news

بين الإنكفاء والمواجهة

هذا نقاش هادئ مع من يفكّرون باختيار مقاطعة الانتخابات كواحد من ردود فعلهم بعد العدوان الاسرائيلي الهمجي على غزّة. لن أفترض أن الغضب وحده هو الدافع الى المقاطعة. لأنه لو كان كذلك، فلن يتسنّى أيّ نقاش. ولن أفترض أيضًا أنه يعود الى اليأس وحده.. بل سأفترض أن من يتّخذ هذا الموقف يعتقد بعد تفكير أنه يساهم بقراره هذا في دعم أهالي غزة وقضيتهم، وقضية الشعب الفلسطيني، شعبنا، عمومًا.
بناءً على ما سبق سأعرض موقفًا من عدة نقاط، أسعى من خلاله الى مناقشة عدد من الادعاءات الممكنة لدى من يفكّر بالمقاطعة على تلك الخلفية تحديدًا.

 

1. من يستعيد تسلسل الأحداث بشيء من التأنّي، سيلاحظ أن العدوان على غزة ترافق بحملة تحريض سلطوية على جماهيرنا العربية داخل اسرائيل. لم يأتِ هذا كسلوك سلطوي أوتوماتكيّ بل إنه ضمن سياسة مبرمجة. وقد تجلّت في الخطة البوليسية القمعيّة التي يمكن للمرء استشفافها من سياسة الاعتقالات الجماعية الواسعة، تصعيد وتيرة القمع العنيف، استعراض العضلات البوليسية على مداخل جميع بلداتنا، ومحاولات الشاباك بثّ الترهيب عبر استدعاء قادة وناشطين للتحقيق السياسي. بموازاة هذا تفشّت لهجة التهديد والوعيد لجماهيرنا بغية إسقاط الشرعية السياسية عن صوتها وموقفها، بهدف دفعها الى هوامش الإحباط. وكان هناك من تمنّى علانية ما يدور في رأسه المريض. مثلا: صرّح وزير الداخلية مئير شطريت بما يلي: "إذا تنافس العرب في الانتخابات، ولم يصوّت العرب لهم، فهذا سيكون انتصارًا ساحقًا لدولة إسرائيل"!

 

2. إذًا، هدف القوى الأشدّ تطرّفًا في الجهاز السياسي الاسرائيلي والمتمثّل بتقليص حضور ووزن جماهيرنا السياسي، هو هدف مُعلن. وهو يتجاوز أفيغدور ليبرمان الذي يلطّخ الجدران بشعار "لا مواطنة بدون ولاء" (المواطنين العرب للمؤسسة). فقد عبّر آخرون عن روح هذا التوجّه، بينهم بنيامين نتنياهو وتسيبي ليفني. هؤلاء يعون جيدًا ما يرمون إليه. يعون أن كل تراجع في الدور والوزن والتمثيل السياسي للمليون فلسطيني حَمَلة المواطنة، سيُضعف من وزن مطالبنا العادلة على مختلف المستويات. هناك تناسب طرديّ بين انكفاء الجماهير العربية السياسيّ وبين مدى الارتياح الذي سيعمّ السلطة الحاكمة. واجبنا كسر هذا التناسب بل قلبه رأسًا على عقب. ولا يقع هذا ضمن ردّة الفعل، بل هو الفعل بعينه.

 

3. تمثيل جماهيرنا السياسي، بما يشمل الكنيست، هو تعبير عن قرارها الحازم بعدم التنازل عن أيّة حلبة كفاحية. هذا التمثيل ليس للتزعّم ولا لمزاولة روائع الديمقراطية الاسرائيلية (ولا لتجسيد وطنيّتنا). بل إنه حاجة عمليّة حقيقية للدقّ على طاولة السلطة التشريعية الاسرائيلية في كل مرة تتعرّض جماهيرنا للمظالم. هذا منبرٌ سيكون من غير الجديّ تجاهله بدواعي "اليأس". فنحن لا نذهب الى الكنيست لأننا ممتلئون ثقة بالمؤسسة الاسرائيلية، بل على العكس تمامًا. نحن نذهب اليها لأننا شديدو التشكّك الواعي بأهداف وغايات السياسة الرسمية، بحكم تجربتنا الطويلة، ومن واجبنا الحفاظ على اليقظة وعلى التّماس المباشر مع المخاطر وفضحها وصدّها.

 

4. لا يخفى على أحد مدى تعقيد وضعيّة جماهيرنا، كجزء من وضعيّة الشعب الفلسطيني شديدة التعقيد. نحن لم نخترّ مواطنة اسرائيل بل إنها جاءت علينا كنتاج لسيرورة تاريخية معينة. لم نقبل بهذا مجّانًا، بل إنه الثمن (المُستحقّ ) لبقائنا في بلادنا ووطننا. برأيي، نحن الرابحون في هذه المقايضة. لأننا ربحنا البقاء في وطننا بدون الإنسلاخ عن شعبنا، لا في الدور السياسي ولا في الوجدان الوطني والانساني. هناك مجموعة ظروف تحكمنا بشكل مختلف عن سائر أجزاء شعبنا. وهي ظروف تتطلّب منا إتقان خطواتنا والإمساك بوجهة سيرنا وجِهة مصيرنا. والسؤال: هل نلتزم عزلتنا السياسية بخمول ريثما تتغيّر إحداثيّات المشهد المعقّد؟ هل نترك مصيرنا لقدر مجهول كمن يعلّق آماله على الريح؟

 

5. من يريد معاقبة المؤسسة الاسرائيلية يجدر به إعلان وتأكيد حضوره بأسطع الألوان. أما الدخول في عزلة خامدةِ الصوت وخافتةِ الصدى فهو أشدّ ما يتمنّاه سياسو السلطة وأحزابها. فحين نخاطب هذه القوى بحقيقتنا، وحين نلطمها بحقيقة سياستها المؤلفة من استعلاء وعنصرية وقمع، لا نقوم بأسرلة ذاتنا. لا! حين نُصرّ على هذا فإننا ندقّ جدران الخزّان لإقلاق راحة من يريد سجننا عميقًا خلف أسوار التهميش. ولنخفّف من العواطف قليلا.. نحن لا نذهب للكنيست لتحقيق جوهر وطنيتنا، بل نذهب لمواجهة سياسية لا نملك ترف الخروج منها! فلنقرأ الصورة بمفاهيم العقل والتخطيط واليقظة. لأن هذا يرتبط بشتّى قضايانا، من "قسيمة العمار" و"الصحيّة" ومكان العمل، وحتى مساهمتنا في رجم الأجزاء المتبلّدة في الرأي العام الاسرائيلي بحقيقة هموم وحقوق شعبنا، كل شعبنا. ليست هذه أفكارًا للتلهّي بها، بل إنها بمثابة خطة عمل من واجب الجميع المشاركة في صياغتها وتنقيحها الدائم وترجمتها، معًا، الى ممارسة واعية وهادفة.

 

لن نتقدّم الى أي مكان إذا ما انقطعنا عن السياق السياسي الأوسع الذي نشكل جزءًا منه. قضيتنا هنا ليست قضية منفصلة عن سائر مركبات الصورة. لا يمكننا ادارة نضال مثمر اذا لم تبقَ عيوننا معلّقة على قضية شعبنا التي لا تنعكس تفاعلاتها على مستقبلنا فحسب، بل إنها المبلورٌ الأساس لحاضرنا وكذلك لمستقبلنا. ويبقى السؤال العقلاني البارد هو: هل نخدم بانكفائنا السياسي وعزلتنا الإرادية قضايانا وقضايا شعبنا، أم نجعل السلطة تتنفّس الصعداء براحة أكبر على هذه الهدية؟ هذا سؤال للنقاش، وسؤال للضمير