news-details

هؤلاء علموني: د. هاني صباغ.. شابًا أبدًا على طريق  اليوبيل الماسي 

فتح لنا الأستاذ هاني قلبه وبيته

الناصرة ناصرة الخمسينات من القرن الهارب..والعمر الهارب!

انتقلنا من مدرسة البنين "أ" في حارة الروم ومديرها الأستاذ يوسف خليل جدعون (أبو جميل) إلى مدرسة البنين "ب" المحاذية للكازانوفا في ساحة الكراجات، ومديرها الأستاذ سليم توفيق الأحمد (أبو هشام) ومن قبله تناوب المديران حنا الخازن (أبو وصفي) تبعه الأستاذ رائف الزعبي (أبو أحمد) مديرًا. وأصبح الأستاذ إسعيد خميس مديرًا للثانوية وبعده "البيك" سعيد بشناق (أبو ساهر)..

**

في الصف السابع يقف أمامنا شاب وسيم بهي الطلعة قريب إلى القلب يعلمنا اللغة العربية والحساب..إنه الأستاذ هاني صباغ.

لم يكن الأستاذ هاني بالنسبة لنا معلمًا عاديًا..كان صديقًا،  فقد ربطتنا به علاقة صداقة حميمة.. واتخذنا  أصدقاء..كطلاب مميزين..تمتعوا بالأخلاق الحميدة..وأثبتوا أنفسهم على الساحة التربوية والتعليمية..كان الاحترام المتبادل سيد الوقف.

 فتح لنا الأستاذ هاني قلبه وبيته..وكثيرًا ما كنت أزوره أنا وصديقي فوزي جريس عبد الله.. نزوره في بيته الموجود  في ساحة المطران..فتكون لقاءات اجتماعية وثقافية..ونشعر أننا في بيتنا وبين أهلنا..تحت الخيمة الصباغية الدافئة!

 

من هذه  الشرفة أطللنا على الشاعر راشد حسين

كانت علاقتنا بـ"خير جليس في الزمان" علاقة حميمة..فقد كنا نقرأ كثيرًا ونخربش كثيرًا كلمات تطمح لأن تكون شعرًا أو قصة أو مقالة أدبية أو نقدية. نقرأها في حضرة الأستاذ هاني فلا يبخل علينا بإسداء النصيحة الخالصة والإرشاد إلى الطريق الأدبي الصحيح. وعلى صعيد آخر..كانت تربط الأستاذ هاني علاقة حميمة مع الشاعر راشد حسين..الذي كان على ظهر خيله في المشهد الأدبي والثقافي..وكان جيلنا معجبًا براشد شاعرًا وأديبًا وصحافيًّا لامعًا.  ومن خلال هذه العلاقة بين الرجلين..استطعنا التعرف على الشاعر راشد حسين..وسرعان ما زالت الحواجز بين راشد والطالبَين الطموحَين..وتوطدت بينهم علاقات حميمة..ووجدنا أنفسنا نحن وراشد في خندق واحد. وكثيرًا ما كنا نعرض عليه تجاربنا الأدبية لنستأنس برأيه في ما نكتبه ونسترشد بملاحظاته..ثم سقطت جميع الحواجز.وتطورت العلاقة مع راشد الذي يكبرنا سنًّا لترتقي إلى مرتبة رفيعة..أشرت إليها وتوقفت عندها في كتابي "بين مدينتين- سيرة ذاتية".

 

معلم مؤقت.."على الساعة"!

وعودة إلى صديقي وأستاذي هاني صباغ. 

يمتد شريط  الذكريات ليغطي ثلاثة عهود..بدءًا من عهد التلمذة إلى عهد الزمالة في سلك التعليم إلى عهد الدراسة الجامعية..وأخيرًا..يقفز الزمن قفزة هائلة..وتصبح العلاقة عابرة للمحيطات لتربط بين لوس أنجلوس في بلاد العم سام وبين عروس الكرمل في وطن الآباء والأجداد.  

ولنعد إلى البدايات..

عندما أنهيت دراستي الثانوية في الفرع العلمي في المدرسة الثانوية البلدية، كان من نصيبي أن أعمل معلمًا "مؤقتًا" جدّا و"على الساعة"..وفي تلك الفترة كان هذا إنجازًا طمح إليه الكثيرون من الأجيال التي تخرجت من المدارس الثانوية في المدينة وغيرها!! وكانت البداية أن علّمت في المدرسة الابتدائية للبنات في الناصرة التي أشرفت على إدارتها المربية وسيلة رزق، ومن ثم انتقلت إلى مدرستَي المربيتين فهيمة جرجورة وأولغا سليمان..وبعدها كان "سفر الخروج" فكان الانطلاق إلى المدارس خارج المدينة..ووجدت نفسي معلمًا مؤقتًا لأيام معدودة في يافة الناصرة وشفاعمرو وعين ماهل وعرب الشبلي، وكان نصيبي أن أعلم في كل مدرسة يومًا أو يومين أو ثلاثة أيام..وفي نهاية المطاف شاء الحظ أو شاء المفتش رائف زعبي (أبو أحمد) أن أعلم في المدرسة الابتدائية للبنين "ب" في الناصرة، وهي المدرسة التي تخرجت منها. ووجدت نفسي أعلم  مع صديقي وأستاذي  هاني صباغ. وعلّمت مع طاقم من أساتذتي الأجلاء أذكر منهم نصري النخلة (أبو فريد) وليد الصالح جريس حاج وإميل حاج ومنصور صالح وسلطي سعد وأمين معمر والياس معمر والياس توفيق دانيال وآخرين غابوا في غابات الذاكرة.

إنها تجربة مثيرة!

أن تعلم مع المربّين الأفاضل الذين نشأتَ في أحضانهم وتعلمت على يديهم وعلموك اللغة العربية والعبرية والإنجليزية  والحساب والتاريخ والجغرافيا والعلوم!

 

  • في الجامعة العبرية في زهرة المدائن..تكون المفاجأة!

وتدور عجلة الزمان..

ويطير القلب  من  عروس الكرمل إلى زهرة المدائن..من جامعة حيفا إلى الجامعة العبرية في القدس..وهناك..تنتظرني المفاجأة..فألتقي "طالبًا جامعيّا" تربطني به علاقة "تاريخية" قديمة وحميمة وبيني وبينه عيش وملح..ألتقي أستاذي وزميلي وصديقي  هاني صباغ..ونكون معًا..طلابًا جامعيين ندرس علوم اللغة العربية لنيل اللقب الثاني..نواصل المسيرة الأكاديمية..ونكون معًا تحت خيمة العالم بروفيسور مئير كستر..ولي معه حكايات وطرائف مثيرة  ذكرت بعضها في كتابي "حكاية عشق- سيرة أدبية".

 

أين صديقك "المشاغب"؟ إنني أبحث عنه!

ذات صباح مقدسي جميل ألتقي في الجامعة بروفيسور كستر..وبعد الصباح والرباح..يسألني بلهجته "العسكرية" الحريرية خفيفة الظل: أين صديقك "المشاغب"؟! إنني أبحث عنه!

لقد باغتني الأستاذ كستر..ولم أعرف أنني صديق لطالب في "مدرسة المشاغبين"!!

ثم زال الضباب واكتشفت أن  الصديق "المشاغب" لم يكن إلا أستاذي "الطالب" هاني صباغ!

قالها بروفيسور كستر على سبيل الدعابة، وفهمت منه أنه معجب جدّا بالدراسة الأكاديمية وموضوعها "عُيينة بن حصن الفزاري"  التي قدمها له "الطالب" الجامعي هاني صباغ!..وفي لقائنا الأخير فهمت من صديقي الدكتور هاني أن بروفيسور كستر من شدة إعجابه بالدراسة..منحها علامة كاملة..ثم أراد أن يترجمها إلى اللغة الإنجليزية وينشرها  في إحدى الدوريات الأكاديمية العالمية.

 

  • بعد أربعين عامًا..لقاء مشتهى في "جنينة أبو ماهر" التاريخية

أربعون عامًا مرت كرمشة عين؟ أنا لا أصدق!

يتصل بي الدكتور هاني من لوس أنجلس..وتكون البشرى التي انتظرتها بشوق..يقول: سأكون في الناصرة الشهر القادم..في تموز.. يجب أن نلتقي! أدعوك إلى لقاء في الناصرة.

في السادس والعشرين من تموز هذه السنة..وفي مدينة البشارة..كان اللقاء في المقهى التاريخي "جنينة أبو ماهر" التي كانت شاهدًا على العديد من اللقاءات الثقافية والاجتماعية والنواسية..هذه "الجنينة"  كان روادها العديد من الرموز الأدبية والثقافية والشخصيات الريادية التي ساهمت في تشكيل المشهد الأدبي والثقافي في هذا الوطن.

وبعد العناق الحار الذي اختزن شوقًا عمره أكثر من أربعين عامًا..فُرشت موائد الذكريات..وفُتحت أبواب الحنين على مصاريعها..

الحديث ذو شجون..ثلاث ساعات من استحضار ذكريات الزمن الجميل..ثلاث ساعات غصّت بالطرائف والنوادر والحكايات والتفاصيل الصغيرة..وكانت كلها وقفات على عتبات لملفات حافلة كانت مطوية في ذاكرة الزمن الجميل..ثم تفتحت وانطلقت لتدخل في حدائق الرياحين لصاحبها الأبشيهي حارس" المستطرف في كل فن مستظرف".

وقدم لي كتابه الأخير "الشعر الفلسطيني في الداخل بعد النكبة" (2019)..ومن قبله وصلني عن طريق الخالة أم نسيم صباغ كتاب " ضاهر العمر الزيداني في عيون معاصريه" (2014)

ونحن على موعد مع كتاب "نصراوي في ساحة العين- سيرة ذاتية"..الذي شرفني أستاذي  بإرساله إليّ عبر الإيميل لأطلع عليه قبل أن يجد طريقه الطباعة والنشر. 

 

  • تودّع من حبيبك كل يوم   فلا تدري الوداع متى يكون

ثلاث ساعات مرت كأنها ثلاث دقائق..اختطفناها من شريط العمر الهارب بعد غياب أربعين عامًا..

لم نرتو من الساعات الثلاث..فلم تكن إلا نقطة في محيط الزمن المترامي الأطراف. ولم يزدنا اللقاء إلا عطشًا إلى لقاءات أخرى مشتهاة. أنظر إلى الساعة..فأحاول إيقاف عقاربها وأشدها إلى وراء..ولكن عبثًا. تدق ساعة الوداع..فنفترق ونتواعد على اللقاء في موعد آخر لم نستطع أن نحدد معالمه..فالضباب الكثيف يطغى على الطريق الحافل بالأقدار والمجاهيل..ويخلق ما لا تعلمون. 

وأتذكر قول الشاعر:

تودّع من حبيبك كل يوم   فلا تدري الوداع متى يكون

ولم أستطع أن أخفي دمعة سقطت من القلب..وشعرت بشيء من الحزن يزحف نحو الأعماق..أرجو أن يكون هذا الوداع غيمة صيف عابرة..أرجو أن يكون مؤقتًا عابرًا يتبعه لقاء آخر مشتهى في عروس الكرمل أو في لوس أنجلس في بلاد العم سام. 

فهل نلتقي ثانية!؟

يحدوني أمل جامح لتحقيق هذا الحلم..فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.

 

**

ملاحظة: عندما ودعته .."نسيت من يده أسترد يدي..طال السلام..وطالت رقصة الهدب".. وهمس في أذني: في  الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني هذا العام أكون قد بلغت المحطة المركزية الواقعة على طريق اليوبيل الماسي..

عزيزي وأستاذي د. هاني

لك مكانة رفيعة في القلب  

ولك المحبة في قلوب محبيك من الأجيال التي علمتها عشق اللغة العربية والرياضيات والعلوم.

أتمنى لك الصحة والعمر الطويل ودوام العطاء الإبداعي..تحياتي لك وللأسرة الكريمة التي يقتلها الحنين إلى أيام الزمن الجميل.

 

  • وثيقة تاريخية..أول صف تخرج من ثانوية الناصرة عام 1953

وعدت إلى أرشيفي الخاص..فعثرت على الوثيقة التالية:

**

رسالة من أستاذي د. هاني صباغ

**

خريجو المدرسة الثانوية البلدية الناصرة ١٩٥٣  أول صف تخرج وتقدم لامتحانات البجروت

**
أهدي هذه الذكرى  إلى جميع من تخرج معنا. كان عدد طلاب الصف ثلاثة عشر طالبًا وهم:
إبراهيم معمر. حبيب عليمي. زهير حلاق. عبد الرحمن الزعبي. سهيل خليف. مجيد جهشان.
وليد الصالح. فؤاد النعيم. جريس غطاس. نسيب الخالد. سهيل فرح. سليم أبو العسل. هاني صباغ. والطالبتان. سامية خوري و بادرة مزبر.
وانضم إلى الطلاب في أول شهر أيار قبيل نهاية السنة الدراسية الطالب بطرس أبو منة ليستعد للبجروت ويتقدم للامتحان.  كانت التجربة قاعدة لمن تقد م للبجروت بعد ذلك. كنا الرواد. وللأسف ليس لدي صورة تجمعنا لأنشرها.

 

  • سيرة ذاتية

وفتحت الملف الشخصي للدكتور هاني صباغ..فقرأت ما يلي:

 ولدت في مدينة الناصرة  عام  ١٩٣٤ لأبوين ناصريين، درست في المدارس الرسمية وتخرجت منها بشهادة بجروت عام  ١٩٥٣ بدأت عملي في التدريس عام  ١٩٥٤ شاركت في دورات لتدريس العلوم والرياضيات الحديثة. حصلت على اللقب الأول من الجامعة العبرية فرع حيفا ١٩٦٨ (هكذا كانت تسمى جامعة حيفا وقتئذ). حصلت على اللقب الثاني من الجامعة العبرية في القدس عام  ١٩٧٤ حصلت على الدكتوراه من جامعة مشيغان-آن آربر عام  ١٩٨٦ وهي من كبريات الجامعات الأمريكية. درّست في نفس الجامعة اللغة العربية في السنوات ١٩٨٢-١٩٨٦ درّست العربية وآدابها في جامعة بيت لحم عامَي ١٩٨٦-١٩٨٧ ثم درّست العربية في جامعة كاليفورنيا - لوس انجلوس عامَي ١٩٨٧-١٩٨٨ عدت بعدها للتدريس في جامعة آن آربر حتى تقاعدت عام ٢٠١٠ - وخلال هذه السنوات درّست مساقات صيفية في جامعات ان اربر ومينسوتا وأوريغون.

 

  • مؤلفات د. هاني صباغ

  • ضاهر العمر في عيون معاصريه الشعر الفلسطيني في الداخل ١٩٤٨-١٩٨٢ (2014) 

  • الشعر الفلسطيني في الداخل بعد النكبة (2019)

  • ديوان الوليد بن يزيد

  •  كتاب الأوائل لأحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل الشيباني  ونشر في دمشق

  •  والآن أعمل على كتاب عن خليل بيدس واضع أسس القصة الفلسطينية.

  • سيصدر قريبًا كتاب "نصراوي من حارة العين"- سيرة ذاتية 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب