news-details

مقاهي القاهرة – منابر سياسية ومدارس أدب

كتب: تميم منصور

قبل عدة سنوات وأثناء زيارة إلى مصر، التقيت مع بعض الأدباء والشعراء، في احدى الليالي اصروا على استضافتي في مقهى الفيشاوي في منطقة " سيدنا الحسين " وأعترف كانت ليلة لها طعم الثقافة والحوار السياسي والأدبي، لكن اللافت للنظر ليس فقط تاريخ هذا المقهى من خلال الصور المعلقة على الجدران والذي  يدل على  قدمه، بل على تاريخه كشاهد على العصر السياسي والأدبي، من تاريخ جلوس الأدباء والمفكرين فيه، إلى اهتمام السياح القادمين من الغرب والشرق – هذا الذي أكده أحد أحفاد الفيشاوي من أصحاب المقهى.

عرفت أنه تأسس أو أقيم عام 1863، في عهد الخديوي  إسماعيل الذي أقصي عن الحكم عام 1879، ما زال  حتى اليوم له أهميته الأدبية والفكرية.

من أهمية مقهى الفيشاوي كونه يقع في حي الحسين وقربه من الأزهر، فقد مر من أمامه التجار والصناع وعابرو السبيل، فكانوا يقفون في مدخله ويرتادونه، مما ضاعف من صخب الحياة فيه، وقد كانت تتفاعل به الحياة أكثر في سهرات رمضان، إذ يزداد رواده في هذا الشهر، طمعًا بالاستمتاع لمشاهدة وسماع العديد من كبار الفنانين والأدباء، ومن يقرأ مذكرات  فكري أباظة وحفني محمود وصبري أبو علم والملحن زكريا أحمد والشاعر بيرم التونسي والمخرج السيد بدير والمخرج طاهر أبو فاشا والكاتب نجيب محفوظ والشاعر الشعبي أحمد فؤاد نجم  والشيخ إمام ، عدا عن عشرات المقالات التي كُتبت عن المقهى الذي شكل مكانًا ينبع منه الأدب والسياسة، ولا ننسى اعترافات الكاتب المعروف نجيب محفوظ أنه أطلق على أصدقائه الذين يجلسون في مقهى الفيشاوي " الحرافيش "، وقد أصدر كتابًا تحت هذا العنوان يضم قصصًا جرت في منطقة الحسين، وقد استمد أحداثها خلال جلوسه في المقهى.

أيضًا كان للمقاهي الأخرى  في مصر  دور هام لا يقل عن مقهى الفيشاوي أهمية منها :

مقهى " البوستا " الذي كان يرتاده المفكر والفيلسوف الثائر جمال الدين الأفغاني مع العشرات من المفكرين والشعراء، وصفوة طلاب الأزهر من أمثال محمد عبده وعبد الكريم سليمان وإبراهيم الهلباوي، الذي كان يجتمع معهم في منزله، وشيئًا فشيئًا ذاع فضل الرجل وانضم اليه سليم تقلا وأديب إسحاق وإبراهيم المويلحي وعبد الله النديم ومحمود سامي البارودي، وبعد أن زادت الحلقة اتساعًا خرجت من المنزل إلى مقهى " البوستا " المعروف بمقهى أنطون. كان الأفغاني يحب السهر الطويل وحمل رسالة إصلاحية تدعو لمواجهة الاستعمار، وفي مقهى البوستا تألف الحزب الوطني الحر، وهو أول حزب عرفته مصر على يد الأفغاني، كما وضعت مبادئ الثورة لاصلاح الشرق العربي مبتدئا بمصر.

كان مقهى البوستا يعتبر مدرسة الأفغاني التي غيرت الكثير من الوضع القائم في مصر، في الوقت الذي كان فيه الأفغاني يُشعل نار الثورة في مجالسه بمقهى البوستا، كان هناك مجلس آخر يلتئم في مقهى آخر بحي الخليفة ويدعى مقهى الخليفة، وكان يقع بالقرب من مسجد السيدة سكينة، اتجه رواد مقهى خليفة الى الهزل والضحك المباح، كان رئيس المجلس الفكاهي المعروف الشيخ حسن الآلاتي ، وفد الى مجلسه المتعلمون في الأزهر، بالإضافة إلى الوزراء وكبار الأعيان، كانوا يذهبون إلى المقهى متنكرين في غير أزيائهم الرسمية، غير أن عبد الله باشا فكري وزير المعارف وهو أديب بطبيعته، لم يتنكر فكان يحضر إلى المقهى مع رواده الأدباء والعلماء، من أمثال عبد الهادي الابياري وعلي مبارك الذي تحمل كثيرًا عند زيارته للمقهى بسبب أوضاعه الصحية.

أصدر العلامة السوري محمد كرد علي مذكرات عن حياته في عدة أجزاء، تخللها ذكر لندوات الأدب في مصر، كان شاهدًا على ندوتين منهما اقيمتا في مقهيين شهيرين ففي مقهى " مديتا " القريب من حديقة الأزبكية كان يطيب له أن يجلس مع من سماهم جماعة دار العلوم كل مساء في سهرة سمر، تواجد من هؤلاء أحمد السكندري ومحمد الخضري وعبد العزيز شاويش حفني ناصيف والمطرب محمد عبد المطلب وغيرهم.

وكان غالبية الحديث يدور حول عيون المسائل في الدراسات الأدبية واللغوية والتاريخية، وأن أي مقهى يحظى بهؤلاء لهو جامعة آهلة، ويعترف محمد كرد علي بأنه شعر بالأسف والندم لأنه أضطر للرحيل عن القاهرة، وغيابه عن مناهل المقاهي كما أسماها.

أما المقهى الثاني الذي تحدث عنه الأستاذ محمد كرد علي فهو مقهى السلام في شارع إبراهيم باشا، وكان يحفل كل مساء بأعضاء مجلة  "البعكوكة " الأدبية، وهي جماعة من إخوان الصفا، كان يرأسها الشهير وحيد بك الأيوبي، يساعده المحامي الأديب ادوارد قصيري، وتتألف جماعة المقهى من محامين وأطباء وأعضاء في مجلس النواب ورؤساء دواوين وصحفيين وكان يصل عدد الحضور إلى ثلاثين رجلًا، منهم البارع في أدبه، كان يتخلل الاجتماعات المرح والسمر والتنادر وتناقل الاخبار، كثيرًا ما كانت جماعة مقهى السلام تتجاوز حالات السمر والمرح الى فتح حوارات فكرية وأدبية.

في شارع محمد علي الصاعد الى قلعة صلاح الدين، كان مقهى الحلمية وهو نادٍ يجمع بين الأدب والسياسة، ارتاده الشاعر المعروف حافظ إبراهيم والمطرب محمد عبد المطلب وحسين شفيق وغيرهم، كانوا ينشدون الشعر ويروون الطرائف، وعندما هبت ثورة 1919 وأصبحت السياسة شغل الناس، تمت كتابة المنشورات السياسية المتوالية وقد صدرت هذه المنشورات من مقهى الحلمية.

كما تم تدبير الهجمات ضد قوات الاحتلال من داخل هذا المقهى، من قبل قيادات الثورة، وعندما عرف الانجليز بذلك قاموا باغلاقه، واعتقل صاحبه وتوفي من شدة التعذيب الذي تعرض له من قوات الاحتلال، فتح مقهى آخر قريبًا من مكان مقهى العلمية وسمي " حلمية 2" وقد ارتاده العديد من رموز الفكر والأدب والسياسة من بينهم زكي مبارك وأحمد الزين، عندما تمت مبايعة أحمد شوقي لإمارة الشعر انقسم رواد مقهى الحلمية 2 الى قسمين، قسم أيد المبايعة وتزعمه محمد عبد المطلب، وعارضه قسم آخر تزعمه محمد الهراوي.

وفي عواصم المحافظات ظهرت مقاهٍ كثيرة معروفة بروادها الأدباء، كان للأديب أحمد حسن الزيات مقهى بالمنصورة، وللرافعي مقهى في طنطا ولأحمد محرم مقهى في دمنهور والسلسلة طويلة.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب