عند انتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام ،٢٠٠٦ دار نقاش (ما زال مستمراً) حول تقييم المعركة عنوانه رفض البعض (ممن راهن أو على الأقل سكت عن العدوان) في لبنان والعالم العربي، رفضه لفكرة انتصار لبنان بمقاومته وشعبه. وفي تبرير منطق »رفض الانتصار« هذا. لجأ هذا البعض الى تضخيم عوامل الدمار التي حصلت والخسائر البشرية التي دفعها اللبنانيون، وكأن المقاومة هي من دمرت أو قتلت جمهورها. وفي جانب آخر الى الخلط بين مهام المقاومة والدولة، بين الصمود الشعبي وعملية التثمير السياسي للإنتصار.
ولا تزال قوات العدو ترتكب المجازر وتستمر بالعدوان على غزة الطفل والمرأة والمقاومة والقضية، ولا زال النظام الرسمي العربي بأسوأ تعبيراته المتآمرة على القضية الفلسطينية يتذاكى لا لحماية شعب هذه القضية وأهل غزة بل بقصد أو بدون قصد، والأرجح بقصد، بل لعدم فرض تراجع العدو عن أهدافه المعلنة والمصاغة، كي لا يعتبر هذا التراجع انتصاراً للمقاومة... وهذا بالضبط ما جرى في المفاوضات السياسية، اللبنانية والعربية عام ٢٠٠٦ عندما كان الهاجس الأميركي المغطى من قبل بعض الأنظمة العربية التخفيف من ظل النكسة العسكرية للمشروع الاسرائيلي المعلن حينها، ولا ننفي أن الأميركي ومن تواطأ معه نجحوا عبر القرار ١٧٠١ في تخفيف وهج الانتصار اللبناني...
واليوم وعندما نعلن من جهتنا (كحاملين لفكر المقاومة بل وكمؤسسين له منذ ما قبل عام النكبة) انتصار المقاومة في غزة، ليس لأننا لا نقدر الثمن الغالي الذي دفعه أهل غزة وأطفالها ونساؤها، فالمقاوم في طبيعته هو الأكثر التصاقاً بالأطفال وبالفئات الشعبية التي تتألم وتجوع وينزف دمها، وتشكل هذه الفئات حمايته الطوعية والطبيعية... ولكننا فعلنا ذلك قبل انتهاء المعارك وقبل انعقاد القمم الرسمية (والتي قد لا ترى النور) وقبل الوصول الى اتفاقات لإنهاء القتال، نعلن ذلك لأننا نعرف »وظيفة المقاومة« ونميزها بطبيعتها عن »وظيفة الدولة أو الدول« ونعرف شروط تكاملها أو تعارضها مع السلطات السياسية القائمة على أرضها...
المقاومة، أية مقاومة، لا تستهدف الاحتلال، ولا كمهمة مباشرة في معظم الأحيان التحرير منفردة، بل أن مهمتها الأساسية هي منع الاحتلال والعدوان من تحقيق أهدافه وهذا واضح في الشكل والمضمون في الإسم والوطنية، وعندما يسعى البعض الى تزوير المفاهيم أو عندما يلتبس المفهوم عند أصحاب المقاومة في الحالتين يُساء الى وهج المقاومة ودورها. وليست المقاومة أو رموزها هم من يستثمرون غالباً عوامل ونتائج صمودهم، إلا في حالة انسجام وتكامل المقاومة في الداخل مع محيطها (دولتها أو الجوار الاقليمي)، (هكذا كان حال فيتنام طبعاً) أما في حالات أخرى فالقوى التي قاومت ليست هي القوى التي استثمرت (وحيدة على الأقل) نتائج هذا المقاومة، أليس مثال فرنسا الأوضح على ذلك... وحتى لا نبتعد أليس هذا الوضع هو الذي ساد لبنان في المرحلة الأولى من مقاومة الاحتلال عام .١٩٨٢
لم يدفعنا لليأس كمقاومين أبداً أن نرى المقاومين يلاحقون في بيروت بعد تحريرها عام ١٩٨٢ واستكملنا مقاومتنا للإحتلال في الجبل وفي الجنوب ولم يغزونا اليأس أن نرى أمين الجميل في صيدا بعد تحريرها والمقاوم الأول فيها يفقد عينيه وطفلته وجورج حاوي لا يستطيع دخولها بفعل قوى النظام اللبناني.
بكل بساطة المقاومة تنتصر عندما تمنع العدوان من تحقيق أهدافه وتمهد الطريق لبرنامج آخر قاعدته التحرير.
بهذا الفهم المتواضع والعلمي للمقاومة نعتبر أن غزة قد انتصرت على العدوان منذ الاسبوع الأول.
[[[
لقد حدد قادة العدو أهداف مجزرتهم، والمعلن السياسي يتكامل بأهدافه مع المضمر والتكامل مع السياسة الأميركية ـ الاسرائيلية والعربية المتواطئة... والهدف الرئيسي هو خلق ظروف ميدانية، تقتل الحلم الفسلطيني بدولة وطنية مستقلة تستعيد حقوق الشعب الفسلطيني وفي مقدمتها حقه في العودة الى أرضه وتحقيق نكبة جديدة تستكمل سابقتها عام .١٩٤٨
وربما من الأخطاء الملتصقة بطبيعة بعض القوى المؤيدة للمقاومة أنها، ومن دون تصد حتماً، تصب الزيت على نار العدو، عبر تصوير الاستهداف الرئيسي لتنظيم بذاته مهما بلغت أهميته داخل حركة المقاومة.
إن وحدة شعب غزة وتنظيماتها المقاومة والتفاف أهالي القطاع حول المقاومة بكل فصائلها، شكل رداً ميدانياً على استهداف العدو في ضرب وحدة هذا الشعب ولكن ذلك سيضيع إذا لم يستكمل بحوار وطني فلسطيني، يستعيد وحدة الشعب الفلسطيني بمكوناته المختلفة (غزة والضفة والشتات) على قاعدة برنامج مقاومة وعلى قاعدة استعادة الدور القيادي لمنظمة التحرير المطورة سياسياً وتنظيمياً في قيادة هذا المشروع.
وعلى المقلب الآخر، إن ردة الفعل الشعبية العربية، رغم قمع بعض الأنظمة لها، والمترافق مع العجز المستمر للنظام الرسمي العربي تشير بشكل واضح الى فشل الاستهداف الأميركي ـ الاسرائيلي في استبدال القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الاسرائيلي بتناقضات جديدة وبديلة ووهمية تعزز الدور الأميركي ـ الاسرائيلي وهيمنته على المنطقة وستتطرح حتماً ولو بعد حين، وبعد توافر برنامج تغيير حقيقي في العالم العربي »يجب على اليسار أن يستحق موقعه في القلب منه«.
نعم إنه الانتصار الذي تحقق، رغم كل النتائج الميدانية التي قد تستجد، ورغم ما قد يتسلل من حلول سياسية. وللمتباكين ذارفي دموع التماسيح على الأبرياء نذكرهم بأن شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا (دون مقاومة) كانوا أضعاف أضعاف الخسائر في صمود لبنان، وغزة حتى لا نذكر بالمجازر التي رافقت استسلام الأنظمة العربية عام النكبة الكبرى.
[ افتتاحية يكتبها الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني د. خالد حدادة لمجلة »النداء« وتنشر بالتزامن مع جريدة »السفير«