على رغم أن الثقافة السياسية الأميركية اعتادت ان تطلق وصف «البطة العرجاء» على كل إدارة تدخل شهورها الأخيرة في السلطة، إلا أن إدارة جورج بوش سجلت استثناء على تلك القاعدة. ففي الفترة بين الانتخابات وحتى تسلم الرئيس الجديد السلطة رسميا في 20 كانون الثاني (أي حوالي 11 أسبوعا) كانت إدارة جورج بوش بطة عرجاء في كل شيء، وعلى كل جبهة، ما عدا المتعلق بإسرائيل تحديداً.
وحين بدأت إسرائيل حربها الوحشية ضد أهالي قطاع غزة - وليس فقط منظمة «حماس» - كان واضحاً أنها استبقت الحرب بمشاورات عالية المستوى مع وزارة الدفاع الأميركية. وبمجرد أن بدأت الحرب أصبحت وزارة الخارجية الأميركية هي القائمة على مدار الساعة بتبرير الحرب بأنها دفاع إسرائيلي عن النفس ضد صواريخ منظمة «حماس الإرهابية». وحينما ذهب إلى نيويورك وفد من وزراء خارجية سبع دول عربية للسعي الى الحصول على قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب ماطلتهم وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس وراوغتهم وناورتهم وساومتهم. بعدها سلطت عليهم وزير خارجية فرنسا. ثم جاء الدور على وزير خارجية بريطانيا ليتقدم بصياغة من عنده. وهنا وعدت وزيرة الخارجية الأميركية باقي أعضاء مجلس الأمن بأن الوزراء العرب لو تنازلوا عن مشروعهم وقبلوا بالمشروع البريطاني فإن أميركا ستصوت لمصلحة القرار. لكنها لم تصوت لمصلحة القرار بل فاجأت الجميع بالامتناع عن التصويت.
الرواية الرائجة هنا بدأت تتداولها صحف بريطانية ونقلتها وكالات الأنباء عن رئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت الذي قال إنه عرف بالموقف الأميركي قبل التصويت على قرار مجلس الأمن بعشر دقائق فاتصل فوراً بالرئيس جورج بوش، وحين قيل له إن بوش موجود في فيلادلفيا حيث كان مقرراً أن يلقي خطاباً هناك أصر اولمرت على الاتصال به عاجلاً. وحسب روايته جرى إنزال الرئيس جورج بوش من منصة الخطابة إلى حجرة جانبية حيث ألحّ عليه أولمرت بألا تصوت أميركا لمصلحة القرار في مجلس الأمن، وهو ما أدى في النهاية إلى تنبيه وزيرة الخارجية في نيويورك بالامتناع عن التصويت بينما باقي اعضاء مجلس الأمن الأربعة عشر صوتوا بالموافقة على القرار.
كان أهم بند عاجل في القرار هو وقف إطلاق النار بالنظر إلى أن العالم كله يشهد توحشاً إسرائيلياً ضد المدنيين على مدار الساعة. مع ذلك فبعد صدور قرار مجلس الأمن بيوم واحد خرج الرئيس جورج بوش ليصرح علناً بأن وقفاً دائماً لإطلاق النار في غزة يستلزم وقف إطلاق الصواريخ من جانب «حماس» على إسرائيل ووقف تهريب السلاح إلى «حماس». وأعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي أبلغ نظيره التركي عبدالله غل خلال مكالمة هاتفية من الأخير بهذين الشرطين المسبقين. والرسالة الاميركية هنا إلى إسرائيل: اضربي عرض الحائط بقرار مجلس الأمن واستمري في حربك المتوحشة ضد أهالي غزة. وحينما اختارت إسرائيل وقف مجزرتها البشرية في النهاية كان هذا بعد 22 يوما بلغت حصيلتها 1315 شهيداً فلسطينياً 40 في المئة منهم نساء وأطفال، اضافة الى 4500 جريح وهدم أربعة آلاف منزل كليا و16 ألف منزل تدميراً متفاوتاً.
لكن حتى هنا لم توقف إسرائيل حربها إلا بعد حصولها على مكافأة أخرى من إدارة اعتادت منذ سنتها الأولى في السلطة على إغراق إسرائيل بالمكافآت، أموالا وأسلحة. المفاجأة الجديدة تمثلت في مذكرة تفاهم وقعت عليها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مع وزيرة خارجية إسرائيل تسيبي ليفني التي سافرت إلى واشنطن خصيصاً لهذا الغرض. أوجه الغرابة هنا ثلاثة. فأولاً تتضمن المذكرة التزامات وتعهدات جديدة تعطيها الإدارة الأميركية لإسرائيل بينما لم يكن باقياً من عمر تلك الإدارة في السلطة سوى أقل من أربعة أيام. وثانيا: تمتد تلك الالتزامات إلى إدارة جديدة ستخلفها في السلطة تحت عنوان «التغيير» في ما يمكن اعتباره استباقاً لأي مراجعة محتملة قد تقوم بها الإدارة الجديدة لسياسة أميركا الشرق أوسطية. وثالثا: تتجاوز الالتزامات المقررة في مذكرة التفاهم طرفيها المباشرين - أميركا وإسرائيل - لكي تمتد إلى مصر ودول أخرى في حلف شمال الأطلسي.
فلنبدأ أولا بالدول الأخرى. فبمناسبة التوقيع على مذكرة التفاهم تلك قالت وزيرة الخارجية الأميركية للصحافيين إن الاتفاق ينص على سلسلة إجراءات ستتخذها أميركا وإسرائيل لضمان وقف تهريب وتدفق الأسلحة إلى غزة، وإن أميركا من جانبها ستتعاون مع شركائها في حلف شمال الأطلسي ودول المنطقة (تعني مصر والأردن) لمنع تهريب الأسلحة إلى «حماس» وغيرها من التنظيمات في قطاع غزة عبر مختلف الطرق مثل البحر المتوسط وخليج عدن حتى شرق إفريقيا. وقالت الوزيرة أيضا إن هذا الاتفاق الثنائي ستليه اتفاقات أخرى بين إسرائيل وبعض الدول الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وقالت رايس إنها اتصلت هاتفيا قبل الظهر (16/1) بوزراء خارجية تلك الدول الثلاث لإطلاعهم على الاتفاق. أما وزيرة خارجية إسرائيل فأضافت من جانبها أن من بين ما يكفله الاتفاق لاسرائيل هو انه يعطيها الحق في اعتبار تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة موازيا لإطلاق النار على إسرائيل. مما يعني بصريح العبارة: حق إسرائيل في شن ما تراه من حروب ضد من تراهم كأطراف تزعم تهريب السلاح من أراضيهم.
في اليوم التالي (17/1) أعلن رئيس وزراء بريطانيا غوردون براون أن بلاده، زائداً فرنسا وألمانيا، عرضت إرسال سفن حربية إلى الشرق الأوسط للمراقبة ولمنع تهريب السلاح إلى غزة، مضيفاً إن الدول الثلاث بعثت برسالة مشتركة إلى الحكومتين الإسرائيلية والمصرية تلخص العرض الخاص بتقديم المساعدة البحرية في مراقبة المعابر الحدودية. وفي تلك الرسالة التي نشرتها الحكومة الألمانية أبدت الدول الثلاث استعدادها لاتخاذ إجراءات جديدة، مباشرة أو تحت مظلة حلف شمال الأطلسي. لكن ألمانيا نفت بعد ذلك الأنباء عن نيتها إرسال قوات إلى الحدود المصرية مع غزة، وقال الناطق باسم الحكومة الألمانية إن مسألة تشكيل قوة بحرية لمراقبة سواحل غزة كانت بالأساس اقتراحاً قدمته بريطانيا في اجتماع شرم الشيخ.
كان هذا تطوراً خطيراً بدأته مذكرة التفاهم المفاجئة بين إدارة أميركية ذاهبة وإسرائيل. فمن ناحية هذا يعني توسيعاً جديداً في نطاق عمل منظمة حلف شمال الأطلسي ليشمل مناطق جديدة في البحرين المتوسط والأحمر، وهو يجري بعد فترة وجيزة من مهمات أطلسية أخرى بقيادة أميركا في منطقة خليج عدن والمحيط الهندي. ومن ناحية أخرى لم تعد المشكلة - حسب مفهوم الاتفاق - هي الاحتلال الإسرائيلي وإنما المشكلة هي مقاومة هذا الاحتلال. وثالثاً تقرر اميركا واسرائيل سياسات وخططاً تمس مصالح كل من مصر والاردن باعتبارهما «دول الجوار»، وهما دولتان معروفتان بصداقتهما للولايات المتحدة، من دون أي تشاور مسبق معهما. ورابعا: يمس هذا الاتفاق مصر بدرجة أكبر لأن مصر لها معاهدة أبرمها الرئيس الراحل أنور السادات مع إسرائيل في 1979. وفي تلك المعاهدة قبل السادات وضع قيود على أمن مصر في سيناء قيل وقتها إنها موقتة حتى تطمئن إسرائيل. والآن مضت 30 سنة وتحوّل الموقت إلى دائم وإسرائيل ترفض قيام مصر بدعم أمنها في شرق سيناء تحديداً بحجة أن هذا خرق للمعاهدة مع السادات.
والآن وبدلاً من البحث عن حلول حقيقية تعزز سيادة مصر فإن ذلك الاتفاق المفاجئ بين أميركا وإسرائيل يخصم أكثر وأكثر من سيادة مصر وكأن العرب جميعا أصبحوا مكلفين بحماية إسرائيل وغزواتها. وإذا كانت مصر أعلنت بأعلى صوت رفضها وجود أي قوات أجنبية، أو حتى مراقبين على أراضيها، فإن هذا يظل مجرد بداية لمواجهة إدارة أميركية مصممة على المضي في شرورها حتى بعد غيابها.