هنالك شخصيات فنية أحببناها فقط لإبداعها، وهنالك شخصيات فنية أحببناها لإبداعها وللأثر الذي تركته فينا بسبب طبيعة شخصيتها المتميزة.
والفنان النبيل المغنواتي الجميل عزت أبوعوف، الذي رحل قبل ايام، عن عالمنا تاركًا فراغًا لا ولن يعوض، هو بالنسبة لي من النوع الثاني.
فالوله ده كان ظاهرة ومثالًا يحتذى بكل المقاييس، بعد أن أثّر وأبدع في كل المجا?ت التي طرق أبوابها ثم دخلها وتربع في وسطها بثقة، الفنية منها على الأقل، فلا علم لنا بباب الطب الذي كان أول الأبواب التي طرقها ودرسها وعمل فيها لخمسة عشر عامًا كطبيب نسائية وتوليد، ليتركه ويطرق باب الموسيقى التي درسها في الكوتسرفاتوار بنفس دفعة الموسيقار عمر خيرت، ومنها الى باب التمثيل ثم تقديم البرامج.
كان أستاذًا في الغناء والموسيقى التي لطالما وصفها بأنها حياته وعشقه الأول والأخير، والتي كان له فيها صولات وجولات. وأستاذًا في التمثيل، الذي تألق فيه. وأستاذًا في تقديم البرامج وإدارة المهرجانات، التي نجح فيها بجدارة. فقد شكل حضوره فيها جميعًا علامة فارقة أثرت وتركت بصمة في محيطها. مطربًا وموسيقيًا، من خلال فرقة الفور أم، التي أشرَك معه فيها أخواته في الغناء وا?ستعراض بكل ثقة، في مجتمعات كانت ولا زالت تعتبر مثل هذا الأمر مُعيبًا وتحَديًا لأعرافها وتقاليدها البالية، وإكتشف خلال هذه الفترة الفنان محمد فؤاد، وقدم مجموعة أعمال من تأليفه، أو قديمة من التراث، أعاد صياغتها بروح العصر. وممثلًا، من خلال أدواره المتميزة التي أبدع في أدائها بمختلف أشكالها، التراجيدية منها أو الكوميدية. أو مقدمًا للبرامج في برنامج المسابقات هرم الأحلام أو برنامج القاهرة اليوم. وأخيرًا وليس آخرًا رئيسًا لمهرجان القاهرة السينمائي لعدة دورات ناجحة بفضل إدارتها وتنظيمه لها.
كان عزت ابوعوف وسيبقى، بالنسبة لجيلنا على الأقل، ايقونة موسيقية وغنائية خالدة لا تنسى، شأنه شأن الموسيقار الألماني جيمس لاست، لأن ما قام به مع تراثنا الموسيقي العربي شبيه لما قام به الأسطورة جيمس لاست مع التراث الموسيقي والغنائي الغربي. فقد سَهّل لنا المُمتَنِع عبر بناء جسر تواصل نغمي بيننا وبين هذا التراث الذي لم نسمع بالكثير من روائعه في حينها، أو لم تكن أسماعنا مهيأة بعد لسماعها بحكم المرحلة العُمرية، عن طريق أعادة توزيعها بأنغام ديسكو زماننا وروح عصره السريعة، وقدمها لنا وعرفنا عليها وعلى مطربيها، منها على سبيل المثال لا الحصر، أغنية قلبي القاسي لسعد عبدالوهاب، وأغنية يا عيني على قلبي لمحمد فوزي، وأغنية ديسكو ديفاني الهندية للمطربة الباكستانية نازيا حسن، وأخيرًا ليس آخرًا أوبريت الليلة الكبيرة لسيد مكاوي، التي كانت أبرز مثال لما عاناه الفنان الراحل خلال مراحل بناءه لهذا الجسر النغمي، فهي من ألحان موسيقار كلاسيكي وبروح شعبية، في حين أعاد هو توزيعها على النمط الغربي بدون ربع تون، وتحمل بسبب ذلك، حسب قوله في أحد اللقائات التلفزيونية، الكثير من النقد والتوبيخ في البداية، وكان أول وأشد المنتقدين له والده الذي كان أستاذًا بالموسيقى الشرقية، وملحنها سيد مكاوي، والكثير من الموسيقيين المصريين الكلاسيكيين، الذين إعتبروا ما قام به تشويهًا لها من وجهة نظرهم. لكن النتيجة كانت أنها إنتشرت كالنار في الهشيم بين شريحة الشباب والمراهقين، الذين كنا حينها منهم، والذين حفظوها عن ظهر قلب ولا زالوا يرددونها، بفضل ما قام به عزت أبو عوف معها ومع غيرها من أغاني التراث الموسيقي والغنائي العربي الشرقي.
إضافة تعقيب