news-details

هل من طريق سالك إلى الاشتراكية؟| عبد الرزاق دحنون

قبل أن ننزل إلى الشارع ونسأل أهل الحل والربط في هذا الشأن - أقصد الجماهير الكادحة التي تعيش أيام الفاقة والمسغبة وإهدار الكرامة في ظلِّ حكومات توسَّعت في عهدها دائرة الفقر والجوع والمرض - لا بدَّ لنا من وقفة مستفيضة عمَّا نقصده من كلمة اشتراكية حتى لا يكون كلامنا كغناء في طاحون، أو نُتهم بأننا نُروِّج بضاعة فاسدة في سوق الأفكار. وهل فعلاً سدت جميع الطرق إلى الاشتراكية وهي غير سالكة بسبب تراكم الأخطاء؟ أم أن الطريق إلى الاشتراكية يوصلنا مباشرة إلى الاستبداد في السلطة السياسية وبالتالي يتحول "المستبد الاشتراكي" إلى صنم مقدس يتم عبادته من الجماهير الكادحة أو "البروليتاريا". كوريا الشمالية مثلاً اسمها الحقيقي: جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية.  

عدتُ إلى الفيلسوف الأمريكي "جون ديوي" كنقطة ارتكاز لموضوعنا، أستعير منه فكرة من لبِّ فلسفته، لأؤدي على لسانه تفسيراً لماهية الفكر البشري. فهو يرى أن الفكر في الأساس أداة لخدمة الحياة، وقد ألحَّ في ذلك، والناس يُزاولون التفكير مجبرين، أي أن تفكيرهم هو طريقة مبتكرة يواجهون بها صعوبات حياتهم ومعاشهم. أما مقياس صحة هذا التفكير فيُستقى من مدى ما يُحققه من نجاح في المضمار التطبيقي. الفكرة ماركسية بامتياز يا جون ديوي. وأزيد عليها بأن المخ البشري يميل إلى الكسل والراحة أكثر من ميله إلى التفكير، لأنه يستهلك قدراً كبيراً من الطاقة في عملية التفكير، وأكثر مما يستهلكه النسيج العضلي في عمله.

من منظور غذائي، إن ما هو استثنائي فيما يخص مخنا الكبير، إنما يرجع إلى كمية الطاقة التي يستهلكها، والتي تزيد كثيراً عمَّا يستهلكه النسيج العضلي لكل وحدة وزن، ولكن على الرغم من أن البشر يمتلكون أمخاخاً تفوق كثيراً في كبرها -بالنسبة إلى وزن الجسم- كبر أمخاخ الرئيسات الأخرى، فإننا نستخدم من الطاقة الحيوية اليومية نصيباً يفوق كثيراً نظيره لدى الثدييات الأخرى من أجل إطعام أمخاخنا الشرهة. وفي الحقيقة، يصرف استقلاب المخ في وقت الراحة مقداراً ضخماً يبلغ ربع الاحتياج البشري من الطاقة، وهذا يفوق كثيراً ما تخصصه الثدييات الأخرى للمخ، والسؤال المهم أين تذهب كل هذه الطاقة؟ المخ البشري كتلة حيَّة لديها قدرة عجيبة على العمل وإنتاج الفكر، ونحن نتعلم يوماً بعد يوم آلية عمل المخ، وننبهر عندما نسير في الشارع ونقابل الناس ونتخيل أمخاخهم داخل جماجمهم.

بمعنى آخر، وكي نقترب أكثر من هدفنا في هذا المقال: هل ما زالت فكرة الاشتراكية أحد خياراتنا المستقبلية ومن أجل الجنس البشري عامّة؟ وهل هي فكرة واقعيَّة صائبة يتقبلها المواطن؟ وهل هي مفهومة للعامل والفلاح والحرفي والجامعي والمُعلم والشيخ والخوري وربة المنزل والمتسول والمتشرد في الطرقات والوزير في الحكومة؟ وهل يُدرك المواطن أن خيار نمط المجتمع الرأسمالي ليس خياراً وحيداً لمستقبله، وأن فائض القيمة ما يزال حجر الزاوية في ربح رأس المال في نمط الإنتاج الرأسمالي؟ وبالعودة إلى فريدريك أنجلز وشرحه المبسط لفائض القيمة (القيمة الزائدة) يقول:

لقد أوضحنا أن الاستحواذ على العمل غير مدفوع الأجر هو أساس نظام الإنتاج الرأسمالي، وأساس استغلال العامل، وأنه حتى لو اشترى الرأسمالي قوةَ العمل اليومية من العامل بقيمتها الكاملة باعتبارها سلعةً في السوق، فإنه سيظل يحصل على قيمة أكبر ممَّا دفع مُقابلها، وأنه في التحليل النهائي يُشكِّل فائضُ القيمة هذا مجموعاتِ القيمة التي منها تتراكم باستمرار الكتلُ الرأسمالية المتزايدة في أيدي الطبقة المالكة.

ما الموانع أو الحواجز التي تقطع الطريق للوصول إلى هذا الخيار النبيل؟ هل العلَّة في المواطن، أم العلَّة في فكرة الاشتراكية، وتجلياتها السياسية، والاقتصادية والاجتماعية؟ وهل طريق الدول الذي تسير فيه إلى غياهب الرأسمالية أنجح وأنجع من سيرها في الطريق الاشتراكي؟ وهل الزواج بين الطرفين، الاقتصاد الناجح والاشتراكية من المحرمات حتى نقول: زواج المال من الاشتراكية باطل. أي أن الاقتصاد الاشتراكي لا يُوفر المال الذي يسدّ حاجة المجتمع. مع أن هدف النظام السياسي في كل البلدان أن يُساعد المواطن على التطور والنهوض بنفسه. ولن نصل إلى مجتمع حرِّ إلا إذا اشترك كل مواطن على قدر وسعه في تقرير سياسة بلده ومصيرها. ومن حق المواطن النظر فيما يفعله الحاكم، الذي نادراً ما نجده يخرج إلى الناس دون حرس وأمن، بل نراه محاصراً من كل جانب، وكأن بينه وبين مواطنيه ثأراً متروكاً. مع العلم أن الحاكم يستمد سلطته من الجماهير الغفيرة التي يحكمها وهو ملزم بتحقيق رغباتها لا رغباته، وهو المسؤول عن معيشة رعاياه، ومن حقهم خلعه عندما يُخلّ بشروط العقد الذي أبرمه معهم.

الاشتراكية كفكرة هي احتجاجٌ مُتشرّبٌ بالإيمان في الإنسان، وبقدرته على تحرير ذاته من تلك القيود الثقيلة التي تُكبِّل حياته والانتقال إلى مجتمعٍ خالٍ من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. وأنتَ تجد اليوم في المجتمعات الإنسانية من يملك المليارات وغيره يكسب قوته اليومي بالتسول أو بأي وسيلة أخرى يقوم بها على حساب كرامته الشخصية أو على حساب جسده. يُريد الناس حقيقةً العيش في مجتمع يُوفِّر لهم قدراً وافراً من الحرية والكرامة، يوفِّر لجميع الكادحين بسواعدهم وأدمغتهم قدراً من الأمان الاقتصادي. وسواء اعترف هذا المجتمع بهؤلاء الكادحين أو لم يعترف، فهم هُناك، في الحقل، في المصنع، في البازار، في الجامعة، يكدحون وتتصبب جباههم عرقاً.

فهل تُحقق الاشتراكية للمواطن تطلعاته وآماله؟ لن أقول: بكل تأكيد، نعم ستُحقق الاشتراكية للمواطن كل ما يصبو إليه. ولكن دعنا نذهب أبعد من ذلك ونصل إلى لبِّ المسألة. الشارع السياسي في العموم يظنُّ أنَّ خيار الاشتراكية كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي "بطّل زيَّه" فشل في مواكبة عصره، كوبا مثلاً، أي صار عتيقاً، مهلهلاً، لا يُناسب عصر العولمة الحديثة. ويقول لكَ: يا رجل أما زلتَ تُفكِّر في الاشتراكية وتحقيق العدالة وقد سقطت التجربة في بلادها: الاتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية التي انقسمت على نفسها وصارت مزقاً؟

لن أُجيب بأن التجربة الاشتراكية صامدة، نعم، أعترف بأن الاشتراكية فيها "أخطاء قاتلة". وقد قرأتُ ما كتبه المفكر وعالم الاقتصاد النمساوي فريدريش فون هايك، في ثلاثية مشهورة (الطريق إلى العبودية)، (الغرور القاتل-أخطاء الاشتراكية)، (دستور الحرية)، وقد أصابني في مقتل وبلبل أفكاري وطرحني أرضاً من خلال جدله المُقنع. وقرأت أيضاً كتاب الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان (الرأسمالية والحرية) وهو كتاب جاد في نقد التجربة الاشتراكية والاقتصاد المخطط أو المركزي، وتفضيله نمط الإنتاج الحر أي الليبرالي الرأسمالي ودولة الحرية الفردية وخياراتها. سأذهب مع ميلتون فريدمان إلى نهاية الشوط، فهو يسأل:

كيف يمكننا الحيلولة دون أن تتحول الحكومة التي شكَّلناها إلى وحشٍ كاسر يدمر الحرية التي جئنا بالحكومة لحمايتها؟ فالحرية نبات نادر رَخْصٌ وضعيف. ويُخبرنا العقل، والتاريخ يؤكد ذلك، أن التهديد الأكبر للحرية يكمن في تركيز السلطة، فالحكومة ضرورية لصيانة حريتنا، وهي أداة يمكننا خلالها ممارسة حريتنا، إلا أن تركيز السلطة في الدول الاشتراكية يشكل تهديداً للحرية أيضاً.

يا سيد فريدمان! هل تركيز السلطة من خصائص تخطيط الاقتصاد الاشتراكي وتمركزه أم من خصائص الأنظمة الاستبدادية بشكل عام، وبغض الطرف عن نمط اقتصادها؟ وطبائع الاستبداد مرهونة بقدرة الديمقراطية على العمل. فعندما تتعطل آلية الديمقراطية في المجتمع يظهر الاستبداد في السلطة السياسية وتحدث الكوارث الاجتماعية. وقد توصل إلى هذه النتيجة المفكر الماركسي الفرنسي ريجيس دوبريه. وكلنا يعلم أن السياسة هي التعبير المكثف عن الاقتصاد، وبما أنك ترى أن الاقتصاد السياسي في الاشتراكية يدفع باتجاه الإفراط في المركزية، التي تقتل بدورها حرية الأفراد. فهل علاج ذلك في تمركز الاقتصاد في شركات عابرة للقارات، الربح هو أساس بنية رأسمالها؟ وكم من ملايين العمال ستُجردهم هذه الشركات من حريتهم الفردية وتستعبدهم من خلال شراء (قوة العمل) منهم؟

أنا سأذهب، يا سيد فريدمان، إلى قول أرنستوا تشي جيفارا، وأرى أنه ما يزال صائباً: "ما يهمّني هو أن يبقى الثوار منتصبين يملؤون الدُّنيا ضجيجاً، كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد البؤساء والفقراء والمساكين والمظلومين" من سيُحقق لهؤلاء العدالة يا سيد فريدمان؟ الاشتراكية، نعم، أحسنت. ولكنكم جربتم أنماطاً من الاشتراكية في الدول الفقيرة. فماذا كانت النتيجة؟ لقد ولدت الاشتراكية ميتة. هل تريد أن تُنعشها من جديد؟

والله، يا سيد فريدمان، أنا أحمل إجازة في العلوم الطبية قسم تخدير وإنعاش. والعلوم الطبية اليوم عندها القدرة على إنعاش من كان في عداد الأموات قبل قليل. بمعنى يدخل غرفة العمليات من كان ميتاً ويخرج منها حيِّاً. كيف ذلك؟ هذا يحتاج إلى مقال آخر. وأنا كنتُ أنتظر منك أن تُحرجني في مثال يفقأ العين -نعم، فنحن نرى القشة في عين جارنا ولا نرى الخشبة في عيننا- الموازنة بين الكوريتين وأيهما أنجح، هل الاقتصاد القائم على النمط الرأسمالي في الجنوب، أم الاقتصاد القائم على النمط الاشتراكي في الشمال؟

أنا ما عندي شيء أقترحه لبداية البدايات يا سيد فريدمان، ولكن الاستفادة من التجربة التاريخية هي السبيل إلى صيانة هذا الحلم الجميل: مستقبل أفضل للبشر المتعبين على كوكب الأرض تصنعه الاشتراكية. ولدي قناعاتي بأن الاشتراكية ما تزال تحمل الكثير من الفضائل. ولكن في النهاية أعتقد أن من يُقرر ذلك هو المواطن العادي في الشارع وأنا سأحترم خياراته مهما كانت.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب