news

يوم لا يُنسى في حياتي

انه يوم النكسة اليوم المشهود الذي حَفر في أعماق ذاكرتي ما لم ولن أنساه أبدًا، كنت حينها طالبًا في الجامعة "العبرية" وكنت أعمل معلمًا في مدرسة "بيت صفافا" التابعة لوزارة المعارف الإسرائيلية في حينه، كنت أسكن القدس في دار إلى جانب "جمعية الشبان المسيحيين" ومقابل فندق "الملك داود" المشهور وكانت صاحبة البيت يهودية كرديّة تقول لي كلما أتت لأخذ إيجار البيت الشهري ومن شدّة إعجابها بي وبسذاجة ظاهرة: "خسارة إنّك مش يهودي". في صباح هذا اليوم الاثنين الخامس من حزيران (1967) خرجت من الناصرة بسّيارتي، وكان يرافقني الدكتور سامي دبيني الذي كان يدرّس "علم النفس" في الجامعة ويعلّم في بيت صفافا أيضا. وقبل أن نصل المدرسة في بيت صفافا، دخلت محطة الوقود في منطقة المالحة وتزوّدت بالبنزين للسيارة وشعرت في تلك اللحظة وأنا أستمع للراديو ان الجو مكهرب ومشحون وان ثمة شيء رهيب سيحصل، وصلنا المدرسة قبل الثامنة، ودخلت أحد الصفوف، وإذا بي أسمع صوت إطلاق مدافع من الجهة الأردنية في بيت صفافا نحو الحي المقابل في القدس الإسرائيلي، ذُعرنا جميعًا وعرفنا ان شيئًا بدأ يحدث، وحينها هرولنا نحو مكان الراديو وبدأنا نسمع الأخبار من "محطة إسرائيل" فعرفنا ان الحرب قد وقعت وان الاشتباكات بدأت بين إسرائيل وجيش الأردن من ناحية بيت صفافا، وان هجمات قد بدأت من طائرات "ميغ" مصرية وان الطيران العراقي بدأ يقصف في أجواء نتانيا، عندها بادرنا إلى الاتصال بالمسؤولين عن التعليم العربي في وزارة المعارف فَرَدّ علينا نائب مدير المعارف العربية مئير شماي، شرحنا له الوضع وان القنابل المدفعية تنزل من فوق رؤوسنا على حي "القطمون" في القدس، وأننا في خطر! وسألناه هل نصرف الأولاد للبيت؟ فردّ علينا بلهجته العراقية"، أستاذ، ماكو أوامر، عليكم ان تبقوا في المدرسة حتى تأتي لكم أوامر أخرى!" وأقفل الخط التلفوني.
تحت القصف المدفعي لم يكن لدينا أي خيار إلا "مخالفة الأوامر" وصرف الطلاب لبيوتهم، وأسرعت في حينها إلى سيارتي وركبتها وركب معي بعض المعلمات هاربين من المدرسة ومن ساحة المعركة، وكان اسم إحدى المعلمات التي ركبت معي "حبيبة"، وأثناء التنقل بين محطات الإذاعة وقفنا عند محطة كانت تبث أغنية "ست الحبايب" لفايزة أحمد وترددّ ست الحبايب يا حبيبة، حبيبة، حبيبة! ومن باب "شرّ البلية ما يضحك"، بدأنا نضحك على ترديد كلمة "حبيبة" وننظر إلى المعلّمة وفي الطريق انزلت المعلمات في محطات مختلفة، وبقيت لوحدي في السيارة، وتوجهت بها مسرعًا إلى الدار التي أسكنها لأخذ بعض الأغراض، وبعد أن خرجت من الدار مع الحقيبة الكبيرة اعترضتني سارة ليفي، صاحبة البيت، وطلبت مني إيجار البيت الشهري وكأنها ومن هول ما يحدث حولنا نسيت إنني كنت قد دفعت لها الإيجار في أول الشهر... حاولت افهامها، لكنها لم تفهم.. دخلت السيارة دون أن التفت إليها وأسرعت بها في طريقي نحو الناصرة.
أصدقكم القول، ومن هول ما شعرت به من عدم الأمان وفي طريق خروجي من القدس، صرت أتوقف عند محطات الباص وأعطي المجال للجنود الذين وقفوا هناك للركوب معي من أجل أن أشعر بشيء من الحماية، وعندما وصلنا إلى الرملة، وكان ركابي في السيارة يتجددون في الطريق، واحد ينزل وآخر يصعد. سمعنا صفارات الإنذار التي تنذر بهجوم متوقع للطائرات المصرية... فوقفت جانبًا، حسب الأوامر... ونزلنا من السيارة وانبطحنا تحت شجر الزيتون المحاذي للشارع وبقينا حتى سماع الصفارة التي تنذر بانتهاء الخطر، عدت إلى السيارة وعاد إليها من كان معي من الركّاب الجنود... وهكذا استمريت بسيارتي نحو الناصرة واذكر ان صفارة انذار أخرى سمعتها عند "نتانيا"، ففعلت نفس الشيء انا والركاب الذين كانوا معي وكانت الطائرات هذه المرّة عراقية، وعند "الخضيرة" توقفنا أيضًا وكانت الطائرات أردنيّة، وعند مخارج وادي عارة تجاه الناصرة وفي مداخل مرج ابن عامر، شاهدت من بعيد النيران تلتهم حقول القمح في أكثر من مكان، وقبل أن أصل العفولة وخلال سفري في الشارع المسمّى "شارع المسطرة" سمعت صوتًا غريبًا في موتور السيّارة، فأنزلتها إلى جانب الطريق وبين أشجار الكينا التي كانت على جانبي الشارع... أوقفت عمل الموتور "نظرت إلى ساعة الحرارة" فإذا بعقاربها تشير إلى الأحمر، عرفت ان الموتور "احترق"... وعرفت لاحقًا ان ما حدث للسيارة كان بسبب سيري طول الطريق ودون أن أشعر على "غيار واطي"... حاولت ان أشغل الموتور بعد انتظار عشر دقائق، فلم يشتغل وحاولت مرّة ومرّة دون جدوى، فقررت حينها أنا ومن كان معي في السيارة أن "نترجل" ونمشي تجاه العفولة...
أغلقت السيارة وتركت حقيبة الأغراض التي كانت معي فيها، ذهبت إلى محطة الباصات المركزية فلم أجد أي باص للناصرة، استمرّيت مشيًا على الأقدام إلى محطة الخروج من العفولة تجاه الناصرة، ووقفت هناك، وكنت أشير بيدي إلى أي تكسي يمرّ في الشارع وإلى أي وسيلة نقل أخرى في اتجاه الناصرة، وكانت السيارات تمر مسرعة دون توقّف إلى أن رأيت سيارة "تندر" لاحظ سائقها إني اشرّت إليه بالوقوف... فبدأ يرجع إلى الخلف حتى وقف أمامي وسألني "وين على الناصرة" قلت له "نعم" فقال تفضّل أصعد إلى السيارة، عرفت ان هذا السائق فيما بعد انه من قرى الزعبية ولم يكن يركب إلى معه أي شخص... وصلت معه إلى الناصرة وذهبت بسرعة إلى "دار عمي" أهل زوجتي ودخلت لأجدهم هناك واجمين مرتبكين، وكانت فرحتهم كبيرة برؤيتي التي أعادت لهم ولزوجتي الروح بعد ان كان عمّي أبو زوجتي يضرب كفًا على كفّ ويقول "راح محمد! راح محمد!". وجلسوا جميعًا فرحين بعودتي سالمًا وبدأنا نسمع البيانات الحماسية الصادرة عبر إذاعات دمشق وعمان والقاهرة، وصرنا نشعر بالنشوة عندما نسمع المذيع من إذاعة دمشق وهو يقول: لقد شارف الجيش السوري على طبريا، وسيصل إلى الناصرة، وسنتغلب على العدو قريبًا ونستعيد الأرض السليبة...! ولكم ان تتخيلوا ماذا حصل للعرب وكيف ان "نكسة" كبيرة وقعت، وانهم خسروا القدس وخسروا الضفة الغربية وخسروا قطاع غزّة، وكيف ان الجيش السوري قد تراجع في الجولان لتصبح فيما بعد أرضًا محتلة، في مجدل شمس ومسعدة وبقعاتا وعين قينيا وحتى مشارف مدينة القنيطرة.
بقي أن أذكر انه وبعد ثلاثة أيام، وبعد أن هدأت الأمور، فكرت أن أذهب إلى حيث تركت السيّارة لكنني لم أجرؤ، وذهبت إلى صاحب سيارة جر السيارات  المدعو أبو رمزي، وطلبت منه أن يقوم بالمهمّة بالمقابل، وكان عمل ذلك يحتاج إلى تصريح من الحاكم العسكري للذهاب إلى حيث تركت السيّارة، قال لي أبو رمزي... "تعال معي! قلت له لا ولا ولا... قال لي: "يعني إنتي خايف"؟.
وكم كانت كبيرة فرحة أبي وأمي بعودتي إليهم سالمًا حين رجعت في اليوم الثاني إلى عين ماهل.