نُشرت هذا الأسبوع مقالتان جديدتان في دوريّتي "نيتشر" و"ساينس" تبحثان كيف يمكن لروبوتات الدردشة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي مثل "تشات جي بي تي" أن تؤثر على الأنظمة الانتخابية. تُظهر المقالتان أن هذه النماذج تؤثر بدرجة كبيرة على المواقف السياسية، وذلك بفضل قدرتها على تقديم طيف واسع من الحقائق والأدلة؛ وهو ما يبدو ظاهريًا نتيجة إيجابية تعكس سلوكًا عقلانيًا يبحث عن معطيات ملموسة. إلا أن المقال المنشور في "ِساسينس" يبين أنه كلما دُرِّبت النماذج على تقديم المزيد من الحقائق، ازدادت ميلًا للكذب. كما وجد البحث أنه عندما حاولت النماذج إقناع ناخبين يساريين بالتصويت لمرشحين يمينيين، تعَمّقت نزعتها للمبالغة. بحثت مقالة "نيتشر" قدرة روبوتات الدردشة على تغيير مواقف الناخبين في ثلاث انتخابات جرت بين 2024 و2025: الانتخابات الأميركية بين دونالد ترامب وكمالا هاريس؛ الانتخابات الكندية بين مارك كارني وبيار بولييفر؛ والانتخابات البولندية بين زعيم حزب الوسط الليبرالي رافاو تشاسكوفسكي والمرشح اليميني كارول نوفروتسكي. شارك في البحث 2,300 أميركي، 1,530 كنديًا و2,118 بولنديًا. وجدت الدراسة أن الحديث مع روبوتات الدردشة كان له تأثير أكبر بكثير على المواقف السياسية مقارنة بالإعلانات السياسية. فالتغيير في المواقف لدى المشاركين في الولايات المتحدة بعد محادثة مع الروبوت كان أكبر بأربع مرات من التغيير المسجّل بعد التعرض لإعلانات سياسية في انتخابات 2016 و2020. وتسببت نماذج اللغة في تغيير متوسط يتراوح بين 2 و3% في مواقف الناخبين الأميركيين، وبقرابة 10% في الانتخابات الأخرى التي تمت دراستها. حدث هذا التغيير بعد محادثة امتدّت بين 6 و9 دقائق وضمت 3 إلى 9 تبادلات. اختبر الباحثون 27 إستراتيجية إقناع استخدمتها النماذج، من بينها: تخصيص الرسالة، الإصغاء المتعاطف، إثارة الغضب، مناداة المستخدمين بأسمائهم، والدعوة الواضحة للتصويت لمرشح محدد. ووجدوا أن الاستراتيجية الأكثر فاعلية كانت استخدام الأدلة والحقائق. الدكتور إيران توخ، عضو هيئة التدريس في كلية الهندسة والصناعة والأنظمة الذكية بجامعة تل أبيب، يوضح: "المعطى الأكثر مفاجأة وربما الأكثر تفاؤلًا هو أن النماذج فعالة لأنها تستخدم حججًا غنية بالبيانات". ويضيف: "هناك رسالة إيجابية هنا بشأن أهمية الحجج المعتمدة على البيانات عند محاولة إقناع البشر." إلى جانب هذه النتيجة المشجعة، كشفت دراسة "ساينس" نتائج أكثر إزعاجًا. فقد وجد الباحثون أنه كلما زادوا "كثافة المعلومات" في حجج النماذج -أي زيادة عدد الادعاءات الواقعية في كل محادثة -ازدادت مبالغة النماذج أو كذبها. بحثت الدراسة حوارات أجراها 77 ألف مشارك حول 707 قضايا سياسية. وخلصت إلى أنه كلما كانت المعلومات أكثر "ازدحامًا"، كانت قدرة النماذج على الإقناع أقوى. أحد النماذج الأكثر إقناعًا استخدم في المتوسط 25 ادعاءً واقعيًا في كل محادثة. في معظم الحالات استخدمت النماذج بيانات دقيقة -قرابة 81% من الادعاءات كانت صحيحة -لكن النموذج الذي استخدم أعلى كثافة من الأدلة سجل انخفاضًا كبيرًا في الدقة، حيث هبطت إلى 62% فقط. يشرح دكتور توخ أن هذا مرتبط بطبيعة عمل النماذج: "هناك مفارقة بنيوية هنا. نماذج اللغة تعرف الإنترنت كله وأكثر، لكن هناك توقعات هائلة منها، وطريقة استخدامنا لها تجبرها على تقديم الكثير من الحقائق. هذا يؤدي إلى الهلوسة لأننا نطلب كمية كبيرة جدًا من المعلومات الدقيقة." ويضيف أن الطلب المتزايد على الحقائق والمعطيات يُجبر النماذج في النهاية على إنتاج معلومات خاطئة. مع ذلك، يشير الباحثون إلى وجود انخفاض تدريجي في كمية المعلومات غير الدقيقة التي تقدمها روبوتات الدردشة عبر السنوات. يقول توخ: "اليوم نحن لا نتعامل مع تشات جي بي تي واحد بل مع عدة نماذج تتفاعل وتتحقق من بعضها البعض". لكنه يحذر من أن وراء ميل الروبوت إلى اختلاق الحقائق سؤالًا أعمق: ما هي الحقيقة أصلًا؟ ويتابع: "ما نراه في العالم الحقيقي وفي هذه النماذج هو أن سؤال 'ما هي الحقيقة؟' أصبح سؤالًا يصعب على البشر أنفسهم حسمه". ويضيف أن هناك فاعلين سياسيين يعملون بجد لإرباك الجمهور بشأن معنى الحقيقة وما هي الحقائق المهمة. ويحذّر: "قد تدفع النماذج السياسية نحو خطاب شائع في الشبكات الاجتماعية، حيث تصبح الحقائق أكثر انفلاتًا وفوضوية." تتوافق فرضية توخ مع النتائج التي ظهرت في مقال "ساينس"، والتي وجدت أن النماذج التي دعمت مرشحين يمينيين استخدمت معلومات أقل موثوقية. بنى الباحثون نظامًا يجمع بين نماذج لغة إضافية ومراجعين بشريين لتقييم موثوقية تصريحات الروبوت. ووفق هذا النظام حصلت كل جملة على درجة بين 0 و100. كان المعدل العام حوالي 90 نقطة. لكنّ هناك فجوة مقدارها 22.46 نقطة بين مستوى دقة النماذج التي أقنعت بالتصويت لترامب وتلك التي أقنعت بالتصويت لهاريس. وظهر فرق مشابه بين نتائـج المشاركين في بولندا وكندا. افترض الباحثون أن هذا الميل نابع من أن النماذج تعكس الخطاب المنتشر على الإنترنت، حيث يوجد ميل أكبر بين الداعمين لمرشحي اليمين إلى نشر معلومات غير دقيقة. كما درس الباحثون الحد الأقصى من التأثير الممكن لهذه النماذج، ووجدوا أنه في بعض الحالات استطاعت تغيير مواقف الناخبين بنسبة تتراوح بين 15.6% و26.1% -وهي نسبة ضخمة قد تدفع فاعلين سياسيين إلى استخدام مثل هذه التكنولوجيا للتأثير على نتائج الانتخابات. يقول دكتور توخ: "تأثير بنسبة 2 إلى 2.5% هو تأثير كبير في السياسة". ويضيف أنه إذا كان التفاعل مع روبوت دردشة يمكن أن يحدث مثل هذا التأثير، فمن المرجح أن تحاول جهات سياسية تبني التكنولوجيا. ويتابع موضحًا أن من المحتمل دمج نماذج الذكاء الاصطناعي مع نماذج تأثير سياسي قائمة: "مثل نموذج الألكتور الذي استخدم في إسرائيل، والذي يساعد الناس على الاتصال بمعارفهم. أستطيع تخيل لاعب سياسي يدمج ذكاءً اصطناعيًا في نموذج كهذا لتعزيز فعاليته."