كان لي هذا اللقاء مع الأستاذ الكاتب والأديب الرفيق مفيد صيداوي القادم من ربوع ورحاب قرية عرعرة الرابضة على صدر جبال الخطاف، وذلك بمناسبة احتفاله بعيد ميلاده السبعين، الذي يصادف في التاسع عشر من أيلول. ومفيد هو أحد الأسماء الإبداعية الطليعية والوجوه الأدبية المضيئة بكل ألق في فضاء ثقافتنا الوطنية التقدمية الفلسطينية المنحازة للجماهير وقضاياها اليومية والمصيرية، حيث انشغل منذ بواكير عمره بهوس الكتابة لإيمانه بها كرسالة حضارية وثورية هادفة وهامة وفاعلة في معارك الحضارة والتقدم والتغيير، ولإرساء قيم الخير والمحبة في نفوس وقلوب الناس، وإشعاع صور الفكر والجمال في عقولهم. وظل قابضًا على جمر المبادئ وقيم الشيوعية وأفكار الحزب التي آمن بها حتى النخاع، رغم الملاحقات والمضايقات السلطوية والزلازل والعواصف الفكرية العالمية، وفيًا بكل شغف لممارسة مجالاته الإبداعية في فن المقالة الأدبية والسياسية والصحفية والقراءات والمراجعات الأدبية النقدية والكتابات الشعرية والنثرية وأدب الاطفال.
بداية حدثنا عن الخطوط العامة لحياتك الأدبية وتجربتك الإبداعية؟
مفيد: أستطيع القول ان الهوايات والميول تبدأ لدى الإنسان منذ سنواته الأولى، والإنسان نفسه والأهل والمدرسة والمجتمع يساهمون في تطوير أو قبر هذه الهوايات والمواهب، ولذلك نستطيع أن نقرر أن آلاف المواهب قبرت أو تدفن لهذه الأسباب، والنموذج الذي أمامي كان دائمًا والدي الذي كان شبه أمي ولكن مداركه ووعيه وسلوكه العملي، كل ذلك كان ينم عن قدرة وموهبة لو رعيت في حينه لكان له شأن، علمي أو أدبي، وأنا ترعرعت في هذا البيت الذي فيه كان والدي الدينامو المحرك، وكان حرصه الأساسي على العلم والتعليم، وكان يقول لي ولإخوتي تعلموا وأنا معكم حتى لو اضطررت لبيع البيت والعيش في بيت شَعَر، وانعكس ذلك بتوفير كل ما يخدم التعليم لنا، مثلا تعرفت على مجلة الغد في الصف الخامس عن طريق والدي الذي اشترى المجلة من رفاق أم الفحم "لأن فيها ما يخدم الطلاب وأولاد المدارس .."، وذلك في أيام الحكم العسكري البغيض، واشتريت ديوان "أوراق الزيتون" لمحمود درويش من موزع الاتحاد لأنني قلت لوالدي "قال البائع أن هذا الكتاب مفيد لطلاب المدارس" ولذا أذن بشرائهِ، ومنذ أن وعيت أنا وإخوتي نسافر معه في كل عطلة إلى منطقة المركز "تل أبيب/ "رمات غان"، الشيخ مُوًنس.. وغيرها للعمل في الحدائق" نساعده ونتعلم الحياة، وكنت أتوقف منذ الصباح عند أكشاك الصحف فأشتري جريدة "لمتحيل -למתחיל" باللغة العبرية، وأبدأ في قراءتها، وهو راض عن ذلك، قائلًا: "عندما تنهي القراءة تبدأ بالعمل"؟ كان يتيح لي الفرصة، ولم أكن رياضيًا بعكس أخي الثاني وبقية إخوتي فكنت أستعيض عن ذلك بقراءة أشعار تعلمتها في المدرسة أو من المجلات التي كانت تتوفر لي أحيانًا بسبب عمل خالي سليمان وتوفيق في تل أبيب فكانا يحضران لي مجلة "المصور" وأحيانًا "الجديد"، وكنت أتفاعل مع قصائد أحمد الصافي النجفي وخاصة قصيدة "الأم المرضعة" التي تتحدث عن الفقر والعوز في العراق، وطبعًا بعد ذلك كانت تظهر الهوايات والمواهب في مواضيع الإنشاء، وأذكر ولا أنسى موضوع الإنشاء الذي كتبته في الصف الحادي عشر للمرحوم المربي درويش الخطيب في مدرسة الطيرة الثانوية، والذي وضع لي علامة جيد جدًا بسبب خطأ إملائي بكلمة "لئلا" حيث كتبت الهمزة على ألف بدلًا من الكرسي، فقد أثنى أمام الطلاب على الموضوع وأشار إلى الخطأ وقال انه لا يقبل خطأ من هذا النوع من طالب مثلي، وكما ترى لم ولن أنسى الحدث طيلة حياتي وأعتقد أن معلمي أصاب هدفه.
وخلال الدراسة الثانوية في الطيبة والطيرة بدأت أكتب للصحف عنواني للمراسلة وأحيانًا خواطر.. الخ، ولا أنسى ما كتبته على الصفحة الثانية من مجلة الغد، باسم شاب عربي (اسم مستعار بسبب ما مارسه الحكم العسكري على كل من يكتب في صحافة الحزب الشيوعي، وأذكر أنني سلمت الرسالة لأخي إسماعيل (محمد) الذي كان يتعلم في تلك الفترة في مدرسة الناصرة الثانوية البلدية (الجليل اليوم)، لئلا يعرف الوسواس الخناس بذلك. وطبعًا تابعت وأذكر أن الإذاعي والصحفي يوسف إسماعيل كان يحرر صفحة الفن في جريدة الأنباء الحكومية في ذلك الوقت ولكنه عرض قضية شاب عربي على الحدود اللبنانية وسأل القراء هل يغادر إلى لبنان أم يبقى في وطنه وانتصرت لبقائه في وطنه مع تعليل ذلك بأهمية الوطن، فاختار المحرر نصي كنموذج للحلول الصحيحة ونشر مقاطع منه باسم "ابن الخطّاف"، وإذا بأحد الشباب من بلدي يَدَّعي مفاخرًا أمام الجميع أن أخاه هو الكاتب وأنه هو ابن الخطاف، عزَّ علي ذلك جدًا ، وقمت حالًا بتوضيح الموضوع أنني صاحب الرد وعرضت على الحضور ردي من خلال النسخة التي احتفظت بها على ورقة الحبر التي كنا نسميها "السرّاقة" لأنها تسرق النص من أصله وتضعه على ورقة ثانية. وهكذا استمريت بالكتابة والنشاط الثقافي والسياسي.
هل أنت راضٍ عن نفسك من النواحي الأدبية والحزبيّة والفكريّة؟
مفيد: ما دام الإنسان يعيش ويعمل ويتفاعل مع الحياة والأحداث فلا يمكن أن يكون راضيًا بشكل مطلق، فدائمًا بعد أن تعمل أي عمل تقول لو فعلت كذا لو عدلت كذا وسيكون الأمر كذلك في مقابلتك هذه معي، ولكن بشكل عام أنا متصالح مع نفسي ومع نشاطي، أسلوب حياتي، ومقتنع أن الظروف ومكان الحياة والنشاط وتطور الإنسان كل هذا يفرض نفسه على حياتنا وعلى إبداعنا ونشاطاتنا، والإنسان ابن بيئتهِ.
في أي الألوان الأدبية تجد نفسك أكثر، في المقالة أم الخاطرة أو الشِّعر؟
مفيد: في الواقع أجد نفسي في اللون الذي أكتبه حين الكتابة، الظرف والواقع والأجواء النفسية والروحية هي التي تفرض نفسها على النص وعلى نوعية النص، ففي المقالة السياسية أنت تحتاج للرد المقنع والصحيح والمؤثر على القارئ، في الشعر أنت أمام عاصفة عاطفية من الحب والثورية والغضب أو فرح تتنفسه بقصيدة أو بنوع من الشعر، بينما القصة القصيرة، وقد كتبت قصصًا قصيرة ونشرت، أنت تحتاج لنفس أوسع ولمسافة ولتفكير، الشعر شعور وهّاج يأتي عنيفًا أحيانًا بكلماته في الحب والغزل والثورة، وطبعا الرواية بحاجة لمساحة ونفس أوسع.
متى تكتب؟ وتحت أي الظروف؟
مفيد: الكتابة ابنة وقتها... فمثلًا أجيب على هذا الأسئلة بعد مدة.. والآن الساعة العاشرة صباحًا في هذه اللحظة توفرت الظروف النفسية والبيئية للرد، وهكذا أي نص يحتاج لفترة مخاض ليلد وليصبح نصًا من أي نوع كان، هذه الفترة تمامًا كمخاض المرأة عند الميلاد، تنتظر، يشتد الألم ولكن توقيت الميلاد أنت تجهله بشكل عام، وبعد ميلاد النص أنت بحاجة لرعايته، مراجعته من الهنات، أنا أعير أهمية للعمل الجماعي فكثيرًا ما أستشير بعض معارفي وحتى أهل بيتي، وأقرأ النص وأحيانًا أحصل على ملاحظات جيدة تضيف للنص، وكذلك أثناء القراءة الأولى والثانية أنتبه لبعض نقاط الضعف أنا بنفسي أصحح وأنقح .. ولكن في عصرنا لا يمكن وأد القصيدة حولًا أو ما شابه فوسائل الاتصال تغريك بالعجلة.
أنت عاشق للأرض والوطن والجمال والمحبة والإنسانيّة، كيف يتجلى ذلك في كتاباتك الشعرية والنثرية التي تكثفت بشكل أوسع في العام الأخير؟
مفيد: موضوع النص الأدبي يفرضه الواقع أولًا والثقافة والفكر، ولذلك نحن بسبب هجرة شعبنا ونكبته تربينا على حب الوطن والبقاء ورؤية جمال الوطن، سواء في البيت عن طريق الوالدين، كان والدي يقول: "اقترحوا علي مغادرة البلد سنة 1948م، ولكنني رفضت، لأن ذرة تراب من عرعرة تسوى الدنيا بكاملها"، هذا الرجل شبه الأمي كان يقول لنا ذلك بدون فلسفات ولا أيديولوجيا تعلمها، بل تجاربه ومفاهيمه فرضت ذلك، ومن ثم أدب المقاومة، فأنا تربيت كشاب على زاوية "أعتقد أن" لسميح القاسم في مجلة "هذا العالم" والتي أحتفظ بنسخها وبمقالاته حتى الآن، وكذلك أشعار محمود درويش وتوفيق زياد وسالم جبران، وأدب إميل حبيبي وكتابات د. إميل توما الفكرية والتاريخية، وفكر حزبنا الشيوعي الذي رفض تاريخيًا مغادرة الوطن ، ولذلك من الطبيعي أن تكون هذه الأفكار بجماليتها جزءًا من عدتي وعتادي للكتابة إلى جانب حياتي الشخصية وتجاربي الحياتية وتجوالي في وطني وغيره ومعاركة الحياة بحلوها ومرها، كل هذه مؤثرات على النصوص والكتابة، وطبعًا تجلت بأشكال مختلفة فنية ومباشرة أحيانًا. تكثيف الشعر في الآونة الأخيرة هو تحصيل حاصل هذه السنوات من العمل في المدارس والمعاهد ونوادي الحزب حيث استمعت لمحاضرات وألقيت محاضرات، وقد علمت خلال ما يقرب من الخمسين عامًا الصفوف، من الصف الأول حتى دور المعلمين والكليات بكل إخلاص ومحاولات المساهمة في خلق جيل يهمه مجتمعه وأهل بلده، قادر على العطاء، والتعليم الأكاديمي فأنا تعلمت في " الأكاديميا " خلال كل حياتي وأنا أعمل وأنشط سياسيًا، الكثير من الناس والرفاق كانوا يعتقدون أنني محترف حزبي وهذا غير صحيح بحياتي لم أحترف حزبيًا، وكل ما كنت أفعله وما زلت دافعه هو الوعي لأهمية دور الإنسان في مجتمعه، وبين أبناء شعبه، كلّ هذا لا يمكن أن يكون بدون بيت داعم ومخلص وأبناء متفهمين وبيئة محترمة وواثقة بدورك وبك، هذا النشاط كنت أحس أن أهل بلدي يحترموه وزملائي في العمل حتى من اختلفت معهم، ورفاقي، وكما أن التعليم رسالة كما اعتقد فإن الكتابة رسالة أيضًا.
هل برأيك كتابة الشعر، استثنائية أم حالة انفعاليّة أو نافذة يطل بها الشّاعر على عالمه الخفي؟
مفيد: كتابة الشعر حالة توهج وتوقد عاطفي لدى الشاعر، والشاعر الذي لا يكتب شعره على أنواعه المختلفة وأدواته المختلفة بدون شعور لا يكون شاعرًا، والعرب ميزت بين الشاعر الذي يكتب من خلال شعور ومشاعر صادقة وبين الناظم الذي يكتب شعرًا موزونًا ومقفى ولغة صحيحة ولكن بدون روح شعرية ونعود أي بدون مشاعر، هذا ينطبق على كل أنواع الشعر القديم والحر والنثر الشعري أو الشعر المنثور، وحتى الموشحات والرباعيات، فالشعر يختلف عن غيره بحاجته وأساسه الشعور الصادق بالحب والعمل والتغيير وكل موضوع يطرقه. وتوقيته هو الانفعال، وقد يطل الشاعر من خلاله على عالمه الداخلي الشخصي وقد يطل من خلال تجاربه وقراءاته على عوالم الآخرين بإطارها العام، فعندما تقرأ "البدايات" ليعقوب زيادين، أو "دفاتر فلسطينية" لمعين بسيسو إلى جانب أعماله الكاملة، و"إنها مجرد منفضة" لسميح القاسم إلى جانب أعماله الأدبية ولغيرهم، فهذه نوافذ تطلّ بها على عوالمهم، وبدون شك أن هذا يثري عالمك، أو الآثار الشعرية لشكيب جهشان أوالشوقيات لأحمد شوقي والمعلقات، كلّ هذه القراءات وغيرها ثروة فكرية تؤثر على وعيك وتوجهك وعلى قاموسك الأدبي والفكري.
كيف ترى واقع المرأة العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص، وما مدى حضورها في كتاباتك، وما رأيك بالأدب الذي تنتجه وتكتبه؟ وهل تؤمن بنسوية الأدب؟
مفيد: واقع المرأة ذو اتجاهين واضحين الأول هو هذا النشاط التعليمي، ونحن منذ سنوات نشهد تطورًا وتوسعًا في تعليم المرأة الثانوي والجامعي، بل وهناك جامعيات رائدات في مجالاتهن، وهناك ضرورة ملحة لتوظيف كل هذا اجتماعيًا وسياسيًا فبدون ذلك تبقى الفائدة منقوصة، ولن تؤتي أكلها لشعبنا، وهناك محاولات شد الخيط للأسفل لجعل المرأة عورة ومنعها من تحقيق التقدم لها ولمجتمعها، وهناك محاولات الابتذال للمرأة وجعلها سلعة، وغير مسيسة وغير مهتمة بمجتمعها، لدينا تقاليد رائعة خاصة في مجتمعنا الفلسطيني، من التعاون بين الرجل والمرأة لمصلحة المجتمع وللنضال السياسي والثقافي والأدبي، والأدب الذي تكتبه بناتنا وأخواتنا بشكل عام هو أدب مسؤول يعالج قضايا شعبنا وأهلنا، وأنا لا أحب أدب الموضات بمعنى أن الأديب أو الأديبة يلزم نفسه بكتابة نوع أدبي هذه الأيام موضته ولذلك يتوقع له الانتشار، الأدب النابع من حقيقة الكاتب أو الشاعر هو الأبقى.
في كتاباتي المرأة حاضرة بكل وزنها، لم أخطط لتكون المرأة كذلك بل فكري وواقعنا وحياتنا فرضت هذا الواقع، وأنا سعيد بذلك فهي موجودة في القصة القصيرة لدي قصة نشرتها الاتحاد بعنوان "المديرة"، وفي الشعر والكتابات النثرية، فهي الأم والزوجة والابنة والصديقة، والعاشقة، والجميلة والمناضلة، وقد حررت زاوية في جريدة الاتحاد للرفع من شأن المرأة بشكل لطيف من خلال الكتابة أحيانًا وأحيانًا أخرى من خلال نصوص عربية تبرز وتبيّن دور المرأة سميتها "حديث الخميس عن أنفس النفيس" نشرتها كل يوم خميس عندما كانت الاتحاد تصدر يوميًا، وهذه المادة تستحق أن تكون في كتاب لتوثيقها وقراءتها بين فترة وأخرى. الأدب هو الأدب قد تكتبه امرأة أو يكتبه رجل وكل يعبر إما عن تجاربه او ثقافته وربما تعبر كاتبة عن مشاعر امرأة لا يستطيع الرجل التعبير عنها والعكس هو صحيح أيضًا ولكن الأدب في النهاية هو الأدب وروح هذا الأدب.
هل هذا زمن الشعر أم زمن الرواية بنظرك؟
مفيد: نحن نشهد في الآونة الأخيرة مساحة أوسع من الكتابات الروائية، وفي مجتمعنا العربي الفلسطيني في البلاد، هذا تطور طبيعي، فالشعر كان الأكثر حضورًا في أيام الحكم العسكري وربما حتى الثمانينات، ثم أتت بحضور بارز القصة القصيرة، ومن الأسماء البارزة في هذا المجال محمد علي طه وزكي درويش وحسين مهنا وغيرهم، والآن ومنذ "المتشائل" تزداد الروايات على أنواعها وهي في ازدياد كما أشعر، - لم أدرس الموضوع علميا – الرواية في العالم العربي أيضًا، أشير هنا في هذا المجال لدور الكاتب والأديب الرفيق محمد نفّاع في إنجازاته غير المسبوقة في مجال الرواية وما زال يعطي وطبعًا غيره من الزملاء والزميلات في هذا المجال الذي نقتحمه بثبات يحتاج لدراسات جامعية وإشارات للجوانب السلبية والايجابية.
كيف ترى الوضع الأدبي والثقافي الراهن، ومستقبل الحركة الأدبية في البلاد؟
مفيد: بطبيعتي أنا متفائل، والثقافة تتجاذب السياسة أو السياسة جزء من الثقافة، ولذا لدينا أدب نعتز به وكما هناك خوف دائم على مستقبل شعبنا، هناك خوف على مستقبل أدبنا. البعض يريد جره إلى مصاف الحرام والحلال، وعندما تضع للأدب حدودًا يبتعد عن كونه أدبًا، والبعض يجرنا إلى العدمية القومية والطبقية والجمالية وخاصة جمال هذا الوطن الذي يجب أن نغرسه في نفوس أبنائنا كما غرسه من قبلنا. ولنا مستقبل كجزء حي وفاعل من الأدب الفلسطيني وكذلك من المناخ الأدبي في البلاد، وكذلك في الأدب العالمي، وهذا واقع وليس مبالغة، محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وإميل حبيبي وغيرهم ترجموا إلى أكثر من لغة، وهذا فخر لنا بحاجة لتطوير أدواتنا ولفت انتباه الآخرين لأدبنا بشتى السبل المتاحة.
ما رأيك بالنقد المحلي؟ ومن يعجبك من نقّاد الأدب؟ وهل أنصفك النقد والنقّاد؟
مفيد: لدينا نقد ونقد أكاديمي ونقاد يشار لهم بالبنان نعتز بهم، وكما قلت لك أنا متفائل، فالنقد أيضًا بحاجة لتطوير وبحاجة أن نأخذ من الآخرين تكوين جمعيات أو أطر للنقاد بحيث يجلسون معا يناقشون قضية نقدية معينة، يثري بعضهم بعضًا، ومن النقاد الذين في ذهني الآن: د. بطرس دلة شيخ النقاد والذي ما أن يصله كتاب حتى يدلي بدلوه ويكتب عنه كتابة الأب الحنون، والناقد د. نبيه القاسم (أبو فريد)، الذي أثبت مصداقيته من خلال متابعاته للأدب بشكل عام وأدب وشعر سميح القاسم بشكل خاص، والناقد الأكاديمي البروفسور محمود غنايم، والبروفسور إبراهيم طه، والمرحوم البروفسور فاروق مواسي الذي كان له كتابات نقدية ولكنه لم يتركز بالنقد، وهناك جيل جديد من الأكاديميين يكتب نقدًا أكاديميًا حول نظريات معينة وهناك المراجعات الأدبية والقراءات الأدبية كما تكتب حضرتك ود. يوسف بشارة مؤخرًا ومحمد علي سعيد وأحيانا أنا اكتب هذا النوع من النقد السريع الذي يعرف بالكتاب والكاتب ويقدم بعض الملاحظات النقدية التي تهم عادة القارئ العادي، ألا أبكي النقد وكأنه لا يوجد العكس النقد موجود وسيبقى ما بقيت الكتابة الإبداعية ولكن دائما يجب البحث عن وسائل العمق والتطوير.
ماهي رسالة مجلة الإصلاح الثقافية الشهرية التي تصدرها منذ سنوات طويلة؟ وهل أنت راض عن مستواها؟
مفيد: بدأت الإصلاح صدورها كنشرة للثقافة والأدب والتوعية والإصلاح في عرعرة في 31-آذار 1971م، بادرت لإصدارها مع مجموعة من شباب القرية الغيور على بلده بهدف خلق نقاش وحوار محليين راقيين حول مجمل القضايا الاجتماعية وأعمارنا في ذلك الوقت بين (19 سنة وأكبرنا المرحوم الأستاذ فوزي محاميد 26 سنة)، ورغم اشتراك العديد من أبناء بلدنا بدعم المجلة ماديا وكتابيًا، إلاّ أن هيئة التحرير الفاعلة تكونت مني ومن جهاد عقل (النقابي الجبهوي المعروف)، ويوسف جمّال ( كاتب القصة وما زال محررًا في المجلة)، والمرحومين: فوزي محاميد (معلم)، محمد أحمد عيسى (عامل وخريج الأرثوذكسية)، وعبد المنعم يوسف مصاروة، تعلم في إيطاليا وتوفي هناك. هذه الكوكبة الأساسية هي مجموعة عمال وموظفين تنتمي طبقيًا للكادحين والعمال في عرعرة، فمعظم أهلنا كادحين بالتعبير العلمي للكلمة، وهم ممن لا يملكون سوى البيت أو قطعة الأرض التي يعيشون عليها، هذا هو الواقع الموضوعي لهيئة التحرير مع أن المجلة كما أسلفت استقطبت جماهير واسعة من حياة القرية في شعاراتها الأساسية، وفي هذه الفترة لم يكن في عارة وعرعرة فرعًا منظمًا لا للحزب ولا للشبيبة الشيوعية، بل كانت البلدة مقسومة بين أحزاب العمل ومبام الصهيونية وأحزاب اليمين الصهيونية أيضًا. وأردنا أن نساهم بتواضع في رفع الحياة الروحية لأهلنا وأن نرد لهم بعض الجميل، طبعنا المجلة على آلة الستانسل وجلسنا معًا لترتيب أوراقها ثم طبعنا الغلاف فقط على ورق "برستول" في مطبعة ابن خلدون في طولكرم، ووزعناها مجانًا ومقابل تبرع من الأهل لمن رغب لنصدر العدد المقبل، ومن العدد الأول كانت في حوزتنا رخصة من وزارة الداخلية واخترنا المحامي الشاب في ذلك الوقت محمد مصاروة مستشارًا قضائيًا مجانيًا لنا، وأرسلنا المجلة للصحافة المحلية ومنها الاتحاد والنواب العرب في الكنيست بينهم توفيق طوبي وإميل حبيبي، فبدأت الصحف تتناول المجلة بالتقريظ والاقتباس وبينها الاتحاد، ونحن بدورنا ننشر ما كتبته الصحف عن مجلتنا، وربما لم تطق السلطة هذا النشاط، ولذا بدأت تنشر الاشاعات حول نشاطنا. وإذ بهم يستدعونني وجهاد عقل (كان موظفًا في البنك في حينه)، وطلبنا من المحامي مرافقتنا لمركز التحقيق بالخضيرة للمثول أمام محقق كان اسمه (سكولوفيتش)، ودار حديثه معنا حول ما تكتبه الاتحاد عنا وحول نشرنا لما تكتبه، وعن عملنا كيف نلائم بين عملنا كمعلم (أنا)، وكموظف بنك (جهاد)، رفضنا التهم الموجهة أمام المحامي وأكدنا على دورنا في خدمة أهلنا ثقافيًا، ومرت الإصلاح أمام الإصرار على صدورها بمراحل مختلفة، منها إصدارها بورقة واحدة صفحتين لنؤكد استمراريتها، واليوم كما ترى تصدر بانتظام بـ52 صفحة وبغلاف مصقول و بعمل تطوعي كامل ونحن نأمل أن نصل إلى إمكانية تمويل طاقم عمل. بالنسبة للمستوى دائما نطمح للأفضل فنيا وموادًا ولكن كما يقول مثلنا الشعبي: "الجود من الموجود"، كل اشتراك جديد واستمرار القديم هو دعم للمجلة، اعتز أن الرفيق المرحوم توفيق طوبي احتفظ بمكتبه باللجنة المركزية للحزب بأعداد المجلة حتى أنهى عمله فاستدعاني وأعطاني الأعداد قائلًا: "حافظت لك على الأمانة وها أنا أردها لك"، كادت عيني أن تدمع وأنا اشكره على محافظته ومثابرته.
ما رأيك بحركة النشر في بلادنا؟ وما دور الاتحاد العام للأدباء الفلسطينيين الكرمل 48 الذي تنتمي إليهِ في نشر الكتاب المحلي وفي الحراك الثقافي العام؟
مفيد: حركة النشر هي تحصيل للتمييز العنصري من قبل الوزارات المختلفة وخاصة وزارة الثقافة، التي لا تمنح لدور النشر وخاصة الوطنية إمكانيات التطور والبقاء وأنت تدري عن نسبة الثقافة العربية من ميزانية وزارة الثقافة، الاتحاد العام للأدباء الفلسطينيين هو اتحاد شعبي وليس مؤسسة حكومية ولذا يصيبه ما يصيب شعبه لا يوجد لدى الاتحاد حتى الآن إمكانيات نشر كتب ولا حتى لأعضائه، وهو يصدر مجلة "شذى الكرمل" كمجلة فصلية ناجحة، أما الحراك الثقافي العام فلا شك أنه بدأ يشكل رافدًا هامًا في حياتنا الثقافية، وقد أقمنا لأول مرة في تاريخ الاتحاد يومين دراسيين حول مواضيع أدبية تشغلنا ولولا وجود بلديات بقيادات واعية مثل بلدية عرابة البطوف لما استطعنا إقامة اليومين الدراسيين بمثل هذا النجاح، وفي قابل الأيام سيعمل الاتحاد على إقامة نشاطات أخرى.
ماهي إنجازاتك والكتب التي صدرت لك حتى الآن، وما هي مشاريعك الأدبية في المستقبل المنظور؟
مفيد: في كل شهر أهتم أولًا بالتأكد من أن عدد الإصلاح سيصدر، أي عددها الجديد ماليًا (في ظروف الكورونا يزداد الأمر صعوبة)، ومن ناحية المواد والواقع أن هذا الجانب متوفر بفضل أعضاء هيئة التحرير والقراء والأدباء. بالنسبة لي لدي مشاريع كتابية أنجزت كتابتها منذ مدة والوضع المالي هو المعيق وأصدرت أربعة كتب في أدب الأطفال، وترجمتين أيضًا في أدب الأطفال، وكذلك كتاب تعليمي "بلدتي عرعرة"، وكتاب في المقال السياسي والاجتماعي "كتابة على جدار الجامعة" وكتاب من عارة وعرعرة ريشتي، أهديته لجميع خريجي الصفوف الثانية عشرة المتخرجين عام 2017م مجانًا، وهو أيضا تاريخ تقاعدي من المدرسة الثانوية وكلية أورنيم بعد 48 سنة من العمل بين الطلاب ومعهم ولهم، وستة كتب ذاكرة من الزمان، مقابلات مع أهلنا في عدة قرى في منطقة المثلث وكتاب عن يوم الأرض الأول ورسائل إلى ولدي وثورة عبد الرحمن بن الأشعث، وهو عبارة عن دراسة تاريخية. لدي مجموعة قصصية وكذلك قصائد شعرية وأبحاث آمل أن أستطيع إنجازها وتقديمها لأهلنا لخدمتهم ومحبة لهم.
لديك دار الأماني للنشر والطباعة والتوزيع، فهل لك أن تحدث القراء عن إنجازاتها وإصداراتها؟ وكيف ترى الوضع القرائي في أيّامنا؟
مفيد: في الحقيقة أنشأت دار الأماني التي تحتفل هذا العام بمرور 25 عامًا على تأسيسها كحماية قانونية لمجلة الإصلاح التي أصبحت تصدر عن دار الأماني بشكل رسمي وتقدم الحسابات الرسمية للمؤسسات المخولة لذلك، ثانيًا لدينا أفق دعم الأدباء بقدر الممكن وبالتعاون معهم ولذا أصدرنا أول كتاب للأطفال "وفي المساء نامت الشمسان" لي، وأصدرنا أكثر من كتاب للدكتور محمد حبيب الله بالتعاون معه وكذلك للكاتب وجيه عيسى كبها وسعيد نفاع الذي أصدرنا كتابه على حسابنا أثناء سجنه، والشاعر محمود ريان وعمر سعدي وغيرهم، وضع القراءة في الوسط العربي يؤسف له، ونحن بحاجة لتغيير أولوياتنا ... فالقراءة أولًا ... اقرأ أولًا ... هذا يؤدي لوحدتنا لعزتنا لابتعادنا عن العنف، ويؤدي للتطور الإيجابي في كلّ المجالات.
ما هي الكلمة الأخيرة التي توجهها للقراء الأعزاء؟
مفيد: التفاؤل التفاؤل والتفاؤل "كن جميلًا ترى الوجود جميلًا" كما قال إيليا أبو ماضي. النضال الشعبي المدروس والوحدة النضالية، والقراءة... القراءة ... ثم القراءة. لم نصل إلى ما وصلنا إليه بدون القراءة وبدون حماية مؤسساتنا الثقافية من مجلات ودور نشر ومواقع الكترونية وطنية وواعية، والعلم أساس الحضارة ولنا تاريخ علمي وثقافي نستند إليه، ومستقبل واعد نصبو إليه رغم غيوم الظلام، فالمستقبل للشعوب، ومعا دائمًا نستطيع. أشكرك وأشكر صحيفتنا الاتحاد ومحرريها على هذه الاستضافة، وأذكرهم أنني ما زلت أنهض صباحًا كل ثلاثاء وجمعة أقرأ الاتحاد وأعتز أنني اوزعها لمعارفي ومن ألتقيه في الشارع. وقد كان لموزع الجريدة مكانة رفيعة في الحزب، وآمل أن تعود جريدتنا يومية.