news

لــم يـَـعـُـد الــحِــضــنُ حـِـضــنــًا!

لي مع رياضة المشي السريع حكاية منعشة لي ومؤسفة في آن معًا...
تعرّفتُ على "اليصاديّة" عن كثب منذ بضعة أشهر، بعد أن وطئتْها قدماي من خلال رياضة المشي السريع، وكانت عندي قبلذاك هي والـخـُــبَــب والـدمــوم والــزنــبــيــلــة وكثير غيرها مجرّد أسماء لأماكن عبلّينيّة أخلط في ما بينها، لا أمايز بينها أسماءً ومَواقعَ، فجاء المشي وسار بي إلى معرفة بلدتي معرفة أدقّ، معرفة قدم وعين وقلب، وقلت في سرّي وفي علني أكثر من مرّة: الله الله! هي فرصة طيّبة تتاح لي بعد كلّ هذا العمر، وإنْ متأخّرة "قليلًا"، لتتجدّد معرفتي بعبلّين فأحبّها أكثر فأكثر...
في اليصاديّة في وادي عبلّين، بين ملعب كرة القدم والشارع الجديد الموصل بين عبلّين وجارتها طمرة، كنّا هناك أنا وصديقاي المعتـَّـقـان، خليل ابن عمّي بهجات، وأسامة ابن خالي جميل. كنّا هناك نمارس رياضة السير السريع كما اعتدنا منذ أكثر من سنة. كنّا في ما سبق نمارس هوايتنا هذه في ساحات مؤسّسات مار إلياس، وحين تسمح الظروف نختار الانطلاق إلى الطبيعة، إيمانًا منّا بأنّ المشي هناك أكثر إيناسًا وتنويعًا.
منذ أكثر من سنة، هناك في الطبيعة، حول جبل أبو مدوّر ومقابِلَه وفي غيره من الأماكن في وادي عبلّين ومحيطه، هناك حيث بهجة النظر، كثيرًا ما أعدنا النظر وهربنا من أماكن لوّثها بعضٌ من أهلنا بقمامات وقاذورات وبقايا ذبائح وجِيَف حيوانات نافقة تنبعث منها روائح كريهة مقزِّزة. هربنا ولا زلنا نهرب لنبحث عن أماكن لا قرف فيها أو أقلّ قرفًا. بعض معارفنا وأصحابنا لا يغامرون؛ يبتعدون عن البلدة إلى مناطق المدن والبلدات اليهوديّة المجاورة وغير المجاورة، ليمارسوا هناك رياضتهم المحبَّبة التي تضمن لهم على الأقلّ تنشيطًا للدورة الدمويّة. المؤسف المُخزي أنّه كلّما "اكتشفنا" أنا وأصدقائي مكانًا لا وجود فيه لروائح كريهة "تُزعزِع المصارين" (على حدّ تعبير المرحوم "أبو توما" أبي)، ويحلو السير فيه، نفاجأ بعد أسابيع أو أيّام بأنّ القاذورات والجِيَف المُنتِنة قد وصلت إليه! نجدها في انتظارنا على جوانب الطرقات أو بين الأشجار، فنشمّ ونشتم ونبصق!
عصر الأربعاء الأخير (20/6/2018)، وجدنا التلويث قد تجرّأ وتمادى أكثر فأكثر (كيف لا وما مِن رقيب ولا حسيب؟!). هناك في اليصاديّة، في طريقٍ اعتدنا منذ بضعة أشهر أن نجتازه دون وجود ملوِّثات فيه تُذكَر، كانت المفاجأة القذرة النتنة في انتظارنا! في الطريق. في وسط الطريق، لا على أحد جانبيه، ولا على مقربة منه. أمعاء ذبيحة وأطراف مقطّعة وبقايا رأس وجدناها متجاورة تعترض سيرنا... امتعضنا، بصقنا، بصقنا كثيرًا، شَتمْنا، لَعَنّا، حبسنا أنفاسنا قليلًا، التقط أسامة بعض الصور وطلبت إليه أن يحوّلها إليّ (كي نكتب في وقت لاحق منشورًا على صفحات الفيسبوك)، ثمّ غيّرنا وجهة طريقنا بحثًا عن أمكنة أقلّ قرفًا ونتانةً. الصور الملتقَطة تتحدّث بنفسها عن القرف في البلدة الحبيبة.
* * * * *
الحمد لمَن لا يُحمَد على مكروه سواه! صرنا أكثر فأكثر نفقد استمتاعنا بالطبيعة، وقد نفقد صلتنا بهذه الحبيبة حدّ القطيعة! أمّا التعبير الجاهز المستهلَك "أحضان الطبيعة"، فقد أضحى مضحكًا. "بفضل" بعض أبناء بلدتنا، لم يعد للطبيعة حضن. لم تَعُد الطبيعة أنثى بَهيّة، ولا أمًّا حبيبة مُحِبّة. ما عادت طبيعتنا قلبًا كريمًا. صارت وجهًا كريهًا. صارت مزبلة كبيرة، مَكرَهة... صارت أُمًّا قتيلة...
وممّا يضاعف الإحساس بالخسارة والقرف أنّ ما سقناه هنا بشأن عبلّين ينسحب –لشديد الأسف- على سائر قرانا وبلداتنا العربيّة، أو على معظمها. في هذا الصدد، جادت وأجادت الصديقة العزيزة المعلّمة لبنى سهيل وطفة-حديد إذ كتبتْ لي ما يلي بعد النشر في الفيسبوك:
"مشكلة تعاني منها جميع القرى العربيّة. ليه ما شا الله كفر ياسيف وجديدة المكر أنظف وجوّها أنقى؟!
بدأتُ فيما مضى أمارس رياضة المشي في سهل كفر ياسيف، وسرعان ما حذفتُ هذا المسار من تخطيطي، لنفس المناظر والروائح المقزّزة إضافة إلى إزعاج الجرّارات الصغيرة (التراكتورونات) التي تهبّ فجأة فيجفل منها الماشي وتغرقه تارةً بالوحل وأخرى بالغبار... وتفاديًا لتلك الوضعيّات المزرية، قمت ببساطة بشراء جهاز للرياضة، وصرت أمارس الرياضة في البيت وقبالتي أفلام أجنبيّة منتقاة، فأستمتع بطبيعة المناظر فيها، وأعيش الأحداث المشوّقة المثيرة، وبغنى دخلك عن طبيعة وأجواء قرانا المنفّرة... إلى أن يتسنّى للسلطة وللمسؤولين تركيب كاميرات مراقبة بكلّ زاوية يتواجد فيها المواطن لترصد المسيء والمقرف والناقم على الطبيعة، ولإلزامه بدفع غرامة ماليّة باهظة حتّى ما يعود يسترجي يكبّ قشرة بذر! أخخخخ بَس!
كم أتفهّمُ أخي المقيم في ألمانيا منذ ثلث قرن! فهو يرفض أن يعود لتراكم النفايات أينما كان في قريته. وعودته مشروطة بأن يربح في اليانصيب (بتهكّم) ليشتري كَنّاسات متطوّرة بكمّيّات كبيرة ويوزّعها على القرى العربيّة ولتشتغل ليل نهار لإزالة القمامة من الشوارع والأحياء. عندها يتجرّأ بالعودة إلى بلاده، ويتحقّق بذلك حُلمه الأوّل بالعيش في قريته نظيفة منعشة.
أمّا حلمه الثاني، أن يكون الشاري أمينًا وموثوقًا به فتُترَك البضاعة معروضةً أمامه دون أيّ رقابة، فيأتي المشتري الأمين ويشتري حاجته ويضع النقود في صندوق دون وجود أيّ شخص في الدكّان... فهذا لا شكّ حلم بعيد المنال، لا يفكّر أن يضعه شرطًا لعودته أو حتّى لا يتهيّأ له ذلك في منامه"...

* * * * *
وبعد... الرحمة الرحمة، يا بعض أهلنا!
دعُونا نتنفّس هواءً قليل التلوّث!
دعُونا نحبّ العيش في البلدة التي أحببنا ونحبّ!
دعُونا لا نغادر ولا نهجر البلدة الصغيرة، الوطن الصغير، الحبّ الكبير: عـبـلّـيـن.

(عـبـلـّـيـن)