news-details

ما أحلى الرجوع اليكم

*(كلمة أمير مخول – في مهرجان التحرر من سنوات السجن - الخامس من أيار 2019)*

ها قد عُدنا.. تحيّة لكم أشواقي لكم.. شكري وامتناني لكم.. ما أحلى الرجوع اليكم..

اليوم اكتشفت بُعدا جديدا للحريّة.. وهو اكبر من مجرد الخروج من بوابة السجن بعد تسع سنوات.. الحريّة هي أنتم، أنتم الناس الطيّبة أهل هذه البلاد وهذا الوطن.. والمكان بأهله هو الحريّة التي يتمناها كل أسير وكل أسيرة. الحرية بأهلها ولا حرية من دون أهلها.. الحرية كما الوطن بأهله وفقط باهله، سواء من بقوا فيه او من اقتُلعوا وراء الحدود وفي اللجوء القريب البعيد وسوف يعودوا..

عناق الحريّة كان في عناقكم،عناق أسرتي الحبيبة جنان وهند وهدى، وعائلتي الحبيبة أخوتي وأخواتي وأنتم جميعا أخوة وأخوات عائلة محبّة واحدة.

اليوم وقبل أن أعانقكم في الصباح عانقت عناقا آخر , عناق من ودعتهم في الأسر ويهدونكم التحية، عناقا وتصفيقا ودموعا وفرحا امتزجت كلها معا.. الأسرى فرحوا بي وصفقوا لي, وانا امتلأت حسرة ومسحة حزن ثقيلة ورسالة أحملها معي اليكم.

قلبي معهم، مع الأسرى والأسيرات، مع القدامى الذين يشارفون على العقد الرابع في السجن.وأخص هنا الاسرى القدامى وذوي الاحكام العالية والمؤبدات وبالذات أسرى أل 48 الذين تجاوزتهم كل الحلول والصفقات  والافراجات, انهم استحقاق على شعبنا وقياداته. ولا أقول تقصيرا من أحد, لكنهم ذهبوا ضحية توازنات القوى وثمن هويتهم المدنية التي تتعامل معها اسرائيل بكونها مدعاة عقاب وانتقام.

 

عناق الذكريات والحنين

قبل ان احضر هنا كان لي عناق اخر عناق مع الذكريات ومع حنينيالى أب وأم افتقدتهما حنا وانشراح مخول. كنت محظوظا بالنسبة للأسرى بأن تسنى لي ان اشارك في وداع مبتور لكل منهما في دقائق معدودة مكبل اليدين والرجلين والزمن ومكبل العاطفة والدمعة. كم انا مشتاق لهما، وكم هو المكان مختلف دونهما. لكن في الذكريات الجميلة والحنين بعض التعويض والأنس هو فيكم والمواساة هي فيكم.

وكم من أسير وأسيرة فقدوا أحبتهم ووجدوا القهر يكبَلهم ويُطبق أصفاده على نفوسهم.

 

صخب المشاعر

أحمل معي مشاعري وتجربة  حياة الأسر القاسيّة وصخب التناقضات. شوقي وفرحي لأنّني ألتقي أغلى الناس اليوم..  ألتقيكم،وألمي وحزني لأنّني افتقدت من أغلى الناس من أهل وأقارب واصدقاء وأحبّة. افتقدت العديد من الناس الغالية على قلبي خلال هذه المرحلة, من أناس سرنا مسافات طويلةمن الصداقة والمعزة والنضال, من اصدقاء وأصوات فنية ومن مناضلين ومناضلات, سأذكر الان اربعة منهم لكن القائمة طويلة, وواجبي ان اكرمهم جميعا من خلال عائلاتهم. أذكر الاخ والصديق الوفي عبد الحكيم مفيد,واذكر الصوت الباقي فينا وصاحبته التي فارقتنا ريم البنا التي أبكت الاسرى حينما غابت, ووجيه سمعان رئيس لجنة ابناء سحماتا ومن مؤسسي لجنة المهجرين, وأذكر روضة بشارة الشريكة في اتحاد الجمعيات وجمعية الثقافة العربية. وحين يأتي خبر الفقدان الى الاسير في السجن يكون وقعه قاهرا وقاسيا ومضاعفا.

في المقابل, واذ ذكر  دكتور حاتم كناعنة في كلمته الشيخ صياح الطوري, ففي تلك الليلة التي اعتقلت فيها كنت عائدا من عند الشيخ صياح في العراقيب.  حملت معي هموم العراقيب كي انقلها الى العالم لكنها ذهبت معي الى السجن. والان ابعث له بالتحية مع تمنيات الفرج القريب واطلاق سراحه. حريته هي حريتنا ومسؤوليتنا جميعا. والعراقيب وما ترمز اليه, هي من حريتنا ومسؤوليتنا جميعا.

في الإفراج فرحٌ عظيم تجاه من ألتقيهم.. تجاهكم.. وفيه مسحة ألمٍ وحزن تجاه من غادرتهم من الأسرى الستة آلاف. هؤلاء الذين احتفوا بي بالتصفيق وأنا أغادر ساحة السجن بعد وداعهم، فرحوا بي، وأنا امتلأت حسرةً وألمًا لأنهم باقون هناك.

 

السجن هو زمنٌ قاسٍ قاهر، السجن فراغٌ رهيب فإمّا يملؤك الفراغ بالفراغ ويفرغك من كل شيء وإماّ يملأ الأسير حياته الاعتقالية بالمعنى ويحفظ حريّته التي فيه. السجن انقطاع عن المكان والزمان، فإما يستسلم له الأسرى أو يقطَعوا انقطاعهم ويتواصلوا مع اراداتهم.ونحن بحاجة الى أنسنة موضوع الاسرى وليس الى أسطرته او الى جعله أسطورة.. وحلم الاسير كما الاسيرة ليس الصبر وانما الفرج والحرية انه حلم الاسير وحلم الاسرة وحلم الشعب.

تحيات الاسرى

أحمل اليكم تحياتي وتحيات الأسرى الفلسطينيين والعرب جميعًا.. تحيات حقيقيّة الى هذا الرافد الزاخر بالطاقة ضمن شعبنا، أي الى الجماهير العربيّة في الداخل في الجليل والنقب والساحل والمثلث. هذا القطاع من شعبنا الذي يشكل منبع أمل ومساندة وطاقة لا تنضب.. هذه الجماهير المستجيبة لكل نداء- نداء الأسرى ونداء اللاجئين ونداء غزّة والقدس والضفّة وكل نداءات الداخل.

هذا الجمهور الكبير المنظم الذي تجاوز التجزئة والانقسامات ونظر باتجاه الجوهر دائما. واثبتت الأيام والتجارب أن طريق الجماهير العربية الكفاحي الطويل والمثابر هو الأجدى والأجدر, والذي حقق أكبر الانجازات في البقاء والصمود والتجذر في الوطن والتطور والتقدّم. لنحظى اليوم  بخير خلف لخير سلف.. جيل شاب واعٍ وناشط وعصري أنقل له التحيّة، والتحيّة الكبرى لجيل المؤسسين.

أحمل تحيّات الأسرى الى كل الأحزاب والحركات والحراكات والمؤسسات الأهليّة والجماهيريّة والحقوقية والى كل القيادات المنضويّة في الإطار التمثيلي المرجعي الكياني الجامع لكل الطيّف السياسي والجماهيري، وأقصد لجنة المتابعة العليا وأحيي دورها وأحيي رئيسها المتواجد معنا ألاخ محمد بركة.

الاسرى يرون في هذا الجزء من شعبنا في هذا التماسك نموذجا يحتذى به، واليوم هم اكثر وعيا لهذا الجمهور وقضاياه كمركب من الحالة الفلسطينية ومن مجمل القضية الفسطينية. انه ادراك مهم وتجاوز لسياسة وضع جدران واسوار بين شعبنا.  وللانقسام الفلسطيني الكبير والاليم الذي اصبح ارضية خصبة لتمرير المشاريع التصفوية على اختلاف تسمياتها.

 

تحديات

نواجه اليوم محاولة سياسية متكاملة, وحملة قد تكون الأخطر على الحق الفلسطيني وأقصد المخططات الأمريكية الاسرائيلية قيد التنفيذ الساعية لتجريم مجمل نضال التحرر الوطني الفلسطيني ودمغه بالإرهاب وذلك من خلال ملف الاسرى. وفي هذا السياق يحيي الأسرى ويساندون قرار الرئيس محمود عبّاس الرافض للإملاءات والعقوبات المالية الاجرامية  ونهب مخصصات عائلات الاسرى والشهداء, وللمساعي لتجريم الضحيّة وتبييض جرائم الاحتلال والاستيطان.هذا موقف مهم يجب التأكيد عليه ومساندته. فالقضية الجوهرية المستهدفة هنا هي جوهر الحق الفلسطيني وحق الشعب في احقاقه.

نضال التحرر الوطني ليس ارهابا, لكن الاحتلال ليس الا ارهابا, ونقل السفارة الامريكية للقدس إرهاب والاعتراف الامريكي بضم الجولان ارهاب هذا هو ارهاب الدولة العظمى وحليفتها دولة الاحتلال.

وأحذّر هنا من نهج خطير وتحدٍ مصيري آخر، ينعكس في مساعي أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية في السجون وخارجها الى افساد روح الأسرى وقيم الحركة الاسيرة وأخلاقياتها.. وفي المقابل تعمل هذه الاجهزة على تشتيت الحركة الاسيرة وفرض وتطبيق سياسة المعازل عليها. من خلال توزيع الاسرى على اقسام والتعامل معهم بتغذية انتماءاتهم البلدية والجهوية والهويات القاتلة  ومنع تكامل الهوية الفلسطينية. ويتعاملون مع هذا على انه ابن نابلس وهذا ابن جنين او طولكرم او الخليل  او غزة او الداخل وكأننا أشلاء شعب. لكننا حقا شعب.. وبالنسبة لنا،هذا ابن فلسطين وهذه ابنة فلسطين وهذا ابن فلسطين وتلك ابنة فلسطين..

وما تسعى له هذه المخططات هو أن تخسر  قضية الأسرى المصداقية فلسطينيا وان تخسر القضية الفلسطينية شرعيتها عالميّا وهذا ما يستدعي مواجهته على ساحتنا المحلية وعلى ساحتنا العربية وعلى ساحتنا العالمية.

 

عن التضامن والتكافل

وفي العالم، في كافة انحائه، لنا حلفاء وشركاء اشيد بهم وأحيي دورهم الكبير، إنهم قوى التضامن وحركاتها. وأخصّ اولئك المتضامنات والمتضامنين الذين واظبوا في الكتابة لي ومساندتي في السجن حتى الايامالاخيرة, وفي تنظيم الحملات لمناصرة الأسرى وتواصلوا مع عائلتي وساندوها.. الذينأطلقوا مفهوم السجناء السياسيين الفلسطينيين.هؤلاء شركاؤنا في الحريّة يستحقون كل تقدير، وهذا يحثّنا على أن نكسب التضامن ونوسّع نطاقه ويحثّنا ايضا على أن نتضامن نحن مع الاخرين مع شعوب العالم وضحايا الظلم اينما كانوا.

واذ تحظى المساندة والتضامن وتقاسم الهمّ في السجن بقيمة عليا، فإنني أؤكد امتناني وتقديري لكل الذين تواصلوا من قيادات سياسيّة وأعضاء كنيست حاليين وسابقين أكثروا من زياراتهم ومتابعاتهم, ومحامين ومحاميات مخلصين أوفياء جديرين, ومن أطباء اختصاصين استغلوا فسحة الإمكانية ليحضروا الى السجن, ومن رجال دين سعوا للزيارة كما تتيح الإجراءات لكن منعتهم الاجراءات باسم الأمن.

أذكر بامتنان وتقدير وثناء تلك الناس الطيّبة وما أكثرهم ممن وقفوا الى جانب أسرتي ومن تواصلوا معي بالمراسلات والاهتمام وسوف أجد الطريقة الأنسب لتقديم الشكر والامتنان لهم.

وما أحوجنا الى تعزيز التكافل الاجتماعي الذيهو كنز لنا, ومن السجن نرى به كنزا عظيما وبالذّات في مواجهة سطوة الجريمة ومنظومتها، والتي تقتل المرأة العربية التي اصبحت ضحيتها الاولى وتقتل الرجل العربي وتقتل كل ما هو جيد وخير في مجتمعنا، والتي تصيبنا جميعًا حين تصيب كل ضحيّة.

وباعتقادي ان شعبنا وجماهير شبعنا قادرة وأقوى من كل جريمة وهذا مشروع حياة

 حلم الأسير او الأسيرة هو الحرية وليس الصبر


السجن هو زمنٌ قاسٍ قاهر، السجن فراغٌ رهيب فإمّا يملؤك الفراغ بالفراغ ويفرغك من كل شيء وإماّ يملأ الأسير حياته الاعتقالية بالمعنى ويحفظ حريّته التي فيه.

السجن انقطاع عن المكان والزمان، فإما يستسلم له الأسرى أو يقطَعوا انقطاعهم ويتواصلوا مع اراداتهم.ونحن بحاجة الى أنسنة موضوع الاسرى وليس الى أسطرته او الى جعله أسطوره.. وحلم الاسير كما الاسيرة ليس الصبر وانما الفرج والحرية انه حلم الاسير وحلم الاسرة وحلم الشعب.

"لا السجن باقٍ ولا السجّان"، والسجن مؤقتٌ مهما طال.. والسجن ظلمٌ طويلٌ مهما كان زمنه قصيرًا. والاسير بحاجة لكل مساندة ودعم.. السجن في جوهره فراغ.... والتضامن والتكافل جزء من هذا المعنى... والتمساك العائلي في الزيارات هو جزء من هذا المعنى

 

بين اللغة العربية ولغة الواقع الفلسطيني

في مشتقات اللغة العربيّة يختلف مصدر الأسير عن مصدر الأسرة  لكن في مشتقات الواقع الفلسطيني يغدو الأسير والأسرة حالة واحدة. في الحالة الفلسطينية نكاد لا نجد اسرة لم تعش الأسر.

السجن هو حالة أسير وهو حالة أسرة وأهل وكل الأحبّة وسوف أعبّر عن هذا شخصيا تجاه أخوتي وأخواتي والناس الطيبة جميعا.  وسوف أقصر الشكر هنا والثناء والتقدير على زوجتي رفيقة دربي جنان وابنتينا هند وهدى, وكم أنا مدين لك يا جنان فمن تجربتي فإن الزوجة تعيش الأسر في كل لحظة تعيش زمن السجن كلّه تعيش الفراغ وتعيش الصدمة والفراق فراق مؤقت للزوج ولرفيق الدرب وفراق دائم لوالديها غداة الاعتقال, وتعيش الوحدة والقسوة والبعد والصعاب الهائلة والتساؤلات الظمأىللاجابات المؤجلة. تواجه الهموم بمفردها بعد أن غدوت من سند الى همّ. لكن لم تستلم للفراغ بل ملأته بالمعنى وبتحقيق انجازات شخصية ودراسية ومهنيّة عظيمة.

وفي مرحلة الاسر بلغت الابنتان جيل الشباب، وكلّ شقّت طريقها تبني نفسها وشخصيتها كما تشاء.. كلّ منهما كيان. هكذا بدأنا وهكذا نواصل.. كم أحب هذا الثلاثي وكم أن مدين وأعتزّ بكنّ.

 

أيها الاهل أيها الأحبة.

 شكرا لكم جميعا كلنا نحن هنا كيان في هذا المكان, وكلنا عائلة الفلسطيني الواحد اوالفلسطينية الواحدة, نحمل الأمل والألم والحلم والجرح والصعاب والسعادة كله مجبول بكله وكلنا يعيش كله... نبدأ من صباح صعب وننتهي بمساء اشرقت فيه النور, هكذا الآن وهكذا في كل آن.

في السجن كان يحتفل الاسرى جميعهم بكل الاعياد.. لكل شعبنا.. في تكافل قلَ مثيله. ويسعون الى اجتراح البسمة وبعض الهناء من قلب القهر. وفي هذا الاسبوع احتفل شعبنا بأعيادنا. الفصح المجيد وعيد النبي شعيب وفي الغد يبدأ شهر رمضان الكريم هذا من صورة شعبنا وهذا من خصال شعبنا. وكل عام وانتم بخير وكل عام ونحن للحرية اقرب.

شكرا لكم محبتي لكم, اعطي الكلمة لجنان لأنها تستحق، وكم أحبكم وكم أنا مدين لكم.

 

أخبار ذات صلة