ثمة حقيقة ان الفكر السياسي العربي الراهن في أزمة, فهنالك تراجع عام في العقلانية لصالح السلفية وتقهقر متواصل في أوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتنموية. ومن جراء مفارقات الوضع والواقع العربي المتردي تولدت ظواهر سياسية واجتماعية, وظواهر سلفوية, ماضوية وغيبية, بمعانيها ومستوياتها. ويجري تعطيل المؤسسات الثقافية والعلمية, في حين تقف مؤسسات المجتمع المدني والأهلي عاجزة عن التصدي لهذه الظواهر.ان أزمة الفكر السياسي العربي هي انعكاس عميق للازمة العامة التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية الإسلامية في تطورها, أي أزمة التخلف الحضاري بمعانيه وجوانبه. ويبدو جليا انحسار ونكوص دور الشعوب والجماهير العربية والحركات والأحزاب السياسية والوطنية الثورية, ودور المثقفين العرب ما أدى إلى تراجع دور الفكر والثقافة.وفي ظل هذه التراجعات تهيأت الشروط والظروف للفورة الراهنة للأصولية الدينية السلفية, ولا سيما المقترنة بالتطرف والعنف, بالإضافة إلى الظواهر العدمية والسلبية التي تنتشر كالفطر في المجتمعات العربية الرازحة تحت عبء التقليد وتقديس القديم, فتعرقل فعل الإبداع والإنتاج, وتعطل العقل, وتشل حركة التطور.وما من شك ان التعددية والتنوع والتناقض هي مصادر إثراء للحياة السياسية والفكرية ولحركة التطور والتقدم, ولكن غياب الديمقراطية وطغيان حالة التمزق والتفكك والإقليمية في المجتمعات العربية, وسيطرة الجانب الديني والسياسي في الحياة الاجتماعية والسياسية العربية أسهم في تحويل هذا التنوع والتعدد إلى مجال صراع غالبا ما كان مدمرا.والواقع ان المثقفين العرب يواجهون عددا من التحديات الأساسية التي يتوقف عليها نجاحهم في أداء رسالتهم ووظيفتهم الثقافية في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة. وتعود جذور هذه التحديات التي ينبغي على المثقفين العرب التصدي لها, إلى فشلهم وإخفاقهم في انجاز بعض المهام الأساسية التي تطلبتها المرحلة التي أعقبت نيل الاستقلال الوطني, والتي تجسدت وتمثلت في إنشاء دولة عصرية مدنية تتمتع بالشرعية في نظر مجتمعاتها. ولعل أهم هذه التحديات في تصور هؤلاء المثقفين لمهمتهم وعلاقتهم مع كل من السلطة والمجتمع المدني, ومن قضايا ومسائل الهوية, والتبعية, وإشكاليات الحفاظ على كيان الدولة العربية في وجه العولمة الجديدة.ومن نافل القول, ان الأحداث السياسية العاصفة التي هزت العالم تبقى مصدرا أساسيا لكل تعمق وتجذر في أزمة الفكر وأزمة الواقع. وحيال ذلك فان المطلوب من الأحزاب والتيارات السياسية والمذهبية العربية هو تجديد ذاتها, والتحرر من العصبوية والفئوية فكرا وممارسة, واعتماد الديمقراطية في النضال والعلاقات الاجتماعية, ومواجهة التكيف الذي تفرضه شروط العولمة على الوطن العربي. وكذلك إعادة الاعتبار إلى العقل والعلم والعقلانية, ومواجهة حالة الردة الراهنة إلى السلفية التي تعطل دور العقل والعلم والمعرفة لصالح الغيبية ومحاكم التفتيش وحالات التكفير والقمع الإرهابي لكل فكر مخالف, ولكل اجتهاد في الدين والسياسة والأخلاق والعلاقات الاجتماعية.هذا إلى جانب الانشغال بالأزمة السياسية للفكر العربي المعاصر والطموح إلى تجاوز هذه الأزمة, وصولا إلى تحقيق الأهداف المرجوة والمأمولة في تحقيق الثورة الاجتماعية الديمقراطية وترسيخ فكر حداثي جديد وعقلاني.. وفكر متطور وحضاري, يقوم على أسس الحداثة المجتمعية, وفي مقدمتها الحرية والعدالة والمساواة والتعددية وحرية التعبير والتفكير, وإرساء مشروع نهضوي تنويري عربي حضاري يعمل على إعادة وإحياء فكر وقيم النهضة العلمية والثقافية التي رسخها رواد الفكر الإصلاحي والتجديدي الديني.وهذا المشروع يشارك في صياغته وبلورته القوميون والإسلاميون والماركسيون, أو كما يقول الكاتب والمفكر عبد الإله بلقزيز:"قوى هذا المشروع هي نفسها الأطراف التي شاركت في صوغه فكريا وسياسيا, قوى التيار القومي, والتيار الإسلامي العروبي الديمقراطي, والتيار اليساري الوحدوي".