لم يتأخر رد الإدارة الأمريكية على الهزيمة المجلجة التي منيت بها وحليفتها إسرائيل، الأسبوع الماضي في الأمم المتحدة ، فيما يتعلق بتمديد ولاية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الاونروا)، بتأييد كل دول العالم باستثناء أمريكا وإسرائيل، لتعلن بكل وقاحة وعلى لسان وزير خارجيتها و"أستاذ التشريع الدولي"، مايك بومبيو، ان الاستيطان في المناطق الفلسطينية المحتلة لا يتعارض مع القانون الدولي ضاربة عرض الحائط بقرارات الشرعية الدولية والأمم المتحدة وبشكل خاص قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 ودون أي اعتبار منها لمواقف دول وحكومات العالم قاطبة الرافض للاحتلال والاستيطان والدعم لحل الدولتين. كما ان الموقف الأمريكي يخالف فتوى محكمة العدل الدولية في لاهاي ويتناقض ايضًا مع السياسة الامريكية فيما يتعلق بالاحتلال والاستيطان على مدار عشرات السنين.
هل هذا مجرد عمى استراتيجي او انحراف أخلاقي من جانب إدارة ترامب؟ ام ان هذه استراتيجية أمريكية جديدة واذا كانت كذلك فماذا تستهدف؟
منذ وصول ترامب، أعتى قوى اليمين، الى البيت الابيض وهو يتخذ قرارات منحازة لإسرائيل بشكل صارخ ومثيرة للجدل وتتعارض كليا مع قرارات الشرعية الدولية، بدءًا بقرار اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الامريكية من تل ابيب اليها ومحاولة خنق القدس اقتصاديًا ووقف الدعم المادي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) وتشجيع الاستيطان في القدس والضفة الغربية دون أدنى اعتبار من جانب الإدارة الإمريكية لما أدت اليه هذه القرارات من نتائج مأساوية وجرائم وحتى جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني. وكل هذا يندرج في إطار المخطط العدواني لتصفية القضية الفلسطينية والمعروف إعلاميًا بـ "صفقة القرن" والتي تستهدف القضاء على الثوابت الفلسطينية التي توحِّد كل أبناء شعبنا: حل الدولتين في حدود الـ67 والقدس عاصمة الدولة الفلسطينية وحق العودة لأكثر من 6 مليون لاجئ.
إدارة ترامب تخلت كليًا عما كان يمثّل، ما بعد العدوان الاسرائيلي في العام 1967 وحتى اليوم، السياسة العالميَّة الرسميَّة، وابتعدت عن القواعد القانونية الدولية وتبنت استراتيجية كونية جديدة في صلبها المواجهة والابتزاز والهيمنة. وهذا ينطبق أيضًا على القضية الفلسطينية. وبذلك تحولت هذه الإدارة من موقف الانحياز المطلق لإسرائيل الى المواجهة المباشرة مع الشعب الفلسطيني.
وفي ظل التراجع المتواصل للهيمنة الامريكية وتوالي هزائمها وفشل مخططاتها العدوانية حول العالم تزداد السياسة الامريكية شراسة وعدوانية دون اعتبار للنتائج التي قد تكون مأساوية.
واذا كانت الإدارة الامريكية تسعى اليوم الى نقل القضية الفلسطينية إلى مربعها الأول فإنَّنا كشعب فلسطيني، له حق مشروع ومقدس ومعترف به من أكثر من 165 دولة في العالم، لنا الحق بطرح شرعية قيام إسرائيل على انقاض نكبة شعبنا والمطالبة بتصحيح الخطأ التاريخي وأنصاف شعبنا وتعويضه عما عانه من مآسٍ على مدار عشرات السنين من اللجوء والشتات والمذلة. فحق إسرائيل بالوجود مشروط بقيام دولة فلسطين.
والشعب الفلسطيني الذي قدم التضحيات أكثر من أي شعب في هذه المعمورة من اجل حريته قادر على المزيد من التضحية وقادر على مواصلة الكفاح لتحقيق ما يصبو اليه وهذا يتطلب التسليم أولًا بحقيقة أنَّ الإدارة الأمريكية شريكة في العدوان على الشعب الفلسطيني وثانيًا أنَّ الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي يحرمان شعبنا من حقه في تقرير مصيريه في دولة ذات سيادة وثالثًا شعبنا وحده صاحب المبادرة والقرار لتحقيق ما يصبو اليه، خاصة وان الظروف الدولية اليوم متاحة لمواجهة الغطرسة الامريكية والدليل على ذلك توالي الهزائم التي منيت بها إدارة ترامب بدءًا برفض العالم أجمع لقراره المشين اعلان القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الامريكية اليها ورفض دول العالم الانصياع لمطالب أمريكا وإسرائيل بنقل سفاراتهم الى القدس رغم الاغراءات المالية والضغوط السياسية على هذه الدول. كذلك الموقف الدولي المعارض للموقف الأمريكي والإسرائيلي من الاونروا، 170 دولة أيدت تمديد ولاية عمل الاونروا رغمًا عن أنف أمريكا وإسرائيل. وكذلك تصويت 165 دولة في اللجنة الثالثة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح حق تقرير المصير للفلسطينيين وأخيرًا الرفض شبه المطلق من دول العالم والمؤسسات الدولية والمنظمات الحقوقية الدولية لإعلان بومبيو بشأن شرعية الاستيطان في المناطق الفلسطينية المحتلة.
اما غير المتاح الآن فهو الموقف العربي الموحد والصريح في مواجهة التآمر الأمريكي – الإسرائيلي على القضية الفلسطينية الذي يجب ان يتجاوز مجرد الإدانة والتنديد ويرتقي الى المقاطعة وليس التطبيع. إضافة الى هذا الخمود في التحركات الشعبية في العالم العربي ضد العدوان الأمريكي الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني.
وأخيرا غير المتاح أيضًا، هو الوحدة الفلسطينية والتحرك الشعبي والمقاطعة المطلقة للاحتلال وإنهاء العمل بالاتفاقيات الموقعة معه خاصة ان نتنياهو ومنافسه على رئاسة الحكومة ينافسان على كسب ثقة الجمهور من خلال المغالاة في التحريض على الحق الفلسطيني والأرض الفلسطينية.
ولتصويب الوضع على شعبنا قيادةً وفصائلَ ومؤسساتٍ وجماهيرَ شعبية العمل وفورًا على إنهاء الانقسام وحشد كل الطاقات الشعبية لمواجهة المؤامرة، فالهبة الشعبية من شأنها ان تحشد المزيد من التأييد الدولي والعربي لقضية شعبنا العادلة ومن شأنها أيضًا ان ترفع منسوب التحركات الشعبية في العالم العربي وهذا ما قد يضطر، في نهاية المطاف، ترامب ونتنياهو الى إعادة حساباتهم والتراجع عن مخططاتهم العدوانية.
خاصة واننا قدمنا كشعب، على مدار عشرات السنين منذ النكبة، ما لا يطاق من تضحيات وعايشنا المعانة والمذلة في الشتات والوطن ولكن ما زلنا مصرين على عدم المساومة على حقنا في تقرير المصير وبناء الدولة ذات السيادة واننا لسنا أقل شأنًا من باقي شعوب الأرض.
الصورة: الاستيطان جريمة حرب. وممارسوه ومؤيدوه مجرمو حرب! (رويترز)