كانت الفكرة الرئيسية لدى علي شريعتي عندما كان يحاضر ويكتب ويناقش في الستينات والسبعينات في جامعة مشهد وجامعة طهران وفي حسينية الإرشاد، هي الأطروحة الحادية عشرة لماركس حول فويرباخ حيث اعتبر ماركس ان: "الفلاسفة حتى الآن فسروا العالم فقط بطرق مختلفة، والهدف هو تغييره".
هذه هي النقطة الأساسية التي كانت تشغل بال شريعتي عندما حاول إقناع جمهوره، الطلاب الثوريين الشباب، والماركسيين وغيرهم في إيران وفي مختلف دول الشرق الأوسط، من أجل التغلب على حالة التخلف، وهزيمة الرأسمالية والإمبريالية في هذه المجتمعات يجب أن تكون مثقفًا عضويًا وتكسب الجماهير إلى جانبك. بحسب شريعتي فان هذا الأمر ممكن فقط من خلال أن تؤسس خطابك وأفكارك على التقاليد العميقة للفكر الإسلامي بشكل عام والفكر الشيعي بشكل خاص. اعتبر شريعتي أن الدور الرئيسي لمفكر ثوري وعضوي حقيقي في إيران هو إعادة التفكير في الإسلام وإعادة تنظيمه وإعادة بنائه، كما كان في المرحلة الأولى لنشوئه (كما يعتقد شريعتي) ايديولوجيا ثورية-اشتراكية يمكن أن تحرر المسلمين والبشرية بشكل عام.
ولد علي شريعتي في العام 1933 في قرية مزنان في خورسان، ابنا لرجل الدين أغا محمد تقي شريعتي، مؤسس "المركز لنشر الاسلام الحقيقي"، والذي كان هدفه نشر الدين الاسلامي من خلال تعليم المنطق والعلم. هدفه الأساس كان جذب الشباب المتعلمين من جديد الى الاسلام، وهو الهدف الذي سيكون لاحقا احد أهداف شريعتي الابن.
د. علي شريعتي، كان عالم اجتماع ولسانيات، مفكرًا وخريج السوربون في باريس. خلال فترة تعليمه في باريس انكشف شريعتي على التيارات الثورية الغربية من الماركسية، الى الاشتراكية والوجودية وغيرها. وقد تعرف هناك على فرانز فانون وقام بترجمة قسم من أعماله الى الفارسية كما تعرف على سارتر وترجم جزءا من أعماله بالاضافة الى كتاب تشي جيفارا عن حرب الأنصار. وقد شاهد شريعتي انجراف الشباب الشيعة والايرانيين خلف هذه الأفكار. شريعتي اعتقد ان هناك حاجة لتجديد الفكر الشيعي ليتحول الى فكر ثوري، عصري وشامل.
قام شريعتي بتفسير القرآن والاسلام بمصطلحات عصرية واشتراكية، وأظهر الانبياء كقادة للمستضعفين في العالم. بعض رجال الدين التقليديين اعتبروه ماركسيا متسترا بالدين.
شريعتي انضم الى "جبهة المقاومة الوطنية"، والتي ضمت متدينين، قوميين، علمانيين وماركسيين ممن نشطوا ضد سيطرة الدول الغربية على ايران وعلى ثرواتها الطبيعية. شريعتي اسس مع ابيه ورجال دين آخرين حركة اسماها: "اشتراكيون مؤمنون بالله"، والتي أخذ اسمها من عنوان كتاب ترجمه شريعتي عن سيرة حياة الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري "الاشتراكي المؤمن بالله"، حيث يصف هذا الكتاب أبو ذر بأنه نموذج البطل الاشتراكي، الثوري والذي يرفض ويقاوم الفقر، الرأسمالية، العنصرية والديكتاتورية، وان على جميع الثوريين في العالم وخصوصا في الشرق الأوسط، ان يتعلموا منه وان يأخذوه قدوة لهم.
وجه شريعتي اسهم انتقاده اساسا لرجال الدين الذين ركزوا جهودهم على أمور تافهة بحسب رأيه وتركوا لب الاسلام الحقيقي والذي هو بحسب شريعتي العدل الاجتماعي ومقاومة كل ظلم وظالم. شريعتي ميز بين الاسلام الشيعي الطاهر، الأصلي والثوري الذي مثله الإمام علي، وبين الاسلام الشيعي الصفوي، والذي هو اسلام سلبي ومزيف.
الاسلام الشيعي بحسب شريعتي كان وعلى مدار مئات السنين، اسلاما يناصر المظلومين ويعمل من أجل تحريرهم من الطغاة:
"ان الشيعة العلوية مثلوا خلال ثمانية قرون (وحتى ظهور الصفويين)، حركة ثورية في التاريخ، ناضلت ضد الانظمة الطبقية والاستبدادية، التي تمثلت في الخلافة الأموية والعباسية….كانت الحركة الشيعية جهادا مستمرا في الفكر والممارسة. كانت حزبا ثوريا منظما، واعيا وممتلكا لأيديولوجيا عميقة وواضحة وشعارات دقيقة وصريحة وتشكيلات منظمة ومنضبطة، وقد تولى هذا الحزب قيادة القسم الأعظم من الحركات التي قامت بها الجماهير المضطهدة المحرومة التي نشدت الحرية والعدالة".
أكثر مما أقلق شريعتي كان الصدام بين الدين والعلمانية، أقلقه ودعا الى صدام الدين بالدين، الصدام بين الاسلام العلوي الأحمر (المنتسب لعلي)، كما أسماه، والاسلام الصفوي الأسود. ففيما الاسلام الأحمر رفع من قيم الشهادة والنشاط الثوري، خص الصفويون هذه القيم وحولوا النشاط الثوري للإمام الحسين الى نشاط لطم وبكاء مستمر، سلبية وانتظارا لا ينتهي، وهوالأمر الذي يمنع من المؤمنين العمل بشكل يغير الواقع. شريعتي دعا في نهاية الأمر الى شيعة من دون رجال دين، أو على الأقل بلا رجال دين تقليديين ينشغلون بصغائر الأمور. هدفه كان تحويل الدين الى أيديولوجيا تحرك الجماهير للنشاط الثوري الذي سيحقق مملكة العدل على هذه الأرض وفي هذه الحياة وعدم انتظار نهاية التاريخ ويوم القيامة.
تأثر شريعتي بشكل واضح من فترة مكوثه في باريس. حيث كان على اتصال مع حركة المقاومة الجزائرية "جبهة التحرير الوطني"، وقد تأثر كذلك من فرانز فانون، والذي كان يعتبر احد المفكرين الثوريين في العالم الثالث، من المفكر الفرنسي جان بول سارتر.
حاول شريعتي ان يؤسلم الأيديولوجيات الثورية التي تعرف عليها في فرنسا حتى تصبح يسيرة ومتاحة للجماهير في ايران، وهم الذين لم يعرفوا هذه الايديولوجيات بشكل عميق ولم يفهموها، لكنهم كانوا متعلقين بشكل كامل بالدين الاسلامي وبالتقاليد الاسلامية.
ذلك الأمر أدى بشريعتي ان ينتقد ليس فقط رجال الدين التقليديين، وانما أيضا المثقفين "المستغربين" (مقلدي الغرب بشكل أعمى)، الذين أرادوا ليس فقط الغاء رجال الدين التقليديين بل أيضا الغاء الدين نفسه والتقاليد الدينية بكل ما تحمل من أمور تقدمية ورجعية على حد سواء، وهو ما جعلهم (بحسب شريعتي) غير قادرين على النضال ضد الامبريالية. في مقاله "من أين نبدأ" يؤكد شريعتي على هذه النقطة واعتبر ان المثقف الذي يقوم بإدارة ظهرة للدين، والذي اعتبره الروح المسيطرة على المجتمع، فان المجتمع ذاته سيقوم بإدارة ظهره له.
عمليا حاول شريعتي ان يحدد معالم امكانية ان يكون المثقف مثقفا عضويا في ايران وفي مختلف الدول الاسلامية، بحيث يعملون وينبثقون من داخل الايمان الوطني-الشعبي لهذه المجتمعات، وليس من خارجها أو بالقطع معها.
كما ذكرت سابقا تأثر شريعتي بالفكر الماركسي والوجودي الأوروبي، وحاول أسلمة هذه الأفكار بشكل يكون مقبولا ومبنيا على الايمان الاسلامي في ايران، أو كما هو ذاته حدد ذلك:
"ان الاستناد للايمان وللتشيع الحقيقي، في مجتمعنا، يجعلنا نتحد فعلا مع الجماهير ونتحدث لغتها، ويمكننا من نشر الوعي وترسيخ الاحساس بالمسؤولية من خلال تحليلنا لشخصيات وحوادث الاسلام نفسه، وهكذا تخلصنا عملية الاستناد هذه من اغترابنا عن الناس وتبني بيننا كمثقفين وبينهم جسرا راسخا… وهكذا تصبح معرفة التشيع نفسه، اعادة اكتشاف للمجتمع الذي نعيش فيه، لأن تلك المعرفة تقودنا لحقائق أصيلة وراسخة الجذور في بلادنا…"
لكن هدف شريعتي كان مزدوجا. فبالاضافة الى رغبته بجذب الجماهير الى النشاط الثوري فهو استمر بالعمل لتحقيق هدفه وهدف أبيه من قبل، بجذب جماهير المثقفين الايرانيين "المستغربة" من جديد للدين الاسلامي. من أجل تحقيق ذلك كان عليه استخدام الأفكار العالمية المركزية في تلك الفترة، الفكر الوجودي بحسب المفكر سارتر والذي كانت بمثابة نوع من الأرضية المشتركة واللغة المشتركة بينه وبين المثقفين الايرانيين الذين تأثروا به في تلك السنوات.
لقد نجح شريعتي في وضع اسس نظرية ربطت بين الاسلام والوجودية، وذلك من خلال تحويل "التوحيد" من فكرة لاهوتية دينية اسلامية الى ايديولوجيا وفكر ثوري جاء من أجل تغيير الواقع، أي تحويل الانسان ومستقبله على هذه الأرض الى مركز الاهتمام، بدل التركيز على ماهية الاله والطبيعة الالهية.
شريعتي ومن خلال فهمه لمفهوم "التوحيد"، دمج بين الله، الطبيعة والانسان، وحولهم جميعا الى جوهر واحد. في محاضرته حول التوحيد شدد شريعتي على:
"ثمة عدد كبير من الناس يؤمنون بالتوحيد كنظرية دينية فلسفية تعني فقط ان الله واحد وليس أكثر من واحد، أما بالنسبة لي فالتوحيد هو رؤية للعالم، واني مقتنع بان القرآن يراه كذلك". قبل هذه الفقرة يقول شريعتي ان في نظريته ان التوحيد: "يعني اعتبار الكون بأكمله وحدة بدلا من تقسيمه الى الدنيا والآخرة والطبيعة وما هو فوق الطبيعة، والجوهر والمعنى والروح والجسم. ويعني ايضا اعتبار كل الوجود كشكل واحد، كجسم واحد حي وواع، يملك ارادة وفكرا وشعورا وهدفا".
نظرية التوحيد لدى شريعتي جاءت من أجل جسر الهوة بين الصلاحيات الالهية وبين نشاط الانسان وحرية الاختيار الانساني، والتي تؤدي في نهاية الأمر الى حرية النشاط السياسي للانسان في هذا العالم والآن. الأمر ممكن نتيجة الوحدة الجوهرانية، بحسب هذه النظرية بين الله، الطبيعة والانسان، وعلى ضوء التفسير الجديد الذي قام به شريعتي لمقولة ان الانسان هو "خليفة الله"، أي انه وارث الله على الأرض. وهكذا يتوصل شريعتي الى ان الانسان والله هما جزئين من ماهية واحدة، وبالتالي فان الانسان يتقدم طوال الوقت في مسار لا نهائي (حيث ان الله لا نهائي) باتجاه فهم الكون وفهم الله، الأمر الذي يمكن الانسان من الاختيار والنشاط بشكل حر في هذا العالم وبالتالي ان يكون مسؤولا عن اختياراته وأعماله.
لا شك ان هدف شريعتي من هذه النظرية حول "التوحيد"، هو ليس تمرينا فكريا محضا. وانما الهدف الأساسي هو الوصول الى العدل من خلال أدوات "أصيلة" اسلامية ومشرقية، حتى لو كان عليه ان يقوم بأسلمة أفكار غربية أو بتغريب الاسلام.
ما كان يهم شريعتي، ليس فقط (أو حتى بالأساس) العالم الآخر. بل ما كان يدفعه هو تغيير العالم الحالي والذي يعيش به الانسان الآن، والذي يتعذب به الانسان، وبكلماته هو:
"هذا هو التشيع، انه ليس قراءة الأدعية أملا بنيل "حور العين" ان التشيع الحقيقي لا يحاول جمع أكبر قدر ممكن من "الثواب" انتظارا ليوم العقاب، بل انه يجمع الثواب وكل ما هو خير في هذه الدنيا نفسها. ان الخلاص والشفاعة وكل الأهداف يحاول ان يحققها في هذه الدنيا…بل انه يبني الجنة في هذه الدنيا".
شريعتي يذهب أبعد من ذلك حيث يؤكد على الهدف الأعلى بالوصول الى العدالة الاجتماعية، ويعتبر انه في القرآن يمكن تغيير كلمة "الله" في الأمور الاجتماعية بكلمة "الناس" ويضيف:
"اذا في المسائل الاجتماعية، اي كل ما يتعلق في النظام الاجتماعي، وباستثناء مسائل معينة…تتماشى كلمة الله وكلمة الناس. بالتالي عندما يقال: "الحكم لله" فانما هذا يعني ان الحكم للناس، وليس لهؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم ممثلين عن الله أو أبناءه…وعندما يقال "الملك لله" فان هذا يعني ان رأس المال للناس ككل وليس لقارون. وعندما يقال "الدين لله"، فانما هذا يعني ان بنية الدين بأكملها مضمونه للناس وليست احتكارا تسيطر عليه مؤسسة معينة أو بعض الناس"..
من هذه الاقتباسات يبدو واضحا ان فكرة شريعتي كانت راديكالية وانسانية. كما ان فكره وان لم يكن ماركسيا تقليديا الا انه تأثر بالماركسية بشكل واضح. أكثر من ذلك، فبالاضافة الى الادعاء الذي أورده أكثر من باحث بأن شريعتي قام بأسلمة الماركسية والأفكار الثورية الغربية،، فانا أدعي ان شريعتي قام "بمركسة" (ان صح التعبير) وبتثوير الفكر الاسلامي.
في محاضراته حول جدلية علم الاجتماع، قلص شريعتي الانظمة الاجتماعية على مدار التاريخ الى نموذجين اساسيين، الأول نظام هابيل والآخر نظام قايين. الأول يضم كل الأنظمة الاجتماعية العادلة والتي تؤمن المساواة، مثل الشيوعية البدائية في فجر التاريخ والمجتمع الاشتراكي والشيوعي المستقبلي. في حين يضم النموذج الآخر كل النظم المبنية على الاضطهاد وعلى الاستغلال، مثل العبودية، الاقطاعية، الرأسمالية وغيرها. شريعتي بالتالي قام يتقليص تقسيم الانظمة على مدار التاريخ الى قوتين متضادتين – مستغلِين ومستغَلين. في جانب المستغلين ضم شريعتي الملوك وأصحاب الثروات والارستقراطيين ورجال الدين التقليديين، وفي المقابل فقد ضم معا الشعب أو الناس والله. شريعتي يؤكد على ان في المجتمع الطبقي "الله يقف الى جانب الناس في كل القضايا الاجتماعية التي تظهر في القرآن. والله والناس هي مترادفات، ومن الممكن تبديل الواحدة بالاخرى من دون تغيير المعنى".
كما كان شريعتي قاطعا في رفض الأساس الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي وهو مراكمة الرأسمال والربح من قبل الرأسمالي. فقد رفض مفهوم "الصدقة والإحسان" واشتراكية "العمل الخيري" واعتبر ان في النظام الاسلامي الاشتراكي يجب منع الرأسمالي من مراكمة الرأسمال وان المساواة هي حق للجميع وليس "منّة" من الأغنياء على الفقراء.
هكذا ذهب شريعتي أبعد من كل مفكر آخر في زمانه. حاول ان يزاوج بشكل تام بين الاسلام الشيعي "العلوي" كما سماه، وبين الثورية، وان يحوله الى ايديويوجيا والى اداة ثورية يمكنها تغيير العالم والوقوف أمام الامبريالية الغربية من دون تغريب الجماهير.
شريعتي لم يتمكن من قطف ثمار أفكاره والتي (الى حد ما) تمثلت بانتصار الثورة الاسلامية الايرانية أقل من سنتين بعد استشهاده في حزيران 1977، على ما يبدو على ايدي الشرطة السرية نظام الشاه، السافاك.
* د. كناعنة هو باحث زائر في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا في نيويورك ويقوم بابحاثه ضمن دراسات ما بعد الدكتوراة (بوست- دكتوراة) هناك. كان قد حصل على لقب الدكتوراة من جامعة تل أبيب على رسالته المعنونة: حزب الله في لبنان: المقاومة كمشروع للهيمنة-المضادة. وهو البحث الذي حصل على جائزة الجمعية الاسرائيلية لدراسات الشرق الأوسط للرسالة المتميزة للعام ٢٠١٧ وحصل مؤخرا (٢٠١٨) ايضا على جائزة "برطال" من الجامعة العبرية في القدس للبحث المتميز حيث ستقوم دار النشر (ماغنس) التابعة للجامعة العبرية في القدس بنشر البحث ككتاب باللغة العبرية. علما بأن د.كناعنة على تواصل مع دور نشر أخرى لنشر الكتاب باللغة الانجليزية ولاحقا بالعربية أيضا.