news-details

تقرير: حزب العمال البريطاني: إلى فلسطين دُرْ

 

لا يُمكن بعد اليوم تجاهل ما يحصل داخل حزب العمال البريطاني، الحزب المعارض الأكبر في بريطانيا والمرشح للفوز بالسلطة في الانتخابات القادم، تجاه تبني قضايا الشعب الفلسطيني بهذا الشكل غير المسبوق، بل وضعها على سُلم أجندات نقاشات مؤتمراته وبرنامجه الانتخابي في السياسية الخارجية. حزب العمال الذي حاول في أحسن الأحوال أن ينأى بنفسه على مستوى السياسة الرسمية عن الانحياز الى قضية فلسطين، بل جاوز بعض قادته في السابق المحافظين في الانحياز الى إسرائيل، يمر اليوم بتغيير تاريخي منذ وصول القائد الاشتراكي الصلب جيرمي كوربين الى رئاسته. وخطاب المنحازين الى قضية فلسطين والمعادين للاحتلال الإسرائيلي يصبح في المركز بعد أن كان لسنوات طويلة في الهامش.

 

فقط قبل أيام، في قرار وُصف بالتاريخي، دعا حزب العمال البريطاني ، إلى تطبيق حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هجروا منها عام 1948، موصيًا بمنع استيراد بضائع المستوطنات الإسرائيلية وتصدير السلاح إلى إسرائيل. جاء ذلك خلال انعقاد المؤتمر السنوي العام لحزب العمال في مدينة برايتون البريطانية، بحضور رئيس الحزب وأعضاء من حكومة الظل وقيادات حزبية وبرلمانية ومئات من أعضاء الحزب. وصوّت الحزب خلال المؤتمر لصالح قرارٍ يدعو لـ"تجميد بيع الأسلحة لإسرائيل، وفتح تحقيقٍ حول الانتهاكات الإسرائيلية واستخدام القوة في قتل وقمع وإصابة متظاهري مسيرات العودة الكبرى العزّل، والرفع الكامل وغير المشروط لحصار غزة".

 

وأكدّ الحزب تعهده بالمطالب في حال فوزه في الانتخابات البريطانية العامة القادمة. كما طالب القرار بزيادة التمويل البريطاني لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين للأمم المتحدة (الأونروا)، في ظل وقف الدعم الأمريكي لها، مستنكرًا "إعادة كتابة تاريخ الشعب الفلسطيني وشطب ضحايا حرب عام 1948، والذين هجروا قسراً من أراضيهم"، في رفضٍ لمحاولات اللوبي الصهيوني تكميم الأصوات المؤيدة لفلسطين ومحاولات تصفية حق العودة الفلسطيني. وخلال المؤتمر المذكور، رفع معظم الحاضرين الأعلام الفلسطينية، التي باتت تُشكل مظهرًا طبيعيًا في مؤتمرات الحزب مؤخرًا، أثناء طرح الحزب للمقترحات المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني. وصرح رئيس حملة التضامن مع فلسطين في الحزب بن جمال: "إنّ هذا التضامن المدهش والقرار التاريخي يظهر قوة التضامن على مستوى القاعدة الشعبية للحزب، فأعضاء حزب العمال يريدون إظهار تضامن حقيقي مع الشعب الفلسطيني".

 

 

"بحر" من الأعلام الفلسطينية

هذه بالطبع ليست المرة الأولى التي يكتسي فيها مؤتمر لحزب العمال بالاعلام الفلسطينية، ولا المرة الأولى التي تتصدر فيه فلسطين وقضيتها جدول أعمال المؤتمر، في المؤتمر السابق في العام الماضي شهدت الجلسات الختامية للمؤتمر السنوي في مدينة ليفربول لحظة لافتة في الدعم الشعبي لحقوق الشعب الفلسطيني، حيث تحوّلت قاعة المؤتمر إلى "بحر" من الأعلام الفلسطينية، مع تعهد قيادة الحزب بالاعتراف بدولة فلسطينية، في حال وصولها إلى رئاسة الحكومة. وفي ذاك المؤتمر كانت المرة الأولى التي يتم فيها التطرق إلى الحديث عن فلسطين في مؤتمرات حزب العمال. وكان هذا النقاش ناتجا عن دعوة ممثلين عن الأحزاب المحلية لوضع هذه القضية على جدول الأعمال يوم الأحد. في هذا الصدد، تمت إدانة خفض الولايات المتحدة الأمريكية لتمويلها الموجّه للاجئين الفلسطينيين وطُلب من الحزب دعم التعليق الفوري لمبيعات الأسلحة الموجهة لـ"إسرائيل" لأول مرة في حينه.

 

برز في ذلك المؤتمر في مشهد وخطاب مؤثر وبادر المندوب، كولين مونهين، بإلقاء كلمة مؤثرة دعما للاقتراح الذي تمت مناقشته داخل المؤتمر، كما أنه رفض النزول عن المنبر الصحفي حتى يقدم تعليقاته في هذا الشأن بشكل كامل. أثناء إلقاء خطابه، صرح مونهين قائلا: "نحن نرى أنكم تسعون إلى دفع الشعب الفلسطيني ومأساته إلى طيات النسيان. وأنا أريد أن نتفق جميعا على أننا لن نسمح بتغييب وتجاهل معاناة الشعب الفلسطيني بشكل تدريجي. سنثور ضد تغييب هذه المعاناة، ليس لأن هذا أمر سهل التنفيذ، بل لأنه الأمر الصحيح الذي ينبغي علينا القيام به". وعندما وقع تذكير مندوب حزب العمال بأن الوقت المخصص لخطابه انتهى، أصر على إتمام ما بدأه وأردف قائلا: "وقتي لم ينته بعد، فأنا أتحدث باسم الشعب الفلسطيني وسأواصل إتمام ما تبقى من خطابي". وعمدت الجماهير الحاضرة إلى مقابلة هذه الكلمات بهتافات صاخبة، ليضيف مونهين أنه "في حال أردتم مني مغادرة هذا المسرح، يتوجب عليكم إحضار رجال الأمن وإرغامي على ذلك. ويجدر بهم أن يرسلوا جيشا للقيام بذلك لأن سكان شرق لندن، شأنهم شأن الفلسطينيين، لا يرضخون بسهولة".

كوربين قائد هذا التغيير قال في ذات المؤتمر وسط هتاف أعضاء الحزب وتأييدهم: "إن حزبنا موحد في استنكاره لإعدام مئات من المتظاهرين العزل في غزة على يد القوات الإسرائيلية.. الاحتلال المتواصل، والاستيطان غير الشرعي، ووضع أطفال فلسطينيين في السجون.. كلها تمثل انتهاكات سافرة. نحن ندعم سياسة الدولتين.. وكي نطبق هذه السياسة على الصعيد العملي، سنعترف بالدولة الفلسطينية فور تشكيلنا لمجلس الوزراء". احتج كوربين على “المنع المستمر للعدالة وحقوق الشعب الفلسطيني”، وأعلن أن الحزب “متحد في ادانة اطلاق النار على مئات المتظاهرين العزل في غزة من قبل القوات الإسرائيلية، ومصادقة اسرائيل على قانون الدولة القومية التمييزي”، متطرقا الى تشريع الكنيست في حينه لقانون يعرف اسرائيل بالدولة القومية للشعب اليهودي.

 

 

// كوربين، بديل حقيقيّ للرجعيين

 

كوربين لم يكن يومًا مرشحًا لرئاسة الوزراء، لكنه كان دائمًا هناك، في هامش قيادة حزب العمال، "يساري متطرف" كما لقبه البعض، "مجنون" ربما. عارض السياسات البريطانية تجاه الشرق الأوسط بصورة مستمرة، عارض بصورة بارزة الحرب على العراق وقاد مظاهرات حاشدة ضدها، والحرب على أفغانستان والتدخل العسكري في ليبيا والضربات العسكرية على سوريا، وقف موقفًا قل نظيره في ردهات السياسية البريطانية-بريطانيا الانتداب وعهد بلفور- مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والتحرر من الاحتلال وعودة لاجئيه، لا يخشى في أن يوجه نقده اللاذع لسياسيات إسرائيل وأن ينتقد جرائمها على العلن ضد الشعب الفلسطيني. هذه المواقف القيمية التي حملها كوربين طوال حياته السياسية والتي لم تتغير يومًا ووضعته دائمًا في هامش المنافسة على رئاسة الحكومة البريطانية. بقي ثابتًا حتى نضجت الظروف الداخلية في حزب العمال بعد أزمات وتخبطات عديدة ليُنتخب رئيسًا له واستغل تضعضع حكومة تريزا ماي والغضب الشعبي ضدها ليطرح نفسه بديلًا حقيقيًا لحكومة المحافظين.

ومع اقترابه أكثر وأكثر من مكتب رئاسة الحكومة البريطانية، بدأت عصابات رأس المال والطغم البرجوازية المحافظة بتحسس رؤوسها. فاستنفروا مستعينين بحليفتهم الصهيونية وحكومة اسرائيل بصورة هستيرية، عبر شن حملة شعواء غير مسبوقة بهدف تصفيته سياسياً والصاق التهمة القديمة لكل من يعادي سياسة إسرائيل، معاداة السامية ، لعبة قديمة للوبيات الصهيونية تحاول تصوير كُل موقف من دولة إسرائيل وسياستها العدوانية على أنه عداء لليهود ولاسامية واضحة. الاعلام المرتبط بهذه اللوبيات حاول أن يُوصل فكرة بأن"حكومة بقيادة جيرمي كوربين ستشكل خطرًا وجوديًا على اليهود في بريطانيا حتى". حملة تكسير عظام بالفعل، معتمدة على كبرى الامبراطوريات الاعلامية، داخل بريطانيا وخارجها.

وفي ظل هذه الهجمة التي تتهم كوربين بمعاداة السامية كان من المهم صدور عريضة بتوقيع حوالي 300 مواطن إسرائيلي، من بينهم فنانون وباحثون أكاديميون وأعضاء من البرلمان الإسرائيلي، على رسالة يظهرون من خلالها دعمهم لجيرمي كوربين وحزب العمال. وقد كتب المواطنون الإسرائيليون أنه "منذ انتخابه، تعرض كوربين لهجمات متواصلة بسبب محاباته المزعومة لمعاداة السامية. نحن نرفض جوهر هذه الإدعاءات بشكل كامل. كما نلاحظ أن الذين يوجهون أصابع الاتهام نحو كوبرين، على غرار رئيس الوزراء، بنيامين نتانياهو، يُعتبرون أشخاصا عنصريين سيئي السمعة ويُعرفون بمعاداتهم للسامية، على غرار فيكتور أوربان والقوميين البولنديين". وأصافت العريضة :" "نحن نحيط علما بأنه عندما يزعم الكثير من منتقدي كوربين أنهم يحترمون الحق في انتقاد "إسرائيل" نظريا، تبدو هجماتهم عمليا مصممة لصرف النظر عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومنع الحكومة المستقبلية لحزب العمال من ممارسة أي ضغط حقيقي على "إسرائيل" لتغيير سياستها"."

 

تيارات رئيسية باتت تواجه اللوبي الصهيوني

ورغم هذه العاصفة هذا الرجل يُثبت أنه من طينة خاصة، شجاع بحق، بدلاً من أن ينحني أمام هذه الهجمة ويتراجع عن بعض مواقفه التي يُمكن أن تُستعمل في الحرب الاعلامية ضده، يُقرر أن يواجه بصلابة غير معهودة ويعلن بوضوح عن سياساته الاشتراكية وانحيازه التام لقضية الشعب الفلسطيني. وفي قلب العاصفة وحينما كانت على أشدها  يتشح مؤتمر حزب العمال بقيادته بالاعلام الفلسطينيةـ ويؤكد على الموقف الداعم لقضية الشعب الفلسطيني، ويقر قانون  بحظر بيع الأسلحة لاسرائيل بسبب إستخدامها ضد الشعب الفلسطيني، القرار الذي من شأنه أن يتحول الى سياسة حكومية رسمية في حال إستلم حزب العمال الحكم. ثم يصرح كوربين أنه سيعترف بدولة فلسطينية مستقلة بمجرد أن يستلم المنصب.

أي متابع من بعيد لهذه العاصفة من الهجوم والتشويه كان يظن أنها ستقضي على فرص كوربين بالفوز، وخاصه بثباته العنيد على موقفه ورفضه للتراجع، لكن ما حدث بعد إنحسار العاصفة هو أنه اصبح أكثر من أي وقت مضى أوفر حظًا بالفوز. أعداء كوربين لا يدركون أنهم يواجهون قائدًا ثابت القيم المبادئ والاخلاص لانجيازاته الاخلاقية والسياسية يرتكز على حركة عمالية بريطانية هي الأعرق في أوروبا وذات تراث ثوري صلب، تحتاج لمن يوجهها في الطريق الصحيح.

إن حصول فلسطين وقضيتها على كل هذه المظاهر غير المسبوقة من الدعم في المؤتمر رغم الهجمة العارمة ضد كوربن بسبب مزاعم معاداة السامية، يؤكد أن تيارات سياسية رئيسية في الغرب باتت قادرة على مقاومة اللوبي الصهيوني بقوة، وساندرز في الولايات المتحدة كذلك خير مثال، وأنها يمكن أن تثبت على رؤيتها التي تجمع بين إدانة "معاداة السامية" والعنصرية وبين إدانة جرائم وانتهاكات الاحتلال وتأييد الحق الفلسطيني. تأتي مظاهر التأييد غير المسبوق لفلسطين في مؤتمر حزب العمال البريطاني جزءًا من حالة التحول في الرأي العام العالمي تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي، فقد أظهرت استطلاعات رأي عديدة خلال السنوات الماضية أن الرأي العام العالمي بات يستمع أكثر للرواية الفلسطينية بعد عقود من تسيّد وتفرد الرواية الصهيونية للصراع، كما أشارت الاستطلاعات أن تأييد فلسطين يزداد في الأجيال الجديدة الصاعدة .

 

في الصورة: ليست المرة الأولى التي يكتسي فيها مؤتمر لحزب العمال بالاعلام الفلسطينية

أخبار ذات صلة