لمعرفة إذا ما أنت تسير نحو أراض رعوية، في الأغوار الشمالية، يجب أن تكون سفوح الجبال مليئة بمسارب ضيقة متوازية خالية من الأعشاب، وهي واحدة من العلامات المرئية التي تدل على مرور الماشية في المكان بشكل مستمر عبر عقود من الزمن.
ودلالة ذلك أن الفلسطينيين كانوا في يوم من الأيام يصلون إلى مناطق عشبية، ومراعٍ، أبعد ما يمكن تخيله اليوم.
وأمكن سماع شهادات متواترة من رعاة ماشية عاشوا في الأغوار الشمالية، عن طبيعة الرعي قديما، حينها كانت مهنة تجوب كل المراعي باطمئنان نسبي.
وعلى أقل تقدير، ظلت الحالة على ما هي عليه حتى صيف عام 2016، عندما بدأت تظهر في الأغوار الشمالية جليا ظاهرة البؤر الاستيطانية.
وهذه البؤر التي يرتبط ظهورها بوجود "كرفانات"، وحظائر ماشية يضعها مستوطنون يكونون في الغالب مسلحين، يبدأ قاطنوها بشكل تدريجي بالاستيلاء على الأراضي الرعوية في محيطها وعلى قُطر طويل.
كان صيف عام 2016، حرجا بالنسبة لــمحمود عواد، وهو رجل يسكن في منطقة الحمة بالأغوار الشمالية، عندما ظل يسمع ليلا أصواتا وضجيجا على مقربة من خيامه، ليتفاجأ بوجود بؤرة استيطانية.
وقد أصبحت هذه البؤرة في ليلة وضحاها جحيما يرافق حياة عائلات فلسطينية تسكن في المنطقة حتى اليوم.
يقول الرجل: "كنا نرعى مواشينا دون عائق في المراعي البعيدة (..)، بات الأمر اليوم مستحيلاً".
فمستوطن يحمل سلاحه على جنبه دائما، وضع خلال السنوات الماضية حدودا تبين الأماكن الضيقة التي يسمح للفلسطينيين رعي مواشيهم فيها.
يقول الناشط الحقوقي عارف دراغمة، "في الأغوار الفلسطينية اليوم 12 بؤرة استيطانية رعوية، منها 8 بالأغوار الشمالية".
ذاته عواد، وهو من أوائل الذين كانوا وجها لوجه مع المستوطنين في الأغوار الشمالية، قال إن أي احتكاك مع المستوطنين يخلف خسائر في الماشية.
وعلى مدار سنوات خلت، أمكن رؤية قطعان ماشية يقودها المستوطنون نحو مراعٍ استولوا عليها.
يقول شامخ دراغمة، أحد رعاة الماشية في الفارسية: "صار رعينا ماشيتنا فقط قرب الخيام (..)، نصل إلى باقي المراعي فقط بالنظر".
ومد يده نحو الغرب، قائلا: "نسينا كيف تبدو تلك المناطق، كلما حاولنا الاقتراب منها جاء المستوطنون يحملون أسلحتهم ويمنعوننا، ويعتدون على مواشينا".
والرجل ذاته، بات في سجله الكثير من انتهاكات المستوطنين بحقه، فبالإضافة لخسرانه مراعٍ كانت تقدم الطعام مجانا لمواشيه، بدأ الرجل يستشعر فعليا الثمن الكبير زهاء شراء العلف.
والعلاقة طردية بالمقام الأول، فانحسار المساحات الرعوية أمام الفلسطينيين، يعني بكل تأكيد زيادة مصاريف الأعلاف.
قال لي أحد مستوطني البؤر الاستيطانية: "لا أريد أن أراك أمام عيوني" (شهادة أحد الرعاة الفلسطينيين شمالي غور الأردن)، نُقلت عن مؤسسة "كرم نابوت" التوثيقية الإسرائيلية.
هذه الأيام، أمكن مشاهدة قطعان الماشية لفلسطينيين، وهي ترعى قرب خيام السكان، وتبدو المسارب التي تصلها أظلاف الماشية تأخذ شكلها الطبيعي، دون عشب يكسوها، لكن في مراعٍ بات الوصول إليها ضربا من الخيال، نما العشب على تلك المسارب.
قال عارف دراغمة: "إنها علامة لا تحمل الخير(..)، بدأت المراعي تنحسر بفعل استيلاء المستوطنين على مساحات واسعة منها، في مناطق كثيرة من الأغوار".
ومن خلال شهادات عن قصص ظلت محفورة في أذهان الفلسطينيين عن مواقف حدثت معهم خلال تجوالهم في الجبال الرعوية، يمكن الجزم بشكل قطعي أن الفلسطينيين خسروا جزءا كبيرا من مراعيهم الحيوية.
تبين أرقام وردت في تقرير مفصل نشرته مؤسسة "كرم نابوت"، بعنوان " قطعان المستوطنين .. الرعب والنهب الإسرائيلي في الضفة الغربية"، أنه في الضفة الغربية 77 مزرعة وبؤرة استيطانية بمساحات مختلفة، حاليا، والتي يشكل الرعي مكونا أساسيا في اختيار موضعها.
وتظهر الأرقام، في التقرير ذاته، أن مساحة الأراضي التي استولى عليها المستوطنون بواسطة الرعي تبلغ نحو 240 ألف دونما، أو أقل بقليل من 7% من مجمل مساحة مناطق "ج" في الأغوار الشمالية.
كان الفلسطينيون في الأغوار الشمالية لا يلقون من ينافسهم على رعي الأعشاب الخضراء، واليابسة أيام الرعي، ولم تسجل حالات تذكر لاعتداءات المستوطنين بحقهم، إلا أنه بات في السنوات القليلة الماضية وجود 8 بؤر استيطانية، تضم مئات رؤوس البقر، والماشية، تغلق مساحات شاسعة من الأراضي الرعوية في وجوههم.
"حتى عام 2010 لم نسمع عن اعتداءات للمستوطنين بحق الفلسطينيين". قال دراغمة.
تقول مؤسسة "كرم نابوت"، "إن استخدام رعي المواشي والأبقار للاستيلاء على الأراضي قد بدأ مطلع السبعينيات، واستمرّ بصورة متقطعة في الثمانينيات والتسعينيات أيضا. إلا أن تغييرا جوهريا قد طرأ على مدار السنوات الماضية في حجم هذه الظاهرة، والموارد المستثمرة فيها، وعواقبها المدمرة على التجمعات السكانية الفلسطينية".
بالأرقام، يبدو الوضع أكثر خطورة، فالإحصائيات في "كرم نابوت"، تبين أنه ما بين 2017- 2021 أقام المستوطنون 46 بؤرة استيطانية في الضفة الغربية.
وبشكل متوقع، فإن الفلسطينيين في الأغوار باتوا في الرمق الأخير من مهنة ظلت طيلة عقود طويلة ركيزة لا غنى عنها في حياتهم، بعد كل هذه الخسارات في مقومات استمرارها. (وفا)
إضافة تعقيب