news

الطُّغاةُ يأكُلُون التَمْرَ والفقراء يُرجَمُون بالنَوَى


كتاب "الطَّاغية" من تأليف الأستاذ الدكتور "إمام عبدالفتاح إمام" بَسَطَ فيه درساً فلسفياً لصور من الاستبداد السياسي عبر حقب تاريخية مديدة. و لخطورة أفكار الكتاب وجرأتها طُبع مرات عدَّة وصادرت طبعاته وزارات الثقافة في الدول العربية حتى الطبعة الأولى المحترمة التي صدرت عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية رقم/183 / في مارس عام 1994 والتي لا نعلم عدد نسخها لم تصل هي الأخرى إلى معظم القراء العرب.
 يتساءل المؤلف في مقدمة كتابه: من يجرؤ على القول في حضرة "الطَّاغية" ما بقي متربعاً على كرسي الحكم؟ نعم، من يجرؤ على القول يا سادتي في عهد هتلر أو موسوليني أو فرانكو أو عدنان أو ياقوت؟ فإذا ما تنفس الناس الصعداء بعد زوال هذا "الطَّاغية" أو ذاك، نسوا، أو تعمدوا نسيان تلك الأيام السوداء التي عاشوها في ظله، وظنوا -واهمين- أنها ذهبت إلى غير رجعة. مع أن الأمر مختلف عن ذلك أتم الاختلاف، لأن طول ألفة الفرد مع "الطَّاغية" لم يعُد يجد -أي الفرد- معها حرجاً ولا غضاضة في الحديث اليومي عن إيجابياته وما فعله من أجلهم من جليل الأعمال. فحتى لو افترضنا صحة هذه "الإيجابيات الهائلة" فما قيمتها إذا كان ثمنها تدمير الإنسان وتحطيم قيمه وتحويل جماهير الشعب الغفيرة إلى جماجم وهياكل عظمية تسير في طول البلاد وعرضها منزوعة الضمير والوجدان، شخصيات تافهة تطحنها مشاعر الدونية والعجز، حقيرة النفس، منخورة العزيمة؟
في "النظريات السياسية القديمة والحديثة" هناك فكرة واحدة لا خلاف عليها هي أن حكم "الطَّاغية" هو أسوأ أنواع الحكم وأكثرها فساداً، لأنه نظام يستخدم السلطة استخداماً فاسداً، فينتج الفساد العام Corruption كما يسيء استخدام العنف ضد الموجودات البشرية والحيوانية والنباتية وحتى الجمادات التي تخضع له. وقد لا حظ أرسطو بحق أنه "لا يوجد رجل حر قادر على تحمل مثل هذا الضرب من الحكم ،إذا كان في استطاعته أن يهرب منه" فالإنسان الحر لا يتحمل مثل هذه الأشكال التعسفية من الحكم، إلا مرغماً، أي إذا سُدتْ أمامه كل أبواب الانعتاق. لذلك فإن عبارة أرسطو تُعبّر بدقة عن أولئك الذين يعشقون الحرية، ويمقتون العبودية، وينظرون إلى الطُّغيان على أنه تدمير للإنسان لأنه يُحيل البشر إلى عظام نخرة. والمستبد يرغب في أن تكون رعيته كالغنم دوراً وطاعة، وكالكلاب تذللاً وتملقاً، والمثل الصيني يقول: "ليس أمام الغنم اختيار عندما تكون بين براثن الأسد" ولا شك أن الاستبداد يهدم إنسانية الإنسان، والطُّغيان يُحيل البشر إلى عبيد، وإذا تحوَّل الناس إلى عبيد أو حيوانات مزعورة فقدوا قيمهم، فلا إخلاص، ولا ضمير، ولا وجدان، ولا أمانة، ولا صدق، ولا شجاعة، بل كذب، ونفاق، وتملق، ورياء، وتذلل ومداهنة ومحاولة للوصول إلى الأغراض والغايات من أحط السبل وأقذرها.
هكذا يتحول المجتمع في ظل "الطَّاغية" إلى عيون وجواسيس يرقب بعضها بعضاً، ويُرشد بعضها عن البعض. وليس بخاف ما نراه في الكثير من المجتمعات العربية من أخ يُرشد عن أخيه، وجار يكتب تقارير عن جاره، ومرؤوس يكتب زيفاً عن رئيسه. ومهما أنجز "الطَّاغية" من أعمال، ومهما قام من بناء ورقي جميل في ظاهره، فلا قيمة لأعماله، إذا يكفيه أنه دمَّر الإنسان. ولو فكرنا في الأمر لوجدنا أن حكم "الطَّاغية" هو السبب الحقيقي وراء تخلفنا الفكري والعلمي والاقتصادي، وأن الاستبداد هو المصدر الأساسي لكل رذائلنا الخلقية والاجتماعية والسياسية، لأن المواطن إذا فقد حريته الفردية، أعني وعيه الذاتي أو شخصيته المستقلة، وأصبح مدمجاً مع غيره في كتلة واحدة لا تمايز فيها كما هو الحال في قطيع الغنم فقد ضاعت آدميته في اللحظة نفسها، و قُتل فيه الخلق والابداع وانعدم الابتكار، بل يصبح المبدع إن وجد، منحرفاً والمبتكر شاذاً وخارجاً عن الجماعة. ومن ينظر في تكوين شخصية "الطاغية" ويسبر أغوار هذه النفس الآثمة يجد خواء يسده البطش...حقيرة هي نفس "الطَّاغية" التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان. 
(موقع الحزب الشيوعي السوداني)