غيّب الموت، اليوم الأربعاء، الفنان الفلسطيني والعالمي الكبير، محمد بكري ابن قرية البعنة عن عمر ناهز الـ72 عامًا. ويُشار إلى أن الفنان الراحل توفي إثر مضاعفات أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم، بعدما كان قد أُدخل إلى المستشفى قبل ثلاثة أيام، حيث مكث في قسم العناية المركزة إلى أن فارق الحياة بعد ظهر اليوم. وعلى مدى سنوات طوال، وما يقارب 20 عاما، تعرّض بكري لملاحقة سياسية عنصرية حاقدة قمعية، على خلفية فيلمه جنين جنين، تلاقت فيها عصابات المتطرفين، مع جهات عنصرية، ومعها المؤسسة الحاكمة، وبمؤازر جهاز القضاء، وتم حظر الفيلم وفرض غرامات باهظة جدا عليه، لكنه لم ينكسر وبقي واقفا شامخا يتحدى حتى رحيله المفجع. وُلد محمد بكري عام 1953 في قرية البعنة في الجليل. درس المسرح في جامعة تل أبيب، وبدأ مسيرته الفنية على خشبة المسرح قبل أن ينتقل إلى السينما والتلفزيون، حيث سرعان ما أصبح اسمًا مركزيًا في المشهد الفني الفلسطيني داخل إسرائيل، ثم على المستوى العربي والعالمي. قدّم بكري عشرات الأدوار في المسرح والسينما، وتميّز بأداء عميق لشخصيات إنسانية مركّبة، فلسطينية وعالمية. شارك في أعمال سينمائية عربية ودولية، ونجح في اختراق الساحة العالمية ممثلًا لقضية شعبه وللموقف الانساني والتقدمي عبر الفن. وكان محمد بكري حاضرًا أيضًا في نشاطات ونضالات الحزب الشيوعي والجبهة، مشاركًا بصوته ومكانته الفنية في مجمل العمل الكفاحي والثقافي للجماهير العربية، ومؤكدًا التزامه الدائم بقضايا العدالة الاجتماعية، وحقوق الفلسطينيين، والدفاع عن حرية التعبير والفن الملتزم. وشكّل تجسيد محمد بكري لشخصية سعيد أبي النحس المتشائل في المسرحية المقتبسة عن رواية الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل للأديب الكبير إميل حبيبي محطةً مفصلية في مسيرته الفنية. فقد قدّم بكري عرضًا مسرحيًا فرديًا (مونودراما) لافتًا، مزج فيه السخرية السوداء بالمرارة السياسية، وجسّد بمهارة التناقض الوجودي للفلسطيني داخل إسرائيل. حظي العرض بإشادة نقدية واسعة وجال على مسارح محلية وعالمية، ورسّخ مكانة بكري كفنان قادر على تحويل الأدب السياسي إلى فعل مسرحي حيّ، يضحك الجمهور ويصدمه في آن، ويعيد طرح أسئلة الهوية والذاكرة والنجاة تحت القهر. من أبرز محطاته إخراجه الفيلم الوثائقي الشهير "جنين جنين" (2002)، الذي وثّق شهادات من مخيم جنين بعد الاجتياح الإسرائيلي. أثار الفيلم جدلًا واسعًا وتعرّض بسببه لحملات تحريض وملاحقات قضائية داخل إسرائيل، جعلت من بكري رمزًا للتحدي ودور الفن في إيصال الحقيقة وصوت المظلومين والمهمشين والضحايا ولحرية التعبير في وجه آلة القمع الفاشية. شارك بكري في أكثر من 43 عملًا بين تمثيل وإخراج وتأليف وإنتاج، من بينها: "من وراء القضبان"، "حيفا"، "حنا ك"، و"تحت أقدام النساء". تنقّل بين مسارح هابيما، حيفا، والقصبة في رام الله، وبقي وفيًا لقناعته بأن الفن يحرّر الإنسان. لم يكن محمد بكري فنانًا تقليديًا؛ فقد ارتبط اسمه دائمًا بالموقف الأخلاقي والسياسي، ودافع عن حق الفلسطيني في السرد والرواية والذاكرة. دفع ثمن مواقفه من حياته المهنية، إذ تعرّض للتهميش والمنع من المشاركة في أعمال رسمية، لكنه واصل نشاطه الثقافي بإصرار.