news-details

وقفة تأّمّل وتساؤل مع قصص محمود أبو رجب في مجموعته الأخيرة "خمسة في غرفة واحدة"

يظلّ محمود أبو رجب يتميّز بأنّه الصّحفي الحادّ النّظر، والعَميق في الفكر، والجريء في  القَوْل، والواضح في الكلام، لكنّه في ساعات التوحّد مع نفسه بعد عودته إلى البيت يسوح ببَصيرته في الكون الواسع، يُتابعُ الناس ويترصّدُ حركاتهم، ويلتقط كلامَهم، ويعيش همومَهم، فيرغب في تسجيل كلّ ذلك في قصّة يتعشّق كتابتها، فتأتيه، أحيانا، مطواعة راضية مستسلمة تأتمر بأمره، وتخرج من بين يديه، وقد سبك حروفَها، قصّة متكاملة

 

 

عندما تناولتُ قصصَ المجموعة القصصيّة الأولى "ضحيّة الساعة السابعة" للكاتب محمود أبو رجب التي صدرت عام  1994 قلتُ: إنّها "تركّزت في الجانب الإنسانيّ للشخصيّة، وتعمّقت في كَشْف خبايا النّفس والالحاح على الجانب الذّاتي".(ظلال الكلمات. نبيه القاسم 2010 ص100). ونراه في قصص مجموعته الأخيرة "خمسة في غرفة واحدة. دار راية للنشر 2019" لا يزال متمسكا بموقفه البَعيد عن الضّجيج والشّعارات، مُؤثرا التّغلغلَ في الذّات الإنسانيّة لشخصيات قصصه وكشف مكنوناتها.

فالزوج في قصّة "أنا وأندريه" يُؤْثر البقاء في البيت والقراءة على حضور حفلات الأعراس ممّا يجعل زوجتُه تذهب وحدها، لكنّه في هذه الليلة اختلف الأمر، فقد كان يقرا رسالة أندريه غورتس لزوجته دورين بعد أنْ أصيبَت بمرض عضال "أنتِ بعد قليل ستبلغين الثانية والثمانين، لقد تقلّصتِ بستّة سنتمترات. وزنك بصعوبة يصل إلى خمسة وأربعين كيلوغرام، لكنّك جميلة، كلّك عطف وحنان، ومحبوبة أكثر من أيّ وقت مضى. حظيتُ بالعيش إلى جانبك ثمانية وخمسين عاما، ومحبّتي لك الآن أكبرُ من أي ّ وقت. لا شيء يملأ فراغَ صدري غيرُ دفء جسدك الضعيف الذي يتكئ على جسدي. إنّني أسمع الآن بمخيّلتي صوت كاثلين فراري تصدح بأغنية "العالم فارغ، لا أريد أن أعيشَ بدونك"  أصغي لأنفاسك، وأتحسّس جسدَك برقّة وعطف. لطالما قلنا لبعضنا: لو هُيّئ لنا، بطريقة عجيبة، أنْ نحيا مرّة ثانية من جديد، لاخترنا العيشَ معا".(ص12/13) 

كلمات غورتس أثارت مشاعره العاطفيّة والإنسانيّة تجاه زوجته، وشعر بالألم الذي سبّبه لها بتركها تذهبُ وحيدةً للحفلة. فقرّر مرافقتَها، وبرّر لها تغييرَ قراره بأنّه "لم يحبّ أنْ يسلّمها للشارع وللمجهول. وأنّه يرجو أنْ يبقيا معا ولا يفرّق الموت بينهما".(ص13). 

ومثله أبو طارق في قصة "بوط الأديداس" لا يعرف ما الذي جذبه إلى راعي الماعز، الصبيّ نعيم ابن الرابعة عشرة، ويلبّي له طلبَه بشراء بوط أديداس، أهي لهجته ونبرة صوته، أم جرأته وثقته بنفسه، أم شفقته عليه بسبب تغرّبه وصغر سنّه، وبُعده عن أهله.(ص14). 

وصفوان في قصة "بانتظار عودتها" يجلس وحيدا، يُحدّق في اللاشيء، في داخله تعتمل عوالمُ متضاربة من الحيرة والحزن والقلق مع الأمل والرّجاء والتّفاؤل، ويسأل نفسه: كيف حدث ذلك ولماذا، ويلوم نفسه لأنّه وافق على سفر خطيبته وبُعدها عنه(ص36).

يطرح الكاتب في بعض القصص قضايا تُقلق الناس مثل الاغتصاب والقَتل قصة "سلسلة من الجرائم" والعلاقات الإنسانية بين الناس، وبين اليهودي والعربي "خمسة في غرفة واحدة"، ومحاولة أصحاب الفكر الديني السيطرة على مصائر الناس وسلوكيّاتهم، وغيرها.

محمود أبو رجب لا يهتم بالتّعريفات المختلَف عليها للقصّة القصيرة، فالمهمّ عنده أن يُعبّر عمّا يُراوده من أفكار، ويطرح موقفَه من كثير من القضايا التي تُشغلُ الناس، فنراه في بعض نصوصه لا يكتب قصّة وإنّما نصّ سَردي مثل "الصوت الغريب" و "الحبيبة والسكّين" و "فتحة في السماء". وفي "سلسلة من الجرائم" قدّم لنا ما كان يمكن أن تكون قصّة جميلة متكاملة، لكنه فجأة يترك ناحية السرد والوصف عندما يُخبره صهيب أنه فوجئ بموت الفتاة (ص18).  ويتّخذ دور الواعظ الناصح المحذّر لصهيب وصديقه من مغبّة ما قاما به من السكوت على الجريمة التي شهدا وقوعها ولم يقوما بمَنعها وتسليم المجرم للقانون. هكذا بتر القصة، ولم يعمل على اتمامها بخطّها السّليم وتطوير أحداثها وتَرْك الشخصيّات تفعل الذي تريد بحريّة.

تميّزت بدايات قصص المجموعة بالهدوء النفسي الذي تعيشه الشخصيات المختلفة، لكننا نفاجأ بالنهايات غير المتوقعة، فأندريه الذي قرّر مرافقة زوجته للحَفل حتى لا تكون وحدها في مواجهة الشارع غير الآمن والمجهول الذي قد يكون متربّصا بها، يجد نفسَه مضطرا لترك زوجته عند وصولهما للحفل حيث يُفرَض الفَصل بين النساء والرّجال.(ص13). وأبو طارق الذي جاء فرحا منتشيا  يحمل البوط لنعيم، يُصدَم عندما يخبرونه بأن التراكتور قَلَب بنعيم ونُقل إلى المستشفى.(ص16) وصاحب المزرعة المتسامح الكريم الذي استضاف الجميع في مزرعته، انتهى به الأمر في السجن بتهمة مخالفة النظام العالمي الجديد.(ص24). ومفاجأة القارئ بالحبيبة التي حَمَل عاشقُها سكينا في تَوجّهه إليها، ممّا خلق جوّ الخوف والقلق والتّردّد والتّساؤل، حتى كانت المفاجأة عندما يكتشف أنّ الحبيبة المقصودة هي نبتة العوينة أو السمميخة كما نسميها في بلدتنا الرامة.(ص44) 

البارز في معظم قصص المجموعة أنّ الشخصيّات هي الأساس والمحور، والأحداث تأتي تابعة لها. ففي قصّة "ماذا لو ضاعت الصفحة الخامسة؟!" نجد حيويّة الشخصية وحركاتها وانفعالاتها واضطرابها القلق، وإلحاحها على إيجاد الصفحة الخامسة من الجريدة طغى على مُجمل القصة وجرّ الأحداث لتنساق وراء إلحاح الشخصيّة. وهذا صحيح أيضا في قصة "لماذا لم تعد العصافير تُغرّد" حيث تتمحور كل الأحداث حول الشخصية وما تقوم به. وفي قصة "صورة باقية" يتنقّل حسين فطوم، البائع المتجوّل في قرى المنطقة، يدور بين البيوت في الطرق والأزقّة الترابية وهو ينادي على بضاعته، ويخرج الناس، وخاصّة النساء، من هدوئهم واستراحاتهم "خرز يا ..عا..يزة ،  جوزة الطّيب يا.. عا..يزة، فلفل اسمر يا.. عا..يزة" مع كلّ ما تحملة كلماته، ومَطّ الحروف وتقطيعها وتنغيمها والتركيز على كلمة "يا عايزة" بمَطّها وتَقطيعها وتنغيمها من أثر إيحائي ودلالات بعيدة ومتنوعة. 

ويشدّ الكاتب إليه، بخيوط رفيعة جدّا، معظمَ الشخصيّات، بتنوّعها واختلافها، يُحمّلها أفكاره، ويُلزمها بمواقفه من مختلف القضايا الحياتيّة. ويبرز ذلك بشكل واضح في قصص "خمسة في غرفة واحدة" و "سلسلة من الجرائم" و "رجل من بلدنا".

لكنّ الأجمل في قصص مجموعة "خمسة في غرفة واحدة" قصّتا "لقاء" التي افتتح بها المجموعة وقصّة "فراق" التي اختتمها بها. فهاتان القصّتان القصيرتان جدا تتميّزان بالعَفَويّة وبَساطة الطّرح واللغة، تنضبطان في حدود ما اتّفق عليه بقصّة قصيرة جدا. التّمركز في الفكرة  بكلمات قليلة والتّحليق بالقارئ، وقد نجح الكاتب في استخدام التكرار لتأكيد الفكرة ورسم المشهد. ففي قصة "لقاء" جعل العنوان نقطة الارتكاز "التقيا صدفة، وصارا يلتقيان دائما، التقيا كثيرا بلهفة وحبّ إلى أن انقطع اللقاء. كان اللقاء الأول هو أجمل لقاء، لكن الأجمل منه كان لقاء الحلم، أمّا أجملها جميعا فهو اللقاء الموعود." فقد نجح بالكلمات القليلة الغنيّة بدلالاتها وحساسيّتها أن يُعيّشنا قصة حبّ من التقاء نظرات المحبّين الأوّل متنقلا بنا في مراحل قصة العشق من لقاء إلى لقاء حتى بدأ الحب يفتر والعواطف تخمد واللقاءات تقل وتتباعد.

وكما يكون الحبّ والفرح والسّعادة مع اللهفة والعواطف المتفجرة في لقاء المحبّين، هكذا في قصة"فراق" نقلنا إلى الحالة النّقيضة. حيث يُثير الفراق العواطفَ ويؤجّجها، فتتفجّر الدموعُ حارقة إلى حدّ الموت إذا كان الفراق قسريا ومفاجئا ومرفوضا من الطرفين أو أحدهما.

الكاتب جعل كلمة "اللقاء" موتيفا مُتكرّرا ولازمة إيقاعيّة تُسبغ على المشهد حالة من الفرح والسّعادة،  ومن تكرار كلمة "تَبكيه" في قصة "الفراق" إيقاعا حزينا يشيع الحزن والألمَ والقَلق والخوف مع فقدان الأمل باللقاء، والتّيقّن من حياة الوحدة ومشاعر الضياع والتّيه غير الواضحة المعالم. وفي قصة "فراق" جعل من البكاء الذي يسببه الفراق المحور الذي تدور حوله القصة بأحداثها وشخصيّاتها وحتى قارئها.

لغة محمود أبو رجب لغة سَردية بسيطة، قريبة من لغة الصحفي الذي اعتاد على تقديم التّقارير أو طَرْح المواقف، لا يهتمّ بتطوير مستوى لغته واستغلال كنوز مفرداتها بدلالاتها ومَعانيها وإمكانيّاتها، ويكتفي بأن تكون اللغة وسيلتَه لإيصال أفكاره للقارئ، وطرح مواقفه كما ظهر واضحا في قصة "خمسة في غرفة واحدة".

في النّهاية

يظلّ محمود أبو رجب يتميّز بأنّه الصّحفي الحادّ النّظر، والعَميق في الفكر، والجريء في  القَوْل، والواضح في الكلام، لكنّه في ساعات التوحّد مع نفسه بعد عودته إلى البيت يسوح ببَصيرته في الكون الواسع، يُتابعُ الناس ويترصّدُ حركاتهم، ويلتقط كلامَهم، ويعيش همومَهم، فيرغب في تسجيل كلّ ذلك في قصّة يتعشّق كتابتها، فتأتيه، أحيانا، مطواعة راضية مستسلمة تأتمر بأمره، وتخرج من بين يديه، وقد سبك حروفَها، قصّة متكاملة يرتاح إليها القارئ ويسعد بها. وأحيانا تَعصاه وتتهرّب منه وتُجافيه فيأسرها بجَبَروته، ويُلبسُها ما يريد ويعتقد أنّه الأفضل، ثمّ يلقي بها للقارئ الذي يتردّد في تقبّلها، ويشكّ في نسبَها، ويرفض تَسميتَها، فيهزّ رأسَه ويهمس لنفسه: لتكنْ قصّة، كما يريدُها صاحبُها، ويروح في وقفة تأمّل وتساؤل وصمت طويل.  

 

في الصورة: ..المفاجأة أنّ الحبيبة المقصودة هي نبتة العوينة أو السمميخة

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب