news-details

كمائن العتمة

 

"كمائن العتمة" رواية ذات ملامح حدائيّة، أي تنتمي الى مدرسة الحداثة في الرواية العربية وتحمل الكثير من مواصفاتها... فالسَّرد يعتمد على الفضفضة بضمير الرّاوي المتكلّم، وهي بطلة الرّواية (سارة) التي لا تصف الأماكن والأحداث التي تدور فيها، بقدر ما تنشغل بوصف مشاعرها الدّاخليّة وتعمّقها بالمونولوج الداخلي، فيما يُعْرف بـ "تيّار الوعي" الذي اشتهرت به فرجينيا وولف، وليس مهما في هذه الحالة أن تتقدّم الأحداث للأمام في تصاعد درامي ينمو تدريجيا... فالأحداث هنا تسير تَبَعا لإحساس ومشاعر البطلة، وهي شابة في العشرين من عمرها، تُسجّل اعتراضها على مسار حياتها كلّه، من خلال سرد مقاطع متفرّقة من حياتها منذ طفولتها البائسة ، التي سادت وسيطرت عليها عتمةً كظلمة القبر...

إذن فالعتمة هنا تساوي الموت لأنّها النّقيض للحياة، تسبّبت العتمة في حرمان “سارة” بطلة روايتنا من كلّ إحساس بالحياة... فًعاشت منذ طفولتها كالميّتة سواء بسواء، فقد نشأت في أسرة  تعتنق أفكارًا ومعتقدات دينيّة متطرّفة، بعيدة كلّ البعد عن اعتدال ووسطيّة الإسلام... أسرة تتبنّى أفكارًا قديمة عفا عليها الزّمن، أسرة استعارت نمطا لحياتها من عصور القهر والظّلم والاستبداد، أسرة يحكمها منطق سطوة الرجال على النّساء.

في هذه الأسرة تربّت سارة منذ الصّغر، فتربّت على القمع والكبت وسلْب الحريّة، بما يسمح “لذكور” العائلة أن يتناوبوا على فرض إرادتهم عليها... ويرون الكثير ممّا تفعله يدخل في الحرام...

وقد تربّت سارة بهذا القَهْر لدرجة أنّها أصيبت بخيبة أمل عندما تعرّفت الى صديقتها سهام ووجدتها مُنفتحة على عالم الانترنت وعالم التشّات والفيس بوك ولم تستطع أن تجاريها... 

وعندما كبرت والتحقت بكليّة الآداب، لم يكن كم حقّها اختيار التخصّص الذي تريده... ودائما هي واقعة تحت مراقبة ذكوريّة... فهي في نظر هؤلاء الذكور "غير رشيدة" لمجرّد كونها أنثى!!! لذلك كانوا يخشون أن يوقعها "عقلها الناقص" في خطأ يجلب لهم العار!!! لذلك كانت تستحقّ الضّرب والعقاب إن لمْ تستجب لأوامرهم...

وكلّما كبرت سارة في هذه البيئة القمعيّة ظادت معاناتها من هذه العتمة العقليّة والانغلاق الفكري المفروض عليها وأضفى السّواد على طلّ شيء في حياتها، فأصابها الاكتئاب وأصبحت تتمنّى الموت...  "تلوح أمامي القبور المتراصّة في حديقة منزلنا"...

وتنشد سارة الخلاص من هذا القَهْر، تحلم بالحرية حتّى لو حققتها بواسطة حُبّ مع شاب أقلّ منها علميا أو اجتماعيا أو ليس على قدر من الوسامة التي حلمت بها، المهم أن يحرّرها، لذلك تضعف سارة أمام أيّة بادرة تلوح لها، تستجيب لأول طارق لقلبها الخاوي المتعطّش للحب، للحنان، والحريّة، تستجيب بلا تردّد وتتبعه على أمل أن يخلّصها من العتمة التي سوّدت حياتها... وحين يتبعها ابن عمّها ويراقبها حتى تلتقي بسعد، يسارع بإبلاغ والدها، فينْزل بها أشدّ العقاب... 

إذا العتمة هي المعادل الموضوعي للموت، وهذا ما جعل الكاتبة فاطمة المزروعي تنجح في توصيل رسالة قويّة اتحرير النّساء من سطوة وتحكّم الرجال... خاصة في مجتمعتنا الذكورية، وهي كثيرة وباذخة في أكثر من دولة عربيّة... "من المحيط الهادر الى الخليج الثائر"؟!!! رغم أنّها خُلِقت حرّة كالرجل سواء بسواء...

رشدي الماضي

 

أخبار ذات صلة