ثمة جديد يلفت النظر في الهجوم المركّز على الجماهير العربية ارتباطًا بالإنتخابات البرلمانية. فمن يقرأ لغة التحريض الراهنة يجد ان الحديث يتجاوز معركة الانتخابات بإتجاه إعادة تأسيس وبناء العقلية العنصرية في تعاملها مع المواطنين العرب.
نظرتنا تضيق عن الإستيعاب إذا حصرنا الموضوع في حزب ليبرمان. وتضيق أكثر فأكثر اذا تعاملنا معه على شكل موضوع انتخابي. المسألة اكبر بكثير. فما يجري على الأرض هو تعميم خطاب عنصري فاشي، قابل للتداول والرسوخ، من شأنه ان يأخذ مداه في عقلية وخلفية جمهور واسع، بعد الانتخابات أيضًا، وبالتالي تجنيد أوساط جديدة تعطي شرعية لخطاب الترانسفير من خلال ربط البقاء بما يسمى بـ "الولاء".
الدعاية الانتخابية لحزب ليبرمان في اللغة الروسية هي واحدة من الأدلة على ما نذهب اليه. فهناك يقوم بتصوير العرب على انهم أعداء للدولة، يساندون "العدو" ويسمي حركة "حماس" في هذا السياق، ويعرض تصوير فيديو لمظاهرة سخنين ضد الحرب وفي خلفيتها ترديد دائم بان العرب في اسرائيل يقومون بحرق علم الدولة ولا يستحقون البقاء في البلاد، وبالتالي يصل الى حل "منطقي" – بحسب منطق طرحه طبعًا – بضرورة تنفيذ الترانسفير بحجة "عدم الولاء".
يبدو، للوهلة الأولى، وعلى خلفية تصاعد التحريض علينا وتصعيد العدوان على شعبنا في غزة، ان هوامش حرية الحراك التي نملكها آخذة في الضيق أكثر. وأعني ان هناك من ينظر الى هذه الحالة على أنها سببًا لقطيعة لا بد منها ويجري فرضها علينا من قبل الأكثرية اليهودية. لذلك هناك حديث الآن بين أوساط معينة تدعو الى عدم المشاركة في الانتخابات. وهذه الأصوات ازدادت ارتباطًا بالعدوان على غزة. بمعنى ان هناك دعوة مفتوحة لممارسة الإقصاء الذاتي ووضع أنفسنا في "غيتو" نقوم بإحكام اغلاقه بأيدينا لنكون، بعد ذلك، على هامش الهامش المتاح لنا.
المسألة هي الضد من ذلك. واضح ان خطاب التحريض على الجماهير العربية يقصد، بين جملة ما يقصد أيضًا، تهميش دورنا ومحاولة عزلنا عن دائرة التأثير ومنعنا من استخدام وزننا، الكمي والنوعي، في الشارع وفي الكنيست أيضًا. هذا ما كنا نلمسه دائمًا عندما كان الحديث يجري عن اجراء استفتاءات شعبية على قضايا معينة، مثل النقاش على الانسحاب من الجولان، حيث كانت الأصوات ترتفع على الفور بمنع العرب من المشاركة في مثل هذا الاستفتاء في حال إقراره.
في مثل هذه الأجواء فان دعوة الإنكفاء تمثل اللامعقول. وهي تنطق بأشياء وتسكت عن أشياء. فعندما يجري الحديث عن استفتاء لا نسمع دعوة للمقاطعة. بل نسمع أهمية وضرورة المشاركة ومن كل الأطراف. هذا يعني اننا، في حالة الاستفتاء، نشعر بوزننا وبقوتنا وبأننا بالفعل قادرون على التأثير. هذا الأمر يجب ان ينسحب على كل شيء. فلا يجوز التعامل مع الموضوع بإزدواجية. لذلك فان النقيض للمقاطعة يقوم على تأسيس رؤية أكثر قدرة على الفعل والمواجهة.
نحن لسنا بالعاجزين. ودورنا لا يقتصر على الاحتجاج على حرب أو عدوان أو مظاهرة ضد البطالة وسياسة الإفقار، رغم اهمية كل ذلك. دورنا ان نؤثر، أو على الأقل ان نحاول، لا ان نجلس في الزاوية ونقول "نحن نقاطع". دورنا ان نكون في قلب المعركة، في الشارع وفي الكنيست وفي كل مكان. ووجودنا في البرلمان هو من اجل هذا الهدف، بحيث نسمع صوتنا هناك ونكون قوة مانعة ضد سياسة الاحتلال والحرب والضربات الاقتصادية والاجتماعية. واذا اخترنا العكس – أي اذا اخترنا البقاء في البيت – فان المنتصر في هذه الحالة هو اليمين العنصري والفاشي الذي ينادي، بطبيعته، بالترانسفير السياسي كمقدمة لتنفيذ الترانسفير الجسدي.
الجواب على معادلة الفعل والتأثير كامن في الجبهة. هذا ما رأيناه مع بداية الحرب العدوانية على غزة. لم يقتصر التحرك على الناصرة أو سخنين، ولا في مدننا وقرانا العربية فقط، انما بادرت الجبهة ونجحت في التحرك في قلب تل أبيب. وهذا أمر غاية في الأهمية: أن تحاول تجنيد قوى يهودية تقدمية الى جانب نضالك الشرعي، لا ان تكون لوحدك.
صوتنا ليس لوحده. وهو يكون أكثر فاعلية وتأثيرًا في حالة النجاح بتجنيد قوى إضافية إليه، ذلك ان التغيير المنشود، في كل ما نطرحه، في قضايا السلام والمساواة والحقوق القومية والمدنية والقضايا الاجتماعية والاقتصادية، بحاجة الى إحداث شرخ في الشارع اليهودي. ففي نهاية المطاف دورنا ليس في اقناع أنفسنا. نحن مقتنعون. إذن دورنا يكمن في التأثير على الشارع اليهودي واقناع أوساط بداخله بأهمية وعدالة ما نطرح. وهناك تكون معركتنا لكي نقنع ونؤثر ونحاول التغيير.
هناك قول عربي قديم مأثور، مفاده: هذه بضاعتنا قد رُدت إلينا. هذا ما حاربنا به طوال الوقت. قلنا ان من يفتش عن التغيير يجب ان يفكر أيضًا في كيفية اختراق الشارع اليهودي. فالشارع العربي معبأ من هذه الناحية. ولو كان الأمر مرتبط بنا فقط لكانت الدولة الفلسطينية قد قامت منذ زمن وتحققت المساواة ودولة الجميع ودولة الرفاه الى آخر كل ما ترغبون.
الجبهة لا تطمس وجوهًا وتبرز أخرى، بل تشتغل على كل الجبهات، هنا وهناك. لذلك فان المشاركة في الانتخابات تشكل الرد على محاولات شرعنة ربط البقاء بما يسمى بـ "الولاء"، وهي التجاوز لمحاولات بث الشعور باليأس والإحباط وعدم القدرة والمقدرة.
نحن قادرون على الفعل. قادرون على المبادرة، وعلى استثمار وزننا. وما يميزنا في الجبهة، وهنا أيضًا بخلاف الآخرين، اننا عبّدنا هذا الطريق – طريق اجتراح البقاء وزرع الأمل واعطاء شعبنا أفق بإمكانية الصمود والتطور. نحن قوة لها تأثيرها ووزنها. نقدر ونستطيع، ونصر على الانتقال من محور الاحتجاج، رغم أهميته، الى مرحلة المبادرة والفعل والتأثير والتغيير. هذه مهمتنا وهذا واجبنا: أن نقلب الموازين ونفرض تبديل المواقع، بحيث نغدو نحن مصدر الهجوم والمبادرة لا موضوعا للتحريض والدفاع عن النفس. ونحن معًا قادرون على التصدي لحربهم على كل الجبهات، وقادرون معًا على بث روح التحدي واعطاء شعبنا فسحة من الأمل.