*ردًا على مقولات الترجمة التطبيعيّة بين العربية والعبرية*
الترجمة: دفاعًا عن الذات
كلّما حضر مشروع ترجمة من اللغة العبريّة الى اللغة العربيّة والعكس، يثارُ جدلٌ لا طائل تحته محوره تطبيع العلاقات مع الكيان الصّهيوني وجدوى الترجمة من لغة الصهيوني المستعمر وإليها، ولغط كثير يعود ويتكرّر حول أهميّة هذا الأدب وما يجب أن يُترجم وما لا يترجم، وإلى أيّ حدّ يمكننا الوصول أو الايغال في هذا الفعل على الحدود العربية-العبريّة.
تظهر كلمة تطبيع هنا المستعارة من الخطاب والحقل والسياسيين بكونها تهمة إعادة العلاقات بين الذات والآخر/ العدوّ إلى المنطقة المسالمة الآمنة. مبدأ استعارة "التطبيع" وشرعنته في حقل الأدب وتحويله إلى وسيلة تجريم كل فعل الترجمة والعاملين فيها، فيصبح الكاتب والمترجم والأثر الأدبي والناشر وحتى القارئ خونة ومطبعين وتجب محاكمتهم علنًا.
يُطرَح سؤال التّطبيع في سياق الترجمة، كما لو أنّه بداهةً علينا القبول بها كالآخرين. لا يمكننا أن نفهمَ هنا بشكل تام المقصود بالتطبيع في الترجمة بين العربية والعبريّة، أهو عودة العلاقات بين اللغتين، أم الشعبين، أم الثقافتين، أم يجب أن نقرأ التهديد الذي تقوم به الترجمة من خلال قراءة الجانب المهدَد الذي عاشَ طويلا ولا يزال يعيش في كنف شبحيّة الآخر؟
لم يكذب موريس بلانشو عندما أعلنَ عن فعل الترجمة كادعاء شيطاني يخاف منه البعض من تعريض ثقافتهم له حتى لا تكون اللغة والثقافة فريسة في أرضٍ غريبة، وهي بذلك تهدد كيان الآخر لا تقرّ عينه ولا تمتدحه. كما أنها تبرهن الاختلاف لا تذيبه ولا تخفيه ولا تحجبه. بالتالي، وبالتعبير البلانشوي أيضًا، لا يكون العمل أهلاً لأن يُترجَم إلا إذا أفصحَ عن استعداد للاختلاف، وتصبح الترجمة في سياق الحدود العربية-العبرية مهمة خطيرة ينفذها المترجم لا تنحصر في فعل الربط والجسر بين ضيف ومضيف. هنا، تصبح الترجمة فعلا يقوم على ديناميكيات الفراغ والملء، والفقر والثراء وقتل النصوص عبر إحيائها في منظورات أخرى وفي أراضٍ أخرى قد تعاديها. الترجمة في هذا السياق مهمة محفوفة بالمخاطر تقف على حديّة توسيع-تضييف المساحات بين الضيف والمضيف، وتصير أداة تقويض "عنيفة" تشدّ الآخر ب "نعومة" إلى أرضه لفحص ما يخفيه في جيوبه عنا.
التطبيع عبر الترجمة: إيقاظ البعبع النائم
أخيرًا، وبعد أسابيع من التصريح والتلميح، والاقتراب من حدود التشبيح، في اطلاق دار راية الفلسطينية للنشر سلسلة ترجمات من اللغة العبرية، استهلّت بمختارات للشاعر الاسرائيلي ذي الأصول العراقية، روني سوميك، وبترجمة الفلسطينية ريم غنايم، وتقديم على شكل رسالة شخصية من الشاعر ادونيس، بقّ رشيد وحتي بحصته، في مقال تحت عنوان "بين الترجمة التطبيعية للأدب الإسرائيلي وتفكيك الأيديولوجيا الصهيونية"( موقع الميادين 7.2.2023)، وفهمنا في سياق ما قاله المقال، وما لم يقله، دوافع وحتي، وآخرين، في التحامل غير المبرر، والمحاولة لدمغ دار راية عبر استخدام بعبع التطبيع وفزاعة التمويل. ولعلّ قراءة متأنية للمقال ستوضح للقارئ اللبيب، وحتى غير اللبيب، أن الديباجة التاريخية التي يسردها المقال حول الترجمة وغسان كنفاني وغالب هلسا ونقدهما للأدب الاسرائيلي إنما ترمي إلى الوصول، أخيرا، إلى زبدة المقال؛ وصم دار راية بالتطبيع، وادونيس بالتهافت وقبول دور الوكيل، لنيل رضى "الغرب". وهي رؤية مثيرة للشفقة والسخرية في أقل تقدير، وتحمل في ثناياها، بذور تهافتها وخوائها، كما سنوضح فيما يلي.
تبدأ اولى أخطاء هذه الرؤية في اعتبار الأدب الاسرائيلي كُلًّا واحدًا وموحّدًا انطلاقًا من كونه مكتوبًا بالعبريّة، وهو خطأ فادح ليس لأنه يساوي بين رواية "عرب يرقصون" لسيد قشوع ورواية "أرابسك" لأنطون شماس فحسب؛ (وكلاهما على طرفي نقيض، وقعًا وحضورًا ومعنى، رغم كونهما عملين مكتوبين باللغة العبرية، وكون مؤلفيهما من فلسطينيي 48)، وبين يهودا عميحاي وروني سوميك، او بين سامي ميخائيل وعاموس عوز، بل لأن منطقًا كهذا يحمل إدانة مسبقة للغة، بوصفها لغة، بشكل يحمل ملمحا فاشيا واضحًا.
يطالب رشيد "الآخر" أن يتنازل ليس عن جنسيته ومكان اقامته ولغته، فحسب، بل عن روايته ايضا وان يتبنى بالكامل السردية الأخرى، الفلسطينية، حتى يصير مستحقُّا للترجمة، وهو منطلق مثير للاستغراب والسخرية؛ إذ يجب أن يكون "الاخر" وفقا لهذا التعريف، عضوا في المكتب السياسي للجبهة الشعبية حتى يستحق الترجمة، وهو وضع، لو تحقق، إنما يفقد هذا "الاخر" مغايرته واختلافه؛ فوفقًا لهذا المنظور الضيق والمبتسر سنصفّي نترجم لأنفسنا، ولأصداء روايتنا في ما يكتب الآخر، أي نبحث عن أنفسنا في كتابته، وهذا ليس مجال عمل الترجمة، إنما نزوع الوعي المهزوم إلى استقراء حضوره في ثقافة الآخر، الغالب، ليس أكثر.
ما يدور من نقاش حول الترجمة من العبرية وإليها بوصفها ترجمة تطبيعيّة تدخل ضمن "النظام الصهيوني"، ما هو إلا شكل من أشكال العقاب التأديبي الذي يحوّل الترجمة إلى جسد سجين تُمارس عليه عقوبة تعذيب لتحقيق "العدالة" الغائبة عن الواقع السياسي في مشهد الصراع الفلسطيني-العربي –الإسرئيلي. السّلطة التي تغيب في الواقع تحضر بآليات القسوة والنفي والتعذيب والعنف مستهدفةً ما هو مضادّ للنموذج المهزوم على أرض الواقع ضمن آليات ضبط مؤدلجة ومشرعنة في نظام اخلاقيات مؤدلجة ومشفّرة فشل فعليا في تحديث آلياته لمواكبة الصراع إما عبر الحجب أو عبر وضع الحدود والشروط التي تلزم بترجمةَ "الأدب الصهيوني" فقط عبر نقده وتفكيكه بحواشٍ ومقدمات، على حدّ تعبير وحتي- أي الترجمة المشروطة.
المغالطات، المراقبة والمعاقبة
ما يلفت في هذا النزوع هو كونه ابنا شرعيا لثقافة مهزومة ومهزوزة؛ فالذي لم يستطع هزيمة الآخر في الواقع وعلى الارض، إنما يريد تعويض هذه الخسارة بانتقام معنوي من لغة الآخر عبر اعتبارها (لغة العدو) فقط، وعبر استبعادها وتحقيرها ونزع الشرعية عن الأدب المكتوب بها، بشكل ماحق، دون حتى الوعي الاولي بالاختلافات بين توجهات واساليب ومدارس من يكتبون بها، والخلط بين الادب المكتوب في هذه اللغة قبل 1948، والادب المكتوب بعد ذلك، -وهو مختلف في الرؤى والتوجهات واللغة والصياغات وتجليات الهوية الفردية والجمعية- فهل يمكن اعتبار كل الادب المكتوب بالعبرية، حتى المكتوب قبل 1948، "أدبا اسرائيليا"؟ بالطبع لا، ففي مثل هذا التعريف أكثر من مغالطة معرفية وتاريخية، وجهل بالتباينات والتيارات المختلفة داخل اللغة العبرية المعاصرة والانتاج الادبي والمعرفي المكتوب بها على مدار القرن الأخير.
نزيد على ما قيل أعلاه اننا عندما نغيّب الشيء فإننا بشكل ما نكتبُ حضوره، وتصبح عملية الترجمة في هذا السياق السّجين الذي يجب إخفاؤه من المشهد البصري لكونه مهدّدًا ومنحرفًا، لكنّ السّجن الذي هو آلية مراقبة ومعاقبة، لا يمكنه أن يمحو أثر الجريمة، بل يظلّ ينتجها على الدوام لأن النظام العقابي لا يفعل شيئًا سوى إدارة الـ"جريمة" بالتعبير الفوكوي، لا محوها.
انطلاقا من هذا التعميم المخل، علميا وموضوعيا، والذي يبدو أسهل لوضع الكل في سلة واحدة، يتجاهل وحتي، أو لا يعرف اصلا، أن ثمة تيارًا أساسيًّا وأصيلًا في الادب والاجتماع المكتوب بالعبرية اسمه انتاج "اليهود العرب"، وانه ممتد ومتواصل تاريخيًّا منذ ايام الرمبام في الاندلس الى ايامنا، وإن كان هذا الادب حظي – بسبب من ظروف وملابسات الصراع العربي- الاسرائيلي/صهيوني الفكرة- باهتمام أوسع خلال العقود الأخيرة، ويُعاد أحيانًا إلقاء الضوء عليه مع تجدّد موجات المواجهة المفتوحة بين العرب واسرائيل.
في مقالة وحتي ثمّة حجاج محيّر وفوضويّ ومخاتل يُدخل القارىء العربي عمومًا في حالة من عدم الفهم التام للمصطلحات وتعريفاتها، وهذا يعود الى محاولاته المستميتة لبرهنة او تثبيت موقف سياسيّ على حساب خلط مغلوط بين المفاهيم: العبري واليهودي والصهيوني، منتهيًا في كل مرّة إلى فرض السياسيّ على الأدبي بشكل مطلق، وذلك ضمن تعريف كلّ ما يُكتب من أدب باللغة العبرية كصهيوني.
ربّما علينا أولا أن نحدّد الفروقات الدقيقة بين الصهيوني والعبري واليهودي والصهيوني (الصهيوني الديني والصهيوني العلماني) وكلّها مفاهيم دار حولها نقاش في الدوائر الإسرائيلية الدينية وغير الدينية. فاليهودي، وفق الشريعة اليهودية، هو من وُلد لأم يهودية أو من مرّ بعمليّة التهوّد. مع قيام الدولة، وخاصة مع قبول قانون العودة، على حد تعبير الروائي أبراهام يهوشواع، أصبحت الحاجة إلى تعريف من هو اليهودي أمرًا أساسيًا للغاية، لأن اليهودي ، من خلال تعريف هويته ، يشتري حق الهجرة إلى إسرائيل و أن يصبح مواطنًا مثل كل المواطنين. وهكذا بدأت إشكالية تعريف اليهودي تتكشف في الجيل الأخير. ويسهب يهوشواع قائلا ان وجود الأم اليهودية أو عدم وجودها أيضًا ليس جزءًا إلزاميًا من التعريف. فالممرات الدينية لدخول الناس أو مغادرتهم معتمدة على إرادة الشخص، وليس على سمة بيولوجية وراثية يحملها في داخله.
أما الصهيوني، على حدّ تعبير الكاتب الإسرائيلي أ.ب. يهوشواع الذي تكلّم عن البلبلة الحاصلة في استخدام مصطلح الصهيونية والحركة الصهيونية بإلهام من هرتسل. فالصهيوني هو من يطالب أو يدعم إقامة دولة يهودية في "أرض إسرائيل" وفق عبارة هرتسل "في بازل أقمتُ مدينة اليهود"، وبالتالي شدّد يهوشواع على أنّ الصهيوني هو الداعم لإقامة دولة يهودية وليس بالضرورة مَن هاجر إليها (مثل هرتسل ومؤسسي الحركة الصهيونية). لكن أي دولة؟ يتساءل يهوشواع، فلكلّ صهيوني كانت له رؤية وبرنامج لتصبح الصهيونية ليست أيديولوجية وإنما قاعدة واسعة لايديولوجيات مختلفة، وحتى أنها تناقض بعضها. وقد مرّ المصطلح بمسار تغيير بعد 48 ليصبح الصهيوني هو كل من يقبل بمبدأ ان إسرائيل كدولة هي ليست دولة كل مواطنيها، وانما دولة كل الشعب اليهودي، وهو ما يوجب قانون العودة. ويختم يهوشواع الفكرة أن الأسئلة الأيديولوجية والسياسية والأمنية والاجتماعية الكبرى لا تنتمي للصهيونية لأنها تشبه أسئلة مشابهة تكافح من أجلها شعوب أخرى. لكن الدولة اليهودية اكدت زيف مقولة القومية اليهودية التي لا تحمل رؤية واقعية فمن خلال فشل الدولة اليهودية في تعريف ما يسمى بالهوية اليهودية على حدّ تعبير عبد الوهاب المسيري.
أما فيما يتعلّق بتعريف من هو الإسرائيلي فيرى يهوشواع أن فهم الفرق بين الهوية والمواطنة هو حجر الزاوية في الإجابة على هذا السؤال.
ولا بدّ في هذا السياق من التأكيد على أنّ إشكال عدم تجانس جماعات المهاجرين الوافدين من دول العالم أدّى إلى وقوع انقسام بينها وخلق كيان جديد اسمه الشعب الإسرائيلي والقومية الإسرائيلية بدلا من الشعب اليهودي والقومية اليهودية، وتحوّل السجال الفكري من كون اليهود ليسوا شعبًا وإنما أقلية دينية.
بعيدًا عن كل هذا السّجال، قريبًا من قراءة النصّ الأدب في سياق ترجمته الى العربيّة، لا بدّ وأن تظهر كلّ هذه الإشكاليات في ديناميكيات السّرد والشّعر والثيمات المطروحة على مائدة الكتابة، ولا بدّ من الحَسم بأنّه قد حان وقت عدم تغييب هذا الآخر الإشكالي في تعريفه لذاته مقابل الآخر من خلال تغييب ترجمة نصّه وحُمولاته السياسية والدينية والاجتماعية والإنسانية، ذلك لأنّ هذا الآخر متعدّد في ذاته ومتحوّل على الدوام وتغييب قراءته في اللحظة الراهنة يعني تغييب قراءة واسعة وتثبيت حضوره في الوعي الجمعيّ العربي على أنّه البعبع الذي يجب طرده من المخيلة الجمعيّة.
كيف يمكننا إذًا أن نفهم اختلافه وتعدده، إذا ظلت قراءته تقتصر على نظرة ايديولوجية أحاديّة؟ الترجمة لا توقّر ولا تبجّل أحدًا، والمسألة لا علاقة لها بوجوب تقديم قراءات تقويضيّة لكلّ عمل أدبي مترجم عن العبريّة، كما لو أنّه شرط أمنيّ مسبق "يطبطب" على ذهنيّة جامدة هي الأخرى تساهم في عدم فهم تركيبات الواقع الفلسطينيّ الذي نشأ نتيجة الصراع مع كيان أقليّ مركّب.
توضيح عينيّ لا بدّ منه: ردًا على ادعاءات رشيد وحتي
عطفًا على ما تقدّم، من المهم التوضيح، باسم دار راية للنشر، ما يلي:
انطلاقاً من فهمنا للدور المركزي للأدب والفن في الصراع الوجودي الذي يخوضه الشعب الفلسطيني مع اسرائيل، ومن وعينا المتقدّم بمشروع الآخر بكوننا فلسطينيين باقين في وطنهم، وعلى تماس مباشر ويومي في جميع مناحي الحياة، وتحت الوجود الكلي لهذا الآخر، مع لغته وأدبه وحواجزه ومؤسساته وجامعاته؛ فقد اقترحنا سلسلة الادب العبري المعاصر تحت اسم "خط التماس"؛ والاسم وحده، فيما نعتقد، كافٍ لتوضيح رؤيتنا من ترجمة بعض من أدب الآخر وانتاجه الثقافي.
واستكمالا لهذه الرؤية التي ترى الثقافة ساحة متقدمة للمواجهة، لم تتوجه دار راية للنشر لأي مؤسسة إسرائيلية، ولا غير اسرائيلية، من اجل اطلاق هذه السلسلة، ولا دعم هذا الكتاب، ولا أي كتاب آخر، ضمن السلسة نفسها، وأن ترجمة القصائد واجراء الحوار مع الشاعر وترجمته واصدار الكتاب بشكل فعلي إنما تمّ بدون اي مقابل مادي، وبالتطوّع التام، من ريم غنايم وبشير شلش، وان تكلفة طباعة الكتاب سدّدها كل من ريم وبشير من مالهما الخاص، إيمانا بأهمية هذا المشروع، وحيويته، شرط أن يكون حرًّا في اختياراته وأن يبدأ ويظلّ بعيداً عن أي تمويل إسرائيلي، رسمي أو غير رسمي.
امّا رسالة أدونيس التي جاءت كتقديم للمختارات، وهي سبب استجرار كل هذا الغضب والحسرة المقنعة، فلم تأت لنيل رضى الغرب عن أدونيس كما يحب رشيد أن يتوهم. خلاصة الموضوع أن أدونيس وروني التقيا عام 2004 في مهرجان أدبي في اسبانيا، وان روني- تحت تأثير قراءته لمختارات أدونيس التي ترجمها رؤبين سنير وصدرت عام 1989 في تل ابيب- كتب قصيدة/ تحية سماها (سلاما الى الملك أدونيس)، وان رؤوبين سنير ترجمها وارسلها لأدونيس، فردّ الأخير ( في رسالة من ايميل خالدة سعيد إلى ايميل سنير) بسطرين عامّين فيهما تحية عامة لروح الشعر، وظل روني معتزا بسطري أدونيس اليتيمين وقصيدته التي اهداها له، وعلى هامش لقاء جمعنا بأدونيس خلال السنة الأخيرة، وفي حديث عن اصدارات الدار القادمة، أوضحنا لأدونيس اننا سنصدر مختارات لروني، وهو معتز بما كتبته له قبل قرابة العقدين، فهل تكتب مقدمة لمختاراته، سيما وأنها الاشمل التي ستصدر له بالعربية ، فأبدى موافقة مبدئية، حتى انه اقترح ان يكون التقديم على شكل رسالة من شاعر الى شاعر للتحايل على الطابع الرسمي للتقديم، وهذا ما كان، وملابسات الأمر كما يمكن للقارئ أن يرى بوضوح، لا علاقة لها لا بالغرب ولا بالشرق، وان ادونيس لم يبادر لتقديم الكتاب لنيل رضى الغرب، بل ان بشير شلش مدير دار راية هو من عرض الامر برمته على ادونيس.
ولعلّ نبرة التأسّي على ادونيس، التي تشمل اجمالا هذا النوع من النقد، وتتذرّع بمحبّة الشاعر وتقديره، وأن أصحابها لا يرضون لادونيس هذا التهافت، إنما تخفي في عمقها حسدًا من النوع الأكثر ابتذالا ومجانية، فأدونيس ليس غرّاً، وليس شخصا يبحث عن الشهرة، فهو مشهور بما يكفي، لدرجة أن مختارات من قصائده المترجمة الى اللغة الصينية وبعض تخطيطاته صدرت بطبعتها رقم 32 الصيف الماضي، وما يزال إلى اليوم نجمًا حقيقيًّا وضيفًا على اهم المهرجانات الادبية في العالم، وما الغمز من سنه المتقدمة وتأثيرها على ما يقول ويفعل، الا إخفاء لحسد مكتوم وغيط تحت دعاوى الاهتمام والتقدير.
وعليه، فإن ادعاءات التمويل الواردة في المقالة، لا تجافي الحقيقة الموضوعية فحسب، إنما تتعارض مع حقيقة أن صاحب المقالة، شاعرًا ومترجمًا، من أشد المتحمسين لمشروع دار راية، إلى درجة مبادرته ارسال اكثر من 10 أعمال من ترجماته المختلفة، بينها مختارات لبريخت، وديوان ايروتيكا لريتسوس، ومختارات هايكو يابانية، وديواني شعر له هو، للنشر ضمن اصدارات دار راية.. أكثر من ذلك، فلو كانت راية كما يحاول وحتي أن يصمها، فهل كانت صحيفة الأخبار اللبنانية، بما تمثله، وهي مكان عمل رشيد وحتي، ستدعو مدير دار راية، لمرتين، إلى بيروت، وتسعد بالتعاون معه في اصدار الأعمال الأدبية للشاعر أنسي الحاج؟ وفي أن يتطوع وحتي، دون سواه، لتفريغ مواد كتاب أنسي الأخير( خواتم 3) من صفحات الأخبار إلى ملف يمكن استخدامه لتصميم وطباعة الكتاب؟ وهل كانت الأخبار ستعتبر الناشر بشير شلش لسنوات، مستشارا غير رسمي لها، في كل ما يتعلق بالأدب الفلسطيني، وتعطيه حق أن يقترح ويقدم ملفات كاملة ومواضيع أغلفة لملحقها الثقافي، كان آخرها ملف احتفالي بتجربة حسين البرغوثي.
هدف ذاتيّ في مرمى القضية الفلسطينيّة
الخلط بين المحاور الشائكة في هذا الباب المتفرّع، والبلبلة التي يدخلنا فيها وحتي، من الافتتاح بغسان كنفاني، إلى الحديث عن أجيال في كتابة الأدب الصهيوني، مرورا بالثناء على ثلّة من الكتّاب اليهود الذين ولدوا في فلسطين المحتلة وناصروا القصيّة الفلسطينيّة (والذين وصلت أصواتهم الى وحتي عبر فعل الترجمة نفسه وفعليًا يفوق عددهم الخمسة الذين يسمّيهم وحتي في مقالته المحدودة)، ثم التعريج في بند مستقل لا علاقة له بأطروحة المقالة، على كتّاب عراقيين "هامشيين" على حدّ تعبيره زاروا "إسرائيل": عبد القادر الجنابي، ونجم والي وصمويل شمعون، لا تفيدنا بشيء الا لتشكّل تعبيرًا عن غضب وتحامل شخصيّ واتهامات مبطّنة بالتخوين مرة أخرى. وصولا إلى بيت القصيد: روني سوميك، الترجمة التي قضّت مضجع وحتي منذ أن تسلّم مادّة الحوار مع سوميك للنشر في صحيفة الأخبار بوصفه محررًا فيها. وفي هذا السياق الذي ذكر فيه وحتي سوميك كخادم في الجيش الإسرائيلي وداعية من دعاة الفصل العنصري، لا بدّ أن نكمل تفاصيل تغيب عن وحتي، أنّ أول من ترجم روني سوميك هو الشاعر الفلسطيني سميح القاسم الذي قدّم تقديمًا نقديا تفكيكيًا لرواية الكاتب الصهيوني عاموس كينان: "الطريق إلى عين حارود" المذكورة في مقالة وحتي، والذي كان أول من عرّف القارئ العربي بمجموعة سوميك "ياسمين". فماذا سيكون الرّد في هذا السياق على سميح القاسم أول مترجمي سوميك؟
ربّما من الأولى هنا أن يرفع البعض أيديهم عن الأدب وعن تجريم الترجمة، ويتّخذوا موقفًا نقديًا موضوعيًا ورؤية هذه المشاريع جزءًا من صراعٍ حول المعرفة، مع البدء بالتفكير في خلق بدائل وإزاحة ناجعة في الخطاب الثقافيّ الأدبي فيما يصبّ بمصلحة الثقافة الفلسطينية والعربيّة، بدلا من الزجّ بالعاملين في هذا الحقل في زنازين التخوين والتجريم والتهميش طمعًا في تسجيل هدف ذاتيّ في مرمى القضية الفلسطينيّة.
فارحمونا من هذه الكراهية الناعمة وارفعوا ايديكم عن الترجمة.
*"بين الترجمة التطبيعية للأدب الإسرائيلي وتفكيك الأيديولوجيا الصهيونية" ( موقع الميادين 7.2.2023)
الصورة الأولى أعلاه: روني سوميك وادونيس في اسبانيا 2004؛ الصورة الثانية: بشير شلش وحديث مع ادونيس/ معرض ابو ظبي 2022
إضافة تعقيب