للمرة الأولى منذ نحو عامين أقام المسيحيون في قطاع غزة قداس عيد الميلاد المجيد داخل كنائسهم بعد توقف حرب الإبادة الجماعية، التي حالت دون إحياء هذه المناسبة الدينية طوال فترة الحرب، في مشهد اختلطت فيه مشاعر الفرح بعودة الصلاة الجماعية بالحزن العميق على الشهداء الذين رحلوا خلال الحرب. وعلى غير عادة الأعياد السابقة جاء عيد الميلاد هذا العام مثقلا بالذكريات الأليمة، بالنسبة لإدوارد انطوان وهو شاب من مدينة غزة فقد والدته وشقيقته خلال حرب الإبادة. ووقف أنطوان (37 عاما) أمام بوابة كنيسة دير اللاتين في مدينة غزة يتأمل المكان، الذي احتمت فيه عائلته ذات يوم مستعيدا تفاصيل حياة انقطعت بفعل الحرب. وقال أنطوان لوكالة أنباء ((شينخوا)) وهو يتصفح صور والدته وشقيقته على هاتفه المحمول، "قتل قناص إسرائيلي والدتي وأختي، بينما كنا نحتمي داخل الكنيسة". وأضاف بنبرة يغلفها الحزن "قبل الحرب كنا نعيش العيد معا نزين شجرة الميلاد في البيت، ونذهب إلى الكنيسة للصلاة ثم نحتفل ونوزع الحلوى على الأطفال، هذا العام أشارك في القداس وحدي لكن الصلاة ما زالت تمنحني بعض القوة". وأشار أنطوان إلى أن إقامة القداس هذا العام تحمل معنى خاصا، قائلا "افتقدنا السلام في غزة لعامين كاملين الحرب دمرت الكثير، وأخذت منا أحبة لكن عودتنا إلى الكنيسة اليوم تمنحنا أملا بأن السلام قد يعود يوما". وبسبب حرب الإبادة التي اندلعت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حرم المسيحيون في غزة من إقامة قداس عيد الميلاد طوال عامي 2023 و2024، واقتصرت شعائرهم الدينية حينها على صلوات فردية داخل الكنائس أو أماكن الإيواء في ظل القصف والخطر المستمر. أما هذا العام فقد أقيم القداس للمرة الأولى منذ عامين دون مظاهر احتفالية، في خطوة رمزية عكست تمسك المسيحيين في غزة بإيمانهم رغم حجم الخسائر. وقالت نجلاء سابا وهي فلسطينية في السبعينات من العمر أثناء توجهها إلى الكنيسة لحضور القداس، "في قلوبنا فرحة بعودة الصلاة في عيد الميلاد، لكن الحزن عميق على ما حصل في غزة وعلى كل من فقدناهم خلال الحرب". وأضافت "نأمل أن تنتهي الحرب بشكل كامل وأن يعود الناس إلى بيوتهم، وتعود الحياة كما كانت وأن يعيش الجميع بأمان وسلام". وتابعت نجلاء بنبرة يملؤها الألم "العامان الماضيان كانا من أصعب ما مر علينا، صحيح أن القتال توقف وعم هدوء نسبي لكن الجرح ما زال مفتوحا في قلوبنا". من جهتها قالت فاتن السلفيتي (67 عاما) التي فقدت زوجها وابنها في قصف الاحتلال الذي استهدف كنيسة خلال الحرب، "لا يمكن أن يكون هناك احتفال حقيقي وغزة مدمرة، فقدت ابني وزوجي لكننا جزء من هذا الشعب والتضحيات طالت الجميع". وأضافت "صلاتنا اليوم أن تتوقف الحرب نهائيا وأن يكون العام المقبل، بداية جديدة لأهل غزة فهم يستحقون الحياة بسلام". أما هيلدا عياد (29 عاما) فأوضحت أن عيد الميلاد هذا العام يختلف جذريا عن الأعياد قبل الحرب، مشيرة إلى أن الكنيسة اكتفت بزينة بسيطة، بينما اقتصرت الفعاليات على القداس فقط. وقالت "قبل الحرب كانت البيوت تزين بالأضواء وكل عائلة تضع شجرة ميلاد في منزلها، ونحضر الحلويات ونوزع الحلوى على الأطفال داخل الكنيسة اليوم نكتفي بالصلاة". وأضافت "حتى بعد وقف إطلاق النار ما زلنا نسمع أحيانا أصوات انفجارات، لكننا نحاول التمسك بالحياة والأمل بأن ينتهي الموت في غزة نهائيا". ويعيش معظم المسيحيين في البلدة القديمة بمدينة غزة وهي منطقة قريبة من الخط الأصفر، الذي يمثل خط انسحاب جيش الاحتلال في المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار. وتعرضت الكنائس في غزة خلال الحرب لقصف إسرائيلي ما أسفر عن سقوط عدد من الشهداء من ابناء الطائفة المسيحية، إلى جانب نازحين مسلمين لجؤوا إلى الكنائس طلبا للأمان. ففي 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023 تعرضت كنيسة القديس بورفيريوس للقصف، ما أدى إلى انهيار مبنى داخلها كان يؤوي نازحين وأسفر عن استشهاد 18 شخصا، بحسب أرقام وزارة الصحة في غزة. كما تعرضت كنيسة العائلة المقدسة في 17 تموز/يوليو 2025، لقصف إسرائيلي أسفر عن استشهاد ثلاثة أشخاص. وقال جورج أنطون مدير العمليات في البطريركية اللاتينية في غزة ورئيس لجنة الطوارئ التابعة للكنيسة خلال الحرب لوكالة أنباء ((شينخوا))، "تقتصر احتفالات عيد الميلاد هذا العام على القداس الألهي فقط، دون أي مظاهر احتفالية كما كان الحال قبل الحرب مثل تزيين الشوارع أو إقامة مهرجانات موسيقية". وأضاف انطون أن الكنائس تعرضت خلال الحرب لاعتداءات متكررة، مؤكدا أن "ما جرى يثبت أن الحرب استهدفت الشعب الفلسطيني بكل مكوناته دون تمييز بين طائفة وأخرى". وخلال زيارته إلى قطاع غزة التي بدأت في 19 كانون الاول/ديسمبر واستمرت ثلاثة أيام قال الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا بطريرك القدس للاتين "أنا سعيد لوجودي هنا معكم وللمرة الأولى منذ زمن الحرب أشعر بنوع من الراحة للقاء الناس مجددا رغم صعوبة الأوضاع". وأضاف "سنعيد بناء مدارسنا وبيوتنا وحياتنا من جديد، المباني يمكن ترميمها، لكن قلوب الناس تحتاج إلى شفاء والمحبة وحدها قادرة على البناء".