وهو البناء الفوقي للمجتمع وبين البناء الفوقي للمجتمع بكل مركباته السياسية والأخلاقية والأيديولوجية والثقافية. ولذلك تحويل الصراعات في عصرنا الحالي عصر الامبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية الى صراع بين الحضارات هو طرح غير علمي ويخدم طبقة رأس المال ويخدم استمرار هيمنتها وسيطرتها ليس فقط في هذه الدولة أو تلك لا بل وعلى مستوى عالمي. وهنا أذكر ما كتبه هنتنغتون في كتابه ص 386 يقول: " ان عالم ما بعد الحرب الباردة متعدد الأقطاب، ومتعدد الحضارات، ويفتقر الى تقسيم واحد ومحدد، كالذي كان اثناء الحرب الباردة، ولطالما ان التدفق السكاني الإسلامي والانبعاث الاقتصادي الآسيوي مستمران، فان الصراعات بين الغرب وحضارات التحدي سوف تصبح أكثر مركزية في السياسة الكونية، ومن المرجح ان تكون حكومات الدول الإسلامية أقل مودة، والعنف المحدود والمتقطع وربما الشديد سيحدث بين جماعات إسلامية والمجتمعات الغربية".

وهنا بودي أن أقول بأن العديد من الدول الإسلامية، وليس جميعها، حليفة استراتيجية مع الامبريالية العالمي وخاصة الولايات المتحدة ومع الصهيونية العالمية. ومع القاعدة الامامية للامبريالية العالمية في الشرق الأوسط- إسرائيل وسياسات التطبيع مع إسرائيل أكبر مثل على ذلك. وهذه الدول أي السعودية ودول الخليج العربي لا بل الأمريكي- تتلقى الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي في حربها الاجرامية ضد شعب اليمن، وهذه المكونات أي الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية ودول الخليج هي مكونات الثالوث الدنس الذي يقوم ويؤسس ويبني الصراعات المحلية والحروب المحلية في العديد من أجزاء العالم وهو الذي يدعم الإرهاب السياسي الرسمي لحكام إسرائيل ضد الشعب العربي الفلسطيني وهو المبرمج والداعم للمؤامرة الإرهابية على سوريا بهدف تقسيمها الى أربع دويلات- دويلة كردية في شمال سوريا ودويلة علوية في غرب سوريا ودويلة سنية وسط سوريا ودويلة درزية على الحدود مع إسرائيل بهدف خدمة مصالح إسرائيل الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.

والحركة الصهيونية العالمية تبنت هذا المشروع في مؤتمرها العالمي الذي عقد في القدس في ثمانيات القرن الماضي. وأطرح السؤال متى كان عالمنا غير متعدد الحضارات، ومتعدد الأقطاب. ولماذا يتنكر ايديولوجيي الغرب وخاصة هذا هانتنتغتون لسياسات الولايات المتحدة الامبريالية والتي تسعى الى فرض هيمنتها على العالم من خلال فرض مفاهيم القطب الواحد الأمريكي المهيمن على العالم. وما يجري الآن من هجوم اعلامي وسياسي واقتصادي وعسكري امبريالي عالمي على روسيا هدفه فرض استراتيجية حلف أورو- آسيا لحصار روسي من شرق أوروبا مرورا بآسيا الوسطى وحتى حدود الصين بهدف فرض الهيمنة على روسيا لا بل تحويلها الى دويلات وكسرها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا. ولكن فشل مؤامرة تقسيم سوريا والوجود الروسي في سوريا، والحلف الاستراتيجي الروسي الصيني الإيراني أفشل هذا المخطط الذي يهدف الى سيطرة القطب الأمريكي الوحيد على العالم، واليوم روسيا لها الوجود المؤثر والفعال في البحر الأبيض المتوسط من خلال علاقات صداقة مع سوريا والجزائر ودورها المؤثر في ليبيا ولها الوجود في المحيط الهندي، والمناورات العسكرية الواسعة الروسية الصينية الذي يجري الاعداد لها لأكبر دليل على فشل المخطط الامبريالي الأمريكي الغربي الأوروبي ضد روسيا.

وهنا لا بد لي وأن أقول بأن تقسيم العالم الى محورين أو عالمين على أساس حضاري بموجب طرح هانتنغتون يلتقي مع رؤية أسامة بن لادن، الذي كان حليف الولايات المتحدة في حربها على أفغانستان ونظامها الديمقراطي الوطني خلال ثمانيات القرن الماضي وهنا أذكر لقاء ريغن مع الجهات والمنظمات المتطرفة في واشنطن والتي حاربت النظام الديمقراطي في أفغانستان واصفا إياهم "بمجاهدي الحق". ففي تلك الفترة عملت الإدارة الامريكية بالتعاون مع الأنظمة الرجعية العربية في الخليج والسعودية ومصر وباكستان على توجيه الغضب العربي في أمكنة بعيدة عن فلسطين ففتحت الطريق الى أفغانستان لمقاومة المنظومة الشيوعية التي احتلت أراضي المسلمين فأوعز الأمريكيون بالتعاون مع السعودية والمخابرات الباكستانية الى تنظيم "الجهاد" في أفغانستان دفاعا عن الإسلام.

من أفغانستان انطلق المشروع الإرهابي في منطقة الشرق الأوسط تحت مظلة المُشغل الأمريكي- السعودي وبتمويل ممالك الخليج ودعم الصهيونية العالمية وإسرائيل- الثالوث الدنس. والآن حتى بعد هروب الولايات المتحدة من أفغانستان، حاولت الولايات المتحدة من خلال منظمات دينية متطرفة تلقى الدعم "الخفي" من الثالوث الدنس نقل الصراعات الاثنية والطائفية الى كازخستان لا بل والى كل آسيا الوسطى ولكن الموقف الروسي السياسي والأمني والعسكري الحاسم أفشل هذه المحاولة.

ما تسعى اليه الولايات المتحدة الامريكية، بهدف فرض هيمنة القطب الواحد على العالم، هي خلق صراعات اثنية ودينية وثقافية داخل دول وشعوب العالم، والعمل على تحويل "الهوية الحضارية" الى العامل الرئيسي في تحديد علاقات الدول وخلق الصراعات والعدوات لتسهيل عملية هيمنتها على العالم ومن اجل مصلحة طبقة رأس المال وخاصة شركات صناعة السلاح، يكفي أن نذكر السعودية التي دفعت مئات مليارات الدولارات ثمن للسلاح الأمريكي خلال السنوات العشر الأخيرة، وحولت أراضيها أي السعودية الى قواعد عسكرية للجيش الأمريكي، (وفقط حينها أي حين إقامة الولايات المتحدة القواعد العسكرية على أراضي السعودية أصبح بن لادن معادٍ لأمريكا) بحجة وجود عدو شيعي إسلامي أي ايران ضد الإسلام السني، متجاهلين الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وسياسات إسرائيل العدوانية الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني وفي منطقة الشرق الأوسط. وكذلك فعلت قطر حيث تتواجد أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في العالم على أراضيها.

وكل هذه الحقائق الموضوعية تثبت عدم جدية وعملية ومصداقية ما يسعى لنشره الغرب الامبريالي وخاصة الولايات المتحدة، من طروحات صراع الحضارات. ومن المضحك المبكي ان يختزل منظر طبقة رأس المال العالمي اهتمامات الانسان بقوله:" وما يهم الناس هو الدم والعقيدة والايمان والأسرة، لأن الناس عادة ما يهرعون نحو أولئك الذين يكونون من نفس السلف والدين واللغة والمؤسسات ويتباعدون عمن هم عكس ذلك" (صموئيل هنتنغتون ص 203- 205).

وهذا الطرح البعيد كل البعد عن الحقيقة هل يفسر هلع أنظمة الاستبداد في الخليج العربي لا بل الأمريكي نحو التطبيع مع إسرائيل التي تمارس أبشع إرهاب من خلال الحصار على غزة، وتمارس الاحتلال الكولونيالي العنصري الشوفيني ضد شعب فلسطين المناضل والصامد والمكافح على أرض وطنه والذي جعل من مصداقية قضيته قضية إنسانية كونية. أم ان المصالح الطبقية الرأسمالية مع الولايات المتحدة والصهيونية ومع طبقة رأس المال الكومبرادوري- الوسيط هي التي تخلق هذا الهلع، والهرع والتحالف والتآمر والخيانة.

ان طروحات هنتنغتون خادم طبقة رأس المال العالمي هذا حول صراع الحضارات، مبنية على أسس نظرية وفلسفية واخلاقية غير علمية تتميز بمفاهيم فوقية عنصرية متعالية، اتجاه حضارات الشعوب المختلفة حول العالم وخاصة ضد حضارات الشعوب العربية، متناسيا هذا بأن الحضارة الإنسانية وخاصة في الاندلس، وأذكر هنا ما كتبه انجلز في كتابه (ضد دوهرنج ص214) " وهذه الحالات الاستثنائية القليلة هي حالات الغزو الوحيدة التي أباد فيها الغزاة الأقل تحضرا أو طردوا سكان البلد المحتل وأبادوا قواه المنتجة أو جعلوها تموت بسبب عدم اجادتهم استخدامها. هذا ما فعله المسيحيون مثلا في الأندلس للقسم الأكبر من مشاريع الري التي بناها العرب وأمنت لهم حقول القمح والبساتين الزاهرة. وفي كل مرة يكون فيها الغازي شعبا أقل حضارة يجري بالطبع اخلال بسير التطور الاقتصادي وتتعرض القوى المنتجة الواسعة للتلف". لقد كانت الحضارة العربية من أرقى حضارات الإنسانية، والأمة العربية قادرة أن تعود وتقوم بدورها الإنساني العلماني التقدمي، وهذه المحاولة قام بها القائد الخالد جمال عبد الناصر خلال خمسينيات وسيتينيات القرن الماضي عندما رفع شعار الوحدة العربية والاشتراكية، وحينها قامت الولايات المتحدة وإسرائيل وبمعرفة وتنسيق الملك فيصل السعودي، الذي دعا الامريكان بتمزيق عبد الناصر اربا اربا وقامت إسرائيل بعدوانها الاستباقي ضد الدول العربية مصر وسوريا واحتلت كامل الوطن الفلسطيني وكانت الولايات المتحدة وإسرائيل تعرفان مسبقا بأن هذه الحرب ستدوم "بانتصار" حاسم لاسرائيل وستدوم فقط ستة ايام.

وفي النهاية بودي ان اقول بأن الحضارات تتلاقى وتتفاعل وأيضا تتصارع جدليا ولكن في النهاية تتكون حضارة تجمع وتوحد على أساس انساني يعمل على تطور الإنسانية والانسان، ومن يعمل من أجل صراع الحضارات والديانات والمواجهات والإرهاب هي طبقة رأس المال في العالم الامبريالي والدول التي تسيطر عليها طبقة رأس المال الكومبرادوري (الوسيط) كالسعودية ودول الخليج العربي لا بل الأمريكي والصهيونية والقاعدة الأمامية للامبريالية في الشرق الأوسط- إسرائيل.

بعد كل هذا الطرح على كل انسان يهمه مصير ومستقبل الإنسانية فان المشكلات العالمية المطروحة في عصرنا الحالي السياسية، والبيئية وتغير المناخ والجائحات المرضية والصراعات المحلية، والتي كان وما يزال أهمها هيمنة طبقة رأس المال العالمي والغرب الامبريالي لا يمكن حلها الا عن طريق الحوار بين الحضارات المختلفة من أجل تخيل وتصور وتعايش علاقات جديدة بين الانسان والطبيعة وبين الانسان والانسان.

هكذا ممكن ان تفتح أفق ثقافة وحضارة كوكبية إنسانية مرسخة عبر اتحاد حقيقي يبني مجتمع المستقبل- مستقبل حرية الانسان والإنسانية.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب