الماركسية كنظرية فلسفية متكاملة مترابطة، شاملة، نظرية علمية عن الكون والمجتمع، علم التحليل الإجتماعي، والتطور التاريخي للمجتمع الإنساني، والتي لا تكتفي بتفسير الواقع الإنساني بل تحمل مفاتيح العمل السياسي الجماهيري لتغييرهذا الواقع.
عدم فهم الماركسية وخاصة التمييز بين مكوناتها وأصولها وجدليتها وتفاصيلها الدقيقة ومستوياتها المركبة وترابطها كفكر متكامل أدى إلى تشويه موقف الماركسية من المسألة الدينية، وفي هذا المجال إتفق المعادون للماركسية باسم الدين مع أصحاب النظرة الدوغوماتية من المنتسبين إلى الماركسية. فكلاهما لديهم فهم واحد للموقف الماركسي من هذه المسألة ويتمثل في ترديدهم لمقولة ماركس "الدين أفيون الشعوب" ولكن لا يمكن أن تمثل جملة واحدة كامل الموقف الماركسي من الدين كأحد مركبات البناء الفوقي للمجتمع بالإضافة إلى المركبات الاخرى كالثقافة، والفن والأدب والوعي الإجتماعي العام.
فإذا أخذنا الدين على أساس مستواه العقيدي، أي المستوى الفلسفي، نجد بأن الدين هو شكل أولي مثالي من أشكال الفلسفة. يقول في ذلك غرامشي "الدين هو فلسفة طفولة البشرية" ويقول ماركس: "إنك إذا حولت الدين إلى نظرية في الحقوق العامة، ستجعل الدين نفسه ضربا من الفلسفة". (كارل ماركس – إفتتاحية العدد 179 من صحيفة كولونيا ضمن كتاب "حول الدين").
أما إذا أخذنا الدين على مستوى السياسة، نجد بأن الدين يقوم بدور متفاوت الأهمية في تنظيم العلاقات الإجتماعية لأن الدين ليس فقط مجموعة من المعتقدات والممارسات الطقوسية والثقافية، ولكنـّه أيضا مؤسسة إجتماعية وتنظيم لمجموعات بشرية في هذا المجتمع أو ذاك. وتأثير الدين السياسي والاقتصادي والثقافي أيضا يختلف من مجتمع إلى آخر.
ومع أنّ الدين يعود إلى نفس الجذور التي يعود اليها العلم وهي البحث عن تفسير الظواهر الإجتماعية والطبيعة، ولكن في حين يقوم العلم على العقل والتجرية والممارسة يقوم الدين على التسليم والايمان المطلق.
لذلك فالدين والعلم ينتميان إلى نسقين وفلسفتين متباينتين.
فالماركسية فلسفة مادية تفسر الكون تفسيرا علميا، وهي في ذلك تشترك مع الفلسفات المادية في التاريخ منذ الإغريق مرورا بابن رشد وابن طفيل وغيرهما من الفلاسفة الإسلاميين وصولا إلى فلاسفة عصر التنوير- عصر البرجوازية في أوروبا.
ومن هذه الزاوية الفلسفية فإن التفسير الديني للكون يختلف بل يتناقض مع التفسير الماركسي تناقضه مع التفسير المادي إجمالا، ومنذ أقدم العصور .. ولا نرى سببا لتخصيص الماركسية في هذا المجال بالتناقض مع الدين دون غيرها من الفلسفات المادية، خاصة وأن الفلسفة الماركسية على عكس الفلسفات المادية لعصر التنوير، لم تجعل هدفها الأساسي تفسير الطبيعة وهو مجال المواجهة التقليدي بين الفلسفة والدين. وإنما تجاوزته إلى تفسير المجتمع والعمل على تغييره وقد قال ماركس ناقدا الفلسفة الكلاسيكسة: "لم يفعل الفلاسفة سوى تأويل العالم بطرق مختلفة، والشيء المهم الآن هو تغييره" (ماركس المرجع السابق).
ويشير لينين إلى هذه الخاصية التي ميزت الماركسية عن غيرها من الفلسفات المادية بقوله: "لقد عمّق ماركس المادية الفلسفية وطورها حتى إنتهى بها إلى غايتها المنطقية (أي المادية التاريخية). ووسعها من معرفة الطبيعة إلى معرفة المجتمع البشري (لينين – الأعمال المختارة).
فنقد الدين ليس بدعة ماركسية ولكنه عنصر أساسي في كل الفلسفات المادية الكلاسيكية قبل ماركس، وهذه الفلسفة أي المادية كانت دعامة جوهرية للفكر البرجوازي الصاعد في عصر التنوير في حربه مع الإقطاعية الذي أعتبر الدين من أهم دعائم وتحالف السلطة والطبقة الاقطاعية والكنيسة.
وأكثر الفلاسفة نقدا للدين كان "فويرباخ" وخاصة في كتابه "جوهر المسيحية".
وكان لهذا الكتاب تأثير كبير على الشباب الهيغليين ومن بينهم الشاب ماركس. وقد أكد إنجلز أن ماركس في كتابه "العائلة المقدسة" كان شديد التأثر بـ "فويرباخ"، رغم كل التحفظات التي أبداها ماركس.
ويذكر "إنجلز" في نفس المصدر (إنجلز – لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ص 18)، أنـّه هو نفسه كان من المتحمسين لما أعلنه "فويرباخ" منتقدا الفلسفة المثالية لهيغل من أنّ "الطبيعة توجد مستقلة عن كل فلسفة وهي الأساس الذي نمونا عليه ونحن الناس نتاجها أيضا، وخارج الطبيعة والإنسان لا يوجد شيء، اما الكائنات العلوية التي ولدت في مخيلتنا الدينية فليست سوى إنعكاس خيالي لوجودنا نحن .."
ولكن فترة إنبهار الشباب لفويرباخ عند إنجلز وماركس زال بعد ذلك وحل محله النقد.
فماركس لاحقا كان يرى أن الاستلاب الديني هو ذاته نتيجة لإستلاب آخر أعمق هو إستلاب العلاقات الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي، ولذلك يجب البحث عن أصل الداء في موضعه الأصلي أي المجتمع لا في الدين وعلى خلاف فويرباخ لا يربط ماركس وإنجلز بين الدين والجوهر الإنساني وإنما يجعلانه نتاجا من نتاجات المجتمع إذ أن إنتاج الأفكار والثقافة والفن والدين والوعي يرتبطان قبل كل شيء وبصورة مباشرة بنشاط البشر الاقتصادي المادي.
لذلك علينا ان نفسر الفكر وكل المنتجات النظرية وأشكال الوعي بما في ذلك الدين والفلسفة، وهذا كله يكون البناء الفوقي للمجتمع ومن زاوية الممارسة المادية للمجتمع أي من زاوية البناء التحتي الاقتصادي للتشكيلة الإجتماعية. وقد جاء في البيان الشيوعي "بأن تاريخ الأفكار يبرهن على أن الإنتاج الذهني يتغير مع تغير الإنتاج المادي، وان الأفكار المهيمنة في أي عصر إنما هي أفكار الطبقة السائدة المسيطرة المهيمنة".
ولذلك فرق ماركس بين الفلسفات التي تكتفي بالبحث عن تفسير مثالي للكون ومن ضمنها فلسفة "فويرباخ"، وبين الفلسفة التي تخدم التاريخ وتتبنى نهج الفلسفة المادية الجدلية التاريخية، واعتبر ان مهمة الفلسفة المادية التاريخية، بعد فضح الشكل المقدس للإستلاب الذاتي للإنسان، (أي الاستلاب الديني)، إزالة القناع عن الاستلاب الذاتي في أشكاله غير المقدسة، (أي الاستلاب ومن خلال العلاقات الاقتصادية) وبذلك يتحول نقد السماء إلى نقد الأرض والمجتمع ونقد الدين إلى الحقوق ونقد اللاهوت إلى نقد السياسة.
فالفكر البرجوازي الذي حارب الدين كايديولوجيا للإقطاع، أحل محله أي محل الدين، أشكالا أخرى من مركبات البناء الفوقي للمجتمع مثل الحقوق والأخلاق والتي أقامت عليها الطبقة المسيطرة السائدة الجديدة أي الطبقة البرجوازية، من خلال جهازها القمعي الإضطهادي الإستغلالي الأيديولوجي.
وبهذا الطرح حول ماركس مفهوم إستلاب الإنسان من مجال الدين كما عند "فويرباخ" إلى مجال المجتمع والإقتصاد والنشاط المادي للبشر.
وقد كتب ماركس في مخطوطات 1884 موضحا المفهوم الجديد الذي يعطيه للإستلاب في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية، بعيدا عن المفهوم الديني، فكتب: "لما أفضى العامل من ذاته على عمله ازداد غربة عن العالم الموضوعي الذي يخلقه في مواجهته، والذي يصبح اكثر فأكثر قوة. وكلما ازداد العامل ذاته فقرا ازداد فقر عالمه الباطني، كما هو الشأن في الدين حيث كلما ازداد ما يضفيه الإنسان من ذاته على الله، إفتقر هو نفسه الى كل ذلك". (ماركس كتاب الفلسفة والدين ص 211).
وهكذا خرج ماركس بالفلسفة من ميدان التناطح مع اللاهوت إلى ميدان العملية التاريخية الجدلية، ولم تعد الفلسفة مع ماركس تبحث عن وجود الله او عدم وجوده، وإنما أصبحت تبحث عن تفسير للمجتمع أي انها نزلت من السماء إلى الأرض من اجل ان تبني مملكة الحرية ليس في السماء بل على الأرض.
فالماركسية لا تعتبر الدين العامل المحدد في التغيير الإجتماعي، بل نمو وسائل الإنتاج والتطور في البناء التحتي للتشكيلة الإجتماعية والذي يُغير ويؤثر ويطور البناء الفوقي للمجتمع بكل مركباته الثقافية والفنية، والوعي الجماعي والدين كأحد مركبات البناء الفوقي للمجتمع.
وهذا ما يفسر ضألة ما كتبه ماركس وإنجلز عن الدين، بالقياس إلى ضخامة إنتاجهما.
فالماركسية، رغم تعارضها فلسفيا مع الدين، لم تجعل منه هدفا أساسيا لنقدها بل رأت فيه نتيجة لعوامل اخرى إجتماعية خصتها بالتحليل.
ومن الغريب أن الطبقة البرجوازية التي حاربت الدين عندما كانت تحارب الإقطاعية، تتخفى هذه البرجوازية كطبقة مسيطرة اليوم في محاربتها الماركسية بأقنعة دينية ، وكأنها هي حامي حمى الدين.
فالماركسية نظرية علمية لتحليل الواقع الإجتماعي على أساس علمي والعلم لم يتطور إلا عندما كان الدين يعلق مع المعطف على المشجب كما قال "باستور" والعلوم تتطور دوما بمقدار إستقلالها عن الدين. وذلك ما لاحظه ماركس قائلا: "لقد اعلن فرنسيس بيكن" ان الفيزياء اللاهوتية كانت عذراء منذورة لله، وعاقرا، فلما حررت الفيزياء من اللاهوت صارت مخصبه" (ماركس – إفتتاحية العدد 971 من صحيفة كولونيا).
من هذا المنظور فإن أخذ الماركسية كعلم، في أي مجتمع ديني مسيحي أو إسلامي يجب أن لا يختلف عن أخذها لعلوم أخرى كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب والفلك، وكما أنـّه لا يوجد عاقل اليوم مهما كان تدينه، لا يقبل بكروية الأرض وركوب الطائرة والسيارة، فكذلك لا يجب ان يتساءل عاقل اليوم أو لا يأخذ بالنظرية العلمية الجدلية التاريخية الماركسية في تحليل المجتمع.
والماركسية لم تكن تبتدع صراع الطبقات ولم يكن ماركس أول من إنتبه وشرح وجوده، ولكنه كان اول من وضع منهجا جدليا علميا تاريخيا لفهمه وشرح قوانينه.
"ولاهوت التحرير" في أمريكا الجنوبية أدرك هذا البعد العلمي للماركسية فتنبى تحاليلها الإجتماعية والسياسية بغض النظر عن الخلاف الفلسفي بين المسيحية كفلسفة مثالية والماركسية كفلسفة مادية جدلية. والحملة الشعواء التي تشنها الكنائس المحافظة ورجال الدين المحافظون من كل الديانات ضد الماركسية وضد الفكر الثوري الماركسي إنما يخدم الطبقة المسيطرة السائدة أي الطبقة البرجوازية وهذا هو نفس الدور الذي لعبته الكنيسة المحافظة عندما كانت تخدم الطبقة الاقطاعية المسيطرة في القرون الوسطى.
والأخوان البرازيليان "بوف" اللذين ردا على حملة البابا بولس الثاني ضد الحركة الثورية والماركسية قالا: "إن التحليل الماركسي أداة وواسطة، وهو انجح أداة لفهم الواقع الاجتماعي" ( جريدة لوموند – حزيران 1984).
وهناك العديد من رجال الدين في أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا يرون انه لا حرج على رجل الدين إعتماد "التحليل الماركسي" في فهم بنية المجتمع ويؤكدون على اهمية "المادية التاريخية" واهمية الدور المحدد لقوى الإنتاج ويقبلون أيضا "صراع الطبقات" وهنا لا اتحدث طبعا عن القوى الدينية الظلامية التي ترفض حتى العلوم والتكنولوجيا. ولا عن الطبقة البرجوازية المسيطرة والتي بحكم الدفاع عن مصالحها الضيقة والتي تمارس العداء للماركسية خوفا من أن تعري الماركسية هذه الطبقة وتفضح دورها التاريخي الرجعي في عالمنا المعاصر.
فحرب الطبقة البرجوازية بسياساتها وثقافتها وإعلامها الرسمي ضد الماركسية هي حرب طبقية رغم ما تتستـَر به من شعارات ورايات دينية.
فما قام به ماركس، عندما اعلن قطعيته عن المادية الكلاسيكية الألمانية وآخر فلاسفتها فويرباخ هو إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض إلى المجتمع وهكذا نقل الجدل العقيم بين الفلسفة واللاهوت إلى نقد علمي جدلي ثوري للفكر الايديولوجي البرجوازي وبذلك عوّض نقد الدين بنقد السياسة، معتبرا الدين نفسه ضمن المجال السياسي وأحد مركبات البناء الفوقي للمجتمع".
المراجع :
(1) لودنيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية – إنجلز.
(2) ماركس فلسفة الحقوق عند هيغل.
(3) أصل العائلة والملكية الخاصة – إنجلز.
(4) لينين المختارات.
(5) الدين والايديولوجيا – محمد الرحموني.
(6) التعبير الديني – عن الصراع الإجتماعي في الإسلام – مصطفى التواتي.